الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
مسألة خفية من مباحث الفلسفة الإسلامية: وحدة الوجود
(1)
ترى في كلام فلسفة الصوفية والمتشبهين بهم تردادَ هذه العبارة: عبارة "وحدة الوجود". وأحسب أن أكثر مَنْ يكتبها بقلمه، أو يلوكها بفمه، لا يغوص في حقيقتها إلا عن ثماد، أو يرتمي برواحل فهمه في كل واد. وقد ذاكَرَنِي فيها بعضُ الأعزة، فرأيته محبًّا لبيان حقيقتها، وله شيْمٌ (2) نحو موقع بريقها، قائلًا إنه تطلب مراجعتَها فلم يُلف مَنْ حققها. ولقد صدق فيما وصف، فإنِّي أيضًا لم أر مَنْ شفَى فيه غليلَ الطالب بما كشف، لذلك كتبت له هذه الورقات، وعسى أن تكون مُسيغةً لأفهام متعطشة وأخرى شَرِقَات.
إن للوجود حقيقةً متقررةً في نفس الأمر، وهي أمرٌ زائد على ماهية الشيء الموجود، إلا أنها لازمٌ بَيِّن لماهية الموجود، فكلُّ شيءٍ موجود فله وجود، ولولا وجودُه لم يكن موجودًا. فالوجود أمر متحقِّقٌ في نفسه؛ لأن ثبوتَ الوجود للماهية الموجودة فرعُ ثبوتِه في نفسه، فالوجود مع كونه ثابتًا للموجودات هو حقيقةٌ مطلقة جامعة لكل شيء، بناءً على أنَّ الشيء لا يُطلق إلا على الموجود. (3)
(1) الهداية الإسلامية، المجلد 10، الجزء 9، ربيع الأول 1357/ مايو 1938 (ص 517 - 522).
(2)
تطلع مع ترقب.
(3)
قال عضد الدين الإيجي وشارحُه الشريف الجرجاني في مبحث "المعدوم شيء أم لا" توضيحًا لهذه المسألة: " (فقال غير أبي الحسين البصري وأبي الهذيل العلاف) والكعبي ومتبعيه (من البغداديين من المعتزلة إن المعدوم الممكن شيء)؛ أي ثابت متقرر في الخارج منفك عن صفة الوجود". ثم قال بعد بيان الأساس الذي بنى عليه هؤلاء قولَهم بشيئية المعدوم: " (ومنعه [أي كون المعدوم شيئًا] =
فمعنى كونها حقيقةً أنها مفهومٌ كلّي؛ أي كلّي منطقي، ومعنى كونها مطلقةً أنها غيرُ متوقِّفةِ التعقل على تعقُّل حقيقةٍ أخرى، ومعنى كونها جامعةً لكل شيء أن كلَّ شيء (وهو الموجود) تتحقق معه هذه الحقيقة. فالموجود يتوقف تعقُّلُه من حيث إنه موجودٌ على تعقل حقيقة الوجود، والموجود عند وجوده تتحقق ماهيةُ الوجود؛ أي لا يصير الوجود كليًّا طبيعيًّا (1) إلا عند تحقُّق الموجودات التي هي أشخاصُه، كما هو شأنُ وجود الكلِّي الطبيعي؛ بمعنى وجود أشخاصه. وعلى هذا فوجودُ الشيء ليس عينَ الشيء.
ثم إن الوجودَ بمعناه الأصلي - أي مفهومه - لا تفاوتَ فيه؛ لأن حقيقته غيرُ ملاحَظٍ فيها العوارض. فالممكن موجود، والواجب موجود، ولا تفاوتَ بينهما في نفس الوجود بمعنى الثبوت المطلق، وهو الحقيقة الجامعة للأفراد. قال ابن سينا:"إطلاقُ الوجود على الواجب وعلى الممكن بحسب مفهوم واحد مشترك بينهما، وامتياز وجود الواجب بعدم عروضه للماهية ووجود الممكن بعروضه وصف عارض لماهيته"؛ (2) أي ماهية الوجود.
= الأشاعرة مطلقًا)؛ أي في المعدوم الممكن والممتنع جميعًا، فقالوا: المعدوم الممكن ليس بشيء كالمعدوم الممتنع (لأن الوجود عندهم نفس الحقيقة فرفعُه رفعها)؛ أي رفع الوجود رفع الحقيقة، فلو تقررت الماهيةُ في العدم منفكة عن الوجود لكانت موجودة معدومة معًا، فلا يمكنهم القول بأن المعدