الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
لا عزاء بعد ثلاث
(1)
تسير على الألسنة أقوالٌ تصادف هوًى من الناس، فتدفعهم الشهوةُ إلى قبولها، ويتلقونها تلقي النفس للمحبوب غير مصغية إلى عذولها. ثم تتسع بين العامة قددًا، ولا يتطلبون لها سندًا. ولربَّما كانت من قبل أن تتعلق بها الأهواء عاكفة في حجر الانزواء، وكذلك تراها إذا انصرفت عنها الأهواء تذهب كما يذهب الغثاء. ولقد يبلغ الغلوُّ في بعضر الأحوال فيكسو هذا القبول حليةً مشذورة؛ (2) إذ يجعل تلك الأقوالَ من السنة المأثورة. وبهذه العلة كثرت الأحاديثُ المشتهرة، التي نِسبتُها إلى الرسول الكريم مستَنْكَرة.
وفي عداد هذه الأقوال التي راجت كلمة "لا عزاء بعد ثلاث"، تناقلها الناسُ وظنوها من كلام الرسول صلى الله عليه وسلم، وفرَّعوا على هذه النسبة تفاريعَ وأحكامًا، ووقتوا المآتِمَ أوقاتًا وأيامًا. وليس هذا القولُ من كلام الرسول صلى الله عليه وسلم، وشواهدُ الغلط في نسبته إليه واضحة سندًا ومعنى.
أما من جهة السند، فهذا كلامٌ لم ينسبه إلى رسول الله ولا إلى أصحابه أحد؛ إذ لا يوجد له ذكرٌ فيما علمنا من كتب الحديث المعدة لإخراج الحديث الضعيف والتنبيه على الأحاديث الموضوعة، بله كتب الصحيح والحسن.
وأما من جهة المعنى، فهو غير مستقيم؛ لأن العزاء لغة هو الصبر، فيصير المعنى: لا صبر بعد ثلاث، أي ليال. وهذا معنى باطل؛ لأن الصبر بعد مضيِّ ثلاث
(1) المجلة الزيتونة، المجلد 3، العدد 2، ذو الحجة 1355/ فيفري [فبراير] 1937 (ص 59 - 61).
(2)
مشذورة، من الشذر، وهو قطعٌ من الذهب تُلقط من معدنه بلا إذابة، أو خَرَزٌ يفصَّل بها النظم، أو هو اللؤلؤ الصغار، وواحدته شذرة.
ليال أقربُ إلى الحصول منه عند حلول المصيبة أو في اليوم الأول، وهكذا ما زادت الأيام كان الصبر أمكن وأقرب. وفي الحديث الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"الصبر عند الصدمة الأولى"، (1) يعني الصبر الكامل، وإلا فالصبر مأمورٌ به ومثاب عليه في كل وقت، بقدر ما يَحملُ المصابُ نفسَه على دفع الجزع والحزن، وبقدر ما له من جزع وحزن مدفوعين.
فإن قيل: لعل المراد بقوله: "لا عزاء بعد ثلاث" أي: لا ثوابَ على الصبر بعد ثلاث، قلنا: هذا لا يستقيم؛ لأنه يصير الكلامُ إغراءً بالدوام على الحزن والجزع إذا فاتت ثلاثُ ليال قبل أن يحصل الصبرُ أو بعضُه، مع أن الحزن يعاود الحزين ولو بعد مدة طويلة، ولا يملك له دفعًا إلا بمعاودة الصبر. وقد عاود الحزنُ يعقوبَ عليه السلام بعد مدة طويلة، كما حكى الله عنه بقوله:{وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ} إلى قوله: {إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ} [يوسف: 84 - 86]، مع أنه صبر عند الصدمة الأولى؛ إذ قال حين أخبره أولاده بهلاك يوسف:{فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ (18)} [يوسف: 18]، وقال حين أخبروه بأسر بنيامين:{فَصَبْرٌ جَمِيلٌ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعًا} [يوسف: 83]. فثبت أن المعنى المفاد من كلمة لا عزاء بعد ثلاث معنى باطل.
