الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
عليه، وهو الذي لا يتحول إلا متى تحولت الأمة كلها. (1) والحكيم قديرٌ على أن يشرح هذا في دروس، أو مقالات فائضة يتبع بعضُها بعضًا.
نعيمه والغاية القصوى منه:
نبَّه الله تعالى على أن فائدة المتعلم من علمه أمران مهمان:
أحدهما: تفقهه في نفسه الذي يرفع عنه رجسَ الجهالة، ويذيقه حلاوة الإدراك، ويخفف همه، ويعمر وقته، ويجيد عمله.
وثانيها: وهي الغاية العامة والمصلحة الشاملة، إنذارُ قومه وأمته الداخل تحت عموم قوله تعالى:{وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ} [العصر: 3]، وقول رسوله:"الدين النصيحة". [قلنا: لِمَنْ؟ قال: ]"لله، [ولكتابه]، ورسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم". (2)
إنذارُ القوم هو أن يبلغ لهم أمانة الله تعالى مما علمه على ما هو معتقد غير مداهن في ذلك، لاستجلاب بشاشة الكبراء، أو قضاء مألوف العامة. بل الذي أوجبه الله تعالى أن ينذرهم بما علمه على ما اعتقده سواء أَرْضَى الأمةَ أم أسخطها، متذكرًا في ذلك قولَ رسوله الأمين في خطبة حجة الوداع:"ألا هل بلغت! اللهم فاشهد"، يكررها المرات. (3)
(1) هي تلك العلوم الأساسية التي تحفظ على الأمة كينونتها الثقافية وتوجه مسيرتها الحضارية وتحدد هوية أبنائها وتشكل الشخصية القاعدية لأجيالها المتعاقبة، وهي العلوم التي تدور في مجملها حول مسائل العقيدة والقيم والرؤية الكلية للكون والحياة والإنسان وعلاقته بالأبعاد والمستويات المختلفة للوجود التي ترتكز إلى وجود الله وتوحيده بوصفه خالق الكون وصاحب الأمر.
(2)
صحيح مسلم، "كتاب الإيمان"، الحديث 55، ص 44؛ سنن الترمذي، "كتاب البر والصلة"، الحديث 1925، ص 472. وقد جعل البخاري لفظ الحديث ترجمة لأحد الأبواب فقال:"باب قول النبي صلى الله عليه وسلم: الدين النصيحة لله ولرسوله ولأمة المسلمين وعامتهم". صحيح البخاري، "كتاب الإيمان"، ص 13. وما بين حاصرتين لم يورده المصنف.
(3)
صحيح البخاري، "كتاب المغازي"، الأحاديث 4403 - 4406، ص 747؛ ابن هشام: السيرة النبوية، ج 2/ 4، ص 191.
أما التصميم في الرأي فهو الذي يُفْشل المكابرين، ويركد ريح الحاسدين، والعاقبة بعدُ للمتقين. قال الله تعالى:{فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} [آل عمران: 146]. لسنا نطالبه أن يعض بالنواجذ على رأيه وإن كان خطأ؛ لأن هذه صفةُ المكابرة التي نتبرأ منها، والمجاحدة التي جاء الدين لإزالتها من نفوس الناس، ولكنا نرغب أن لا يرجع إلَّا إلى العلماء الحقيقيين، متى أرجعوه بالدليل.
ولا عليه أن لا تتقبل الأمةُ نصحَه وعلمه؛ فييأس من غاية سعيه، ويستَأْيِس أن قد خاب أملُه، ويرى أن لَمْ تبقَ فائدةٌ في تذكير قومٍ كالأنعام أو هم أضل سبيلًا، فموافقتُهم أولَى من مخالفتهم. يتأول أن الله ما أمر بالمجاهرة بالحق إلا لتحصل الغاية منها؛ فإذ قد انعدمت الغاية، كان الواجب أن نسعى في مرضاة قومنا، فنحصل - في الأقل - على لذة المصافاة، هذا هو سوء التأويل. إنَّ الإنذار بالحق يقذف في قلوب المنذرين علمًا إن خالفوه أصيب هواهم بالمرار من النكد، أو شكًّا يكشفه لهم ريب الزمان.
وتكرُّرُ الإنذار إن لَم ينفث في قلوب المنذرين ما أُمل منهم لا يعدم أن يصدر عن ازدواجه نشءٌ ربما يطبق تكاثفه المترقب جوَّ العقول ويمطر من مزنه على أرض قلوبهم الميتة، وليذكر ما أوصى الله به رسوله:{إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلَاغُ} [الشورى: 48]، وقوله:{لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ} [البقرة: 272]، وقوله:{وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ (55)} [الذاريات: 55]، [وقوله]:{فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ (94) إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ (95)} [الحجر: 94، 95]، [وقوله]:{وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ (97)} [الحجر: 97].
