الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
تحقيق الخبر المأثور: "لا رهبانية في الإسلام
" (1)
شاع بين المحاضرين وأصحاب الأقلام من أوائل هذا القرن إيرادُ الأثر القائل: "لَا رَهْبَانِيَّةَ فِي الإِسْلَام"، وتنزيلُه على أحوال تنزيلًا لا يلائمه، فسلكوا به مهيعًا هو في واد والآخر في واد. فكان واجبًا تحقيقُ لفظ هذا الأثر وبيان معناه، ليكون الناظرُ فيه على بصيرة. هذا الخبرُ جزءٌ من حديث مرسل، رواه عبد الرزاق في كتاب الجامع له بلفظ:"لا خُزام، ولا زِمام، ولا سياحة، ولا تبتُّل، ولا ترهُّب في الإسلام". (2)
أخرج ذلك جلالُ الدين السيوطي في الجامع الصغير معزُوًّا إلى عبد الرزاق في كتابه الجامع، وقال إنه مرسل. (3) ووصْفُه بأنه مُرسَلٌ يقتضي أنه من قول النبي صلى الله عليه وسلم، إذ الحديثُ المرسل هو الذي يقول راويه الذي ليس صحابيًّا: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وروى هذا الأثرَ ابنُ الأثير في النهاية عن كتاب الغريبين للهروي مقتصرًا على لفظ "لا رهبانية في الإسلام"، ولم يسنده. فاحتمل أنه اختصر ما رواه
(1) جوهر الإسلام، العدد 2، السنة 2، شعبان 1389/ أكتوبر 1969 (ص 3 - 7).
(2)
الخزام بكسر الخاء شَعَر مفتول يصير كالعود في أنف البعير ليُقاد به، والزِّمام - بكسر الزاي - جعل زمام في الأنف يُقاد به، كان بعض بني إسرائيل يخرق أنفه ويعمل فيه زمامًا ليقاد به (أي إذلالًا لنفسه كأنه دابة). والسياحة الخروج إلى الفيافي للتعبد، والتبتل الانقطاع عن التزوج والترهب. والرهبانية هي التخلي عن أشغال الدنيا. - المصنف.
(3)
المناوي: فيض القدير، الحديث 9880، ج 6، ص 425. هذا ولم يزد المناوي شيئًا على ما قاله السيوطي.
عبد الرزاق بتغيير قليل بحذف واو العطف، واحتمل أنه حديثٌ آخرُ غير حديثِ عبد الرزاق (كتاب الغريبين للهروي ليس بأيدينا). (1)
وروى الزمخشري في الفائق: "لا زمام، ولا خزام، ولا رهبانية، ولا تَبَتُّلَ، ولا سياحة في الإسلام"، (2) ولم يعزه إلى راو، ولا إلى كتاب في الحديث. وهو مماثلٌ لما روي عن عبد الرزاق، مع مخالفة في ترتيب الخصال المذكورة فيه.
وقد جاء لفظ الرهبانية في قوله تعالى: {وَجَعَلْنَا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا} [الحديد: 27]، وضمير الرفع في قوله:"ابتدعوها" عائدٌ إلى "الذين اتبعوه" بمعنى الذين اتبعوا عيسى عليه السلام، أي أتباع ملته، وهم النصارى الذين جاؤوا بعده وبعد أصحابه الحواريين، فإن الرهبان ظهروا بعدهم، قال تعالى:{ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا} [المائدة: 82]. وتقديرُ نظم الآية فيه وجهان:
أحدهما أن التقدير "وابتدعوا رهبانية ابتدعوها"، فنصب رهبانية بفعل محذوف يدل عليه الفعلُ الذي بعده، الناصبُ لضمير رهبانية على طريق الاشتغال. وهذا ما اختاره أبو علي الفارسي والزجاج، ورجحه في الكشاف بتقديمه على مقابله. (3)
(1) ابن الأثير، مجد الدين أبو السعادات المبارك بن محمد: النهاية وغريب الحديث والأثر، نشرة بعناية أبي عبد الرحمن صلاح بن محمد بن عويضة (بيروت: دار الكتب العلمية، ط 2، 1423/ 2002)، ج 2، ص 255؛ الهروي، أبو عبيد أحمد بن محمد: الغريبين في القرآن والحديث، تحقيق أحمد فريد المزيدي (مكة المكرمة/ الرياض: مكتبة نزار مصطفى الباز، ط 1، 1419/ 1999)، ج 3، ص 797؛ الصنعاني، أبو بكر عبد الرزاق بن همام: المصنف، تحقيق حبيب الرحمن الأعظمي (بيروت: المكتب الإسلامي، ط 1، 1392/ 1972)، "كتاب الأيمان والنذور - باب الخزامة"، الحديث 15860، ج 8، ص 448.
(2)
الزمخشري، جار الله محمود بن عمر: الفائق في غريب الحديث، تحقيق محمد أبي الفضل إبراهيم وعلي محمد البجاوي (القاهرة: عيسى البابي الحلبي وشركاه، ط 2، 1971)، ج 2، ص 122.
(3)
الزمخشري: الكشاف، ج 4، ص 469.