ولا يصح أن يكون النفيُ في قولهم: "لا عزاء بعد ثلاث" مرادًا به النهي، مثل "لا وتران في ليلة"، (2) أي: لا تُعَزُّوا ولِيَّ الميت بعد ثلاث، أي: النهي عن تذكيره بواجب الصبر وترغيبه فيه بعد مرور ثلاث ليال على موته، كما يتوهمه الناسُ
(1) صحيح البخاري، "كتاب الجنائز"، الحديث 1302، ص 208؛ صحيح مسلم، "كتاب الجنائز"، الحديث 926، ص 331؛ سنن الترمذي، "كتابُ الجنائزِ عن رسولِ الله صلى الله عليه وسلم"، الحديث 988، ص 260.
(2)
عن قَيْسِ بنِ طَلْقِ بن عَليٍّ عَن أَبِيهِ قَالَ: سَمِعتُ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "لا وِترَانِ في لَيلَةٍ". سنن الترمذي، "أَبْوَابُ الوِترِ"، الحديث 470، ص 140. قال الترمذي:"هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ غريب".
فيسوقون هذا الكلامَ في هذا الغرض؛ لأنه لو كان ذلك المراد منه لقيل: "لا تعزيةَ بعد ثلاث"؛ لأن الفعل الذي يدل على هذا المعنى هو عزَّى المشدد. يقال: عزَّاه، أي جعله ذا عزاء، أي: صبر، مثل سلَّى. فيكون مصدره التعزية، مثل التسلية، ولم يُسمع في كلام العرب إطلاقُ لفظ العزاء على معنى التعزية. وبذلك يُجزم بأن لا تصح نسبةُ هذا الكلام إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأن فساد المعنى من علامات الوضع. فلو كان هذا الكلامُ قد رُوي حديثًا لعلمنا أنه موضوع، فكيف وهو لم يروه أحد؟
وأما بما سرى هذا الكلام إلى الأوهام، فهو سوءُ النقل وقلة التمييز؛ فإن أصلَ هذا القول هو كلامٌ مأثور عن الوزير يحيى بن خالد البرمكي أنه قال:"التعزيةُ بعد ثلاثٍ تجديدٌ للمصيبة، والتهنئةُ بعد ثلاث استخفافٌ بالمودة". (1) وهو كلامٌ نفيس مغزاه وجوب المبادرة بالتعزية والتهنئة؛ لأن في إيقاعهما بعد ذلك إدخالَ ضرر على أصحاب المصيبة، أو إيذانًا بقلة الابتهاج بحصول النعمة لِمَن حصلت له. وليس المراد ترك الأمرين بعد ثلاث؛ لأن ذلك أشد جفاء. فجاء بعض الضعفاء في الأدب فحرَّف لفظَ التعزية إلى لفظ العزاء، وقلب معنى التنبيه على الجفاء فصيره نهيًا، ثم عبر بصيغة نفي الجنس التي تُستعمل في النهي يظن نفسه قد نحى به منحى إيجاز الأمثال، وما آفة الأخبار إلا رواتها.
وقد توهم كثيرٌ من الناس في تونس بسبب هذا أن إقامةَ المآتم للميت هو أمر من السنة أخذًا بمفهوم العدد في مقالة "لا عزاء بعد ثلاث". فجعلوه شاهدًا شرعيًّا لبعض عوائدهم إقامةَ مأتَم يوم الدفن والمَأْتَم المُسمَّى بالفرق الأول - وهو ثالث
(1) القرطبي، أبو عمر يوسف بن عبد الله بن محمد بن عبد البر النمري: نزهة المجالس وأنس المجالس وشحذ الذاهن والهاجس، تحقيق محمد مرسي الخولي (القاهرة: الدار المصرية للتأليف والترجمة، 1962)، ج 2، ص 353. ويساق هذا الكلام كذلك مساق مثل من أمثال العرب بلفظ:"التعزية بعد ثلاث تجديدٌ للمصيبة، وإعادةٌ لفتح الجروح، والتهنئة بعد ثلاث استخفافٌ بالمودة". ويُنسب كذلك إلى علي بن أبي طالب رضي الله عنه.