نظرًا لهذا المعنى حين علم الله تعالى عسرَ تحول الناس عن إلْفِهِمْ، وانقلابهم عن جهلهم، وشدة استمساكهم بضلالهم، ما حقق لنا سبحانه حصولَ الغاية، وهو أعلم بالحال، ولكنه جعلها في موضع الرجاء لا في موضع اليقين، فقال:{لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ} .
فإن قال قائل: من الذين يستمعون إلينا إذا كان العلم كمالًا، واشتاقت النفوس إليه، وأراد كلُّ أحد أن يضرب بسهمه فيه، حين يعلم بما وصفت حاله قبل من الرجس وسوء القصد، فبأي وسيلة يمكن أن نكشف عنها هذا الرجس مع قضاء حق الكون من اختلاف الآيات والأعمال؟ وكيف نستطيع أن نجعل العلماء صانعين سواء كنَّا مدبري أمرَ الأمة أم بالأقل أمرَ أنفسنا وأبنائنا ومَنْ يهمنا الأمرُ بحالهم من أصفيائنا؟ !
فجوابنا أن طريقة ذلك أن يسعى معلموهم في ثلاثة أمور إن تمت لهم.
الأمر الأول: أن يقذفوا في قلوب الأمة جمعاء الإقناعَ بمبدإ واحد، وهو الشعور بأن تقدم أيِّ صناعة يتوقف على إتقان علم تلك الصناعة، وتنوُّرِ عقل صاحبها. فإتقانُ علمها شيء ثانٍ، وهو أن يمارس قواعدها، سواء كانت ممارسةً مدرسية كلية أم تجريبية جزئية تفيد الاطلاعَ على غوامض تلك المهنة. وتوسيعُ عقل الصانع وتنوره هو المرتبة الأولى، وذلك إعدادٌ من الله. غير أن الناس قادرون أن يسعوا فيه بوجه الجملة، من حيث إن الله أعدَّ كلَّ إنسان بما هو إنسان لتلقِّي الكمال والنقصان بحسب همته. وذلك بالأمرين التاليين، وعن ازدواج هذين تتولد ملكةُ الاختراع في سائر الأشياء.
الأمر الثاني: تعميمُ التعليم بين سائر أفراد الأمة، وجبرُ الناس عليه، لا بإخراج التلميذ من بيته إلى المدرسة كرهًا، ولكن باتفاق الأمة مع كبرائها على أن لا يُعتدَّ بأي رجل لم يكن مستكملًا للتعليم الابتدائي الذي يجب أن يشترك فيه سائرُ الأمة، فيلزّ الأب أو الابن في قرن هذا التكليف متى علم توقف مستقبله على التعليم.
أما تنشيط الكبراء وتعضيدهم للنابغين من أهل النشأة العلمية، فهو الباعثُ الأكبر على المسابقة في حلبة النظر. ولكنه - ويا للأسف - شيء لا ينشأ إلَّا عن معرفة مقدار كدِّ الأفكار. وكفى بلذة العلم منشطًا لأصحابه، وشاغلًا للقلب عن اطراحه دون عناية أمته واغترابه.
الأمر الثالث: أن يصلوا بتعميم التعليم إلى مبادئ العلوم المحتاج إليها، والتعود على النقد والمَيْزِ بقدر حاجة العامة، مع إبقاء مسلك تناجي منه الخطابةُ نفوسَهم، كي لا تنقطع منهم حاجةُ الإقناع في الأمور العامة، وأن ينهَجُوا أسهلَ طريقٍ لإيصالهم إلى غاية ذوق حلاوة العلم في الجملة.
وينجم عن ذلك مصلحتان:
إحداهما: تَمَتُّع الجميع بالعلم، وتيقظ البصائر من سِنَة الوهم والجهل، فيكونوا أهلًا لإدارة أمورهم، وإدراك مصلحة جمهورهم.
وثانيتهما: أن يقدروا العلماء حقَّ قدرهم، ويشعروا بحاجتهم إلى تسليم أمر تربيتهم وإصلاح آدابهم وعلومهم وكتبهم إليهم، مع الانقياد إلى أوامرهم وجعلهم ولاةَ أمرهم ومشورتهم، حتى تكون الأمةُ بوجود العالم الحكيم فيها حكماء، ويكون ما تراه من مصالحهم وفوائدهم سريعَ الانطباع في نفوسهم، فيسهل عليهم مطالبةُ الحكام منهم بتقويم أمورهم.
وبذلك يرقب الحاكمُ الأمةَ ويخشاها، وتأمن من اللهو عن مصالحها باتباع هواها، ويُكشف عن العلماء عذابُ محاولة إصلاحها، واصطياد هداها.