يوم ليوم الدفن. وأبطلوا ما يُسمى بالفرق الثاني - الذي هو سادسُ يوم الدفن - وما يسمى بالزيادة الذي هو نهايةُ الأسبوع الثاني ليوم الوفاة، ومأتم الأربعين، ومأتم غلق العام. مع أن هذه العوائد مفعولها ومتروكها لا حظَّ لها في السنة، وما هي إلا من العوائد المبتدَعَة الجارية على أحكام البدعة الخمسة. (1) وهم وإن أحسنوا فيما أبطلوه منها، فهم لم يصيبوا في اعتقاد أن ما استبقوه هو من السنة.
هذا ولإكمال الفائدة في هذا الغرض نُلِمُّ بالمقصد الشرعي في باب التعزية؛ فإن من مقاصد الشريعة إبطالَ ما كان عليه أهلُ الجاهلية من إظهار الحزن والجزع عند المصيبة، ومن التظاهر به والمبالغة فيه والإعانة عليه. ولذلك ورد الوعيدُ الشديد على النياحة، وشقِّ الجيوب، ولطم الخدود، وحَثْوِ التراب، ورثاثة الحال.
وحكمةُ هذا التشريع الجليل الذي انفرد به الإسلام أن حلولَ المصائب بالإنسان من نواميس هذا العالم، وهي من مكاره الدنيا. فمن شأنها أن تَغُمَّ النفسَ وتُفْسِدَ المزاج، فينشأ عن أعراضها أدواءُ كثيرةٌ مضرتُها على صحة البدن محُقَّقة. ولذلك كان الجزاء عليها بالثواب الجزيل؛ لأن ما يصيب المؤمنَ من الرزايا يناله عليه الثوابُ حتى الشوكة يشاكها، كما ورد في الصحيح. (2) فإذا راضَ المؤمنُ نفسَه
(1) وذلك جريًا على ما قرره القرافي من أن الأعمال المبتدعة تنطبق عليها الأحكام التكليفية الخمسة من وجوب وحرمة وندب وكراهة وإباحة. القرافي، كتاب الفروق، ج 4، ص 1333 - 1335. وراجع مناقشة المصنف وتحقيقه القول في هذه المسألة في بحث "بيان وتأصيل لحكم البدعة والمنكر" في المحور الثالث من هذا المجموع.
(2)
من ذلك ما رواه عروة بن الزبير أن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما من مصيبة تصيب السلمَ إلا كفَّر الله بها عنه، حتى الشوكة يُشاكها"، وما رواه أبو سعيد الخدري وأبو هريرة رضي الله عنهما، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"ما يصيب المسلمَ من نَصَب ولَا وَصَبٍ، ولا همٍّ ولا حَزَن، ولا أذى ولا غم - حتى الشوكة يُشاكها - إلا كفَّر الله بها من خطاياه". صحيح البخاري، "كتاب المرضى"، الحديثان 5640 - 5641، ص 999؛ صحيح مسلم، "كتاب البر والصلة والآداب"، الحديثان 2572/ 49 و 2573، ص 998 (واللفظ للبخاري). (وغير ذلك من الروايات). وأصل ذلك هو قوله تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لَا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلَا نَصَبٌ وَلَا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا =
على الصبر وتلقِّي المصيبة بالجلد خفَّ مفعولُها في صحته ومزاجه، وإذا بالغ في الحزن وعاوده قويَ مفعولُ المصيبة فاشتدت الأعراضُ المنهِكة للبدن، والمسلم مأمور بحفظ بدنه.
على أن الجزعَ لا يُخفِّف الرزية، فكانت مضرةُ الحزن خالصةً غيرَ مشوبة بمصلحة. فلذلك لم يكن في تربيته عذر، وكانت مفسدتُه الخالصة قاضيةً بحكم التحريم، ولم يُرَخَّص إلا في العذر الْجِبِلِّي منه، كدمع العين وصعداء النفس. وحُرِّم غيرُ الْجِبِلِّيِّ منه تحريمًا شديدًا، كالنياحة والقول وهو دعوى الجاهلية. وفي الحديث الصحيح:"ليس منا مَنْ شقَّ الجيوب، ولطم الخدود، ودعا بدعوى الجاهلية". (1)
ولذلك كان إثْمُ مَنْ يجدِّد الحزنَ لأهل الميت شديدًا، مثل اللائي يُسعفن نساءَ الميت بالنياحة، وبذكر محاسنه، وتعظيم رزيته. وبعكس ذلك مَنْ خفف عن أهل الميت مصيبتهم، ففي سنن الترمذي وابن ماجه عن ابن مسعود مرفوعًا:"من عزَّى مصابًا فله مثلُ أجره". (وهذا الحديث غريب، تفرد به علي بن عاصم عن محمد بن سوقة. قال الترمذي: "وقد نُقم على علي بن عاصم، وتُكلم فيه لأجل هذا الحديث"). (2) وفي سنن ابن ماجه والترمذي عن محمد بن عمرو بن حزم مرفوعًا: "ما مِنْ مؤمِنٍ يعزِّي أخاه بمصيبة إلا كساه الله من حلل الكرامة يوم القيامة". (3)
= يَطَئُونَ مَوْطِئًا يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلَا يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلًا إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ إِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (120)} [التوبة: 120].
(1)
صحيح البخاري، "كتاب الجنائز"، الحديث 1294، ص 207؛ صحيح مسلم، "كتاب الإيمان"، الحديث 165، ص 57.
(2)
سنن الترمذي، "أبوابُ الجنائزِ عن رسولِ الله صلى الله عليه وسلم"، الحديث 1073، ص 279 (ولفظ كلام الترمذي:"هذا حديث غريب، لا نعرفه مرفوعًا إلا من حديث علي بن عاصم. وروى بعضُهم عن محمد بن سوقة - بهذا الإسناد - مثله موقوفًا، ولم يرفعه. ويُقال: أكثرُ ما ابتُلِي به علي بن عاصم، بهذا الحديث، نقموا عليه".)؛ سنن ابن ماجه، "كتاب الجنائز"، الحديث 1602، ص 228.
(3)
سنن ابن ماجه، "كتاب الجنائز"، الحديث 1601، ص 228. وهو ليس عند الترمذي، ولم يذكره ابن العربي في العارضة، ولعله نسبته إلى أبي عيسى زلة قلم من المصنف عليه رحمة الله.
وفي هذا التشريع حكمةٌ أخرى عائدة إلى الْخُلُق، وهي الارتياضُ على تلقِّي المكاره برباطة جأش وجلادة، حتى لا يذهب حلولُ المصائب بلب المسلم، ولا يملك سائرَ قلبه، فلا يهتدي للخلاص منها سبيلًا، فذلك من سمو الأخلاق. ولَمَّا كان الغالب في الجاهلية ظهور الحزن في النساء، خصَّ النساءَ بالنهي عن ذلك في أحاديث كثيرة، لا رُخصةَ في شيء منها لشيء من مظاهر الحزن المتعلقة بالذوات من فعل وقول سوى البكاء بلا صوت، وفيها رخصةٌ قليلة لما يتعلق باللباس في حديث النهي عن أضعف هذه الأحوال، وهو لبس السواد وترك الزينة، وهو ما روي في الموطأ وغيره:"لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تُحِدَّ على ميِّتٍ فوق ثلاثِ ليال، إلا على زوجٍ أربعةَ أشهرٍ وعشرًا"، (1) أي إذا كانت عدتها بالأشهر. وأما الحامل فتحد مدةَ الحمل؛ لأن عدتها وضعُ حملها، وذلك سدٌّ لذريعة التزويج في العدة حفظًا لحق الميت في إثبات نسبه.
ورخَّص النبِيُّ صلى الله عليه وسلم في البكاء بلا صوت مدةَ ثلاثة أيام، ففي كتاب أبي داود عن عبد الله بن جعفر أن رسول الله "أمهل آل جعفر (بن أبي طالب) ثلاثًا أن يأتيهم، ثم أتاهم فقال: "لا تبكوا على أخي بعد اليوم". (2) ورُوي أن الخنساء جاءت المدينة حاجة فدخلت على عائشة رضي الله عنها وعلى الخنساء صِدَارٌ من شعر أسود وهي حليقة الرأس، فقالت لها عائشة: "أخناس! قالت: لبيكِ يا أماه، قالت: أتلبسين الصدار وقد نُهِي عنه في الإسلام؟ فقالت: لم أعلم بنهيه". (3)
(1) الموطأ برواياته الثمانية، "كتاب الطلاق"، الحديثان 1382 - 1383، ج 3، ص 321 و 323 - 324؛ سنن أبي داود، "كتاب الطلاق"، الحديث 2299، ص 368. (وهو يرويه عن القعنبي عن مالك عن عبد الله بن أبي بكر عن حميد بن نافع عن زينب بنت أبي سلمة).
(2)
سنن أبي داود، "كتاب الترجل"، الحدث 4192، ص 657. وما بين قوسين إضافة من المصنف.
(3)
يقال إن الخنساء دخلت على عائشة رضي الله عنها فنظرت إليها (عائشة) وعليها الصدار، وهي حليقة الرأس، تدّب من الكبر على عصا، فقالت لها عائشة: أخناس! فقالت: لبيك يا أماه، قالت: أتلبسين الصدارَ وقد نهي عنه في الإسلام؟ فقالت: لم أعلم بنهيه. قالت: ما الذي بلغ بك ما أرى؟ قالت: موتُ أخي صخر، قالت عائشة: ما دعاك إلَى هذا إلا صنائع منه جميلة، فصفيها لِي. =
وبِهذا يُعلم أن جميعَ ما يفعله بعضُ الناس من تجديد ذكر الأحزان على الأموات والتجمع للبكاء في الأعياد ونحوها من المُحرَّمات شرعًا، وكذلك الحزنُ الذي يزعمُه العامةُ في يوم عاشوراء وما يليه حدادًا على الحسين بن علي رضي الله عنهما.
= قالت: نعم، إن لشعاري سببًا، وذلك أن زوجي كان رجلًا متلافًا للأموال، يقامر بالقداح، فأتلف فيها مالَه حتى بقينا على غير شيء، فأراد أن يسافرَ فقلت له: أقِم وأنا آتِي أخي صخرًا فأسأله. فأتيتُه وشكوتُ إليه حالَنا وقلة ذات اليد بنا، فشاطرنِي مالَه. فانطلق زوجي فقامرَ به فقُمر حتى لم يبق لنا شيء، فعُدتُ إليه في العام المقبل أشكو إليه حالنا، فعاد لي بمثل ذلك فأتلفه زوجي. فلما كان في السنة الثالثة والرابعة خلت بصخر امرأته فعذلته، ثم قالت: إن زوجها مقامر وهذا ما لا يقوم له شيء فإن كان لا بد من صلتها فأعطها أخسّ مالك فإنما هو متلف والخيار فيه والشرار سيان فأنشأ يقول لامرأته:
وَالله لَا أَمْنَحُهَا شِرَارَهَا
…
وَهيَ حَصَانٌ قَدْ كَفَتْنِي عَارَهَا
وَلَوْ هَلكْتُ خَرَّقَتْ خِمَارَهَا
…
وَاتَّخَذَتْ مِنْ شَعْرٍ صِدَارَها
ثم شطر ماله فأعطانِي أفضلَ شَطرَيْه. فلما هلك اتخذتُ هذا الصدار، والله لا أخلف ظنه، ولا أكذب قوله ما حييت". أنيس الجلساء في شرح ديوان الخنساء، جمع وتحقيق وشرح الأب لويس شيخو اليسوعي (بيروت: المطبعة الكاثوليكية للآباء اليسوعيين، 1896)، ص 20 - 21. وذكر محقق الديوان أن القصة المذكورة وردت في بعض مخطوطات الديوان، ولم أتمكن من توثيقها من كتب التاريخ والتراجم. وقد ساق القصةَ مختصرةً صاحبُ الخزانة، مع اختلافٍ في ألفاظ البيتين المنسوبين لصخر وصورتهما، دون ذكر لمصدرها. البغدادي، عبد القادر بن عمر: خزانة الأدب ولب لُباب لسان العرب، تحقيق عبد السلام محمد هارون (القاهرة: مكتبة الخانجي، ط 1، 1406/ 1986)، ج 1، ص 435 - 436. "والصِّدار ثوب رأسه كالمقنعة، وأسفله يغشي الصدر والمنكبين، تلبسه المرأة. قال الأزهري: وكانت المرأة الثكلى إذا فقدت حميمَها فأحَدَّت عليه لبست صِدارًا من صوف". ابن منظور: لسان العرب، ج 4، ص 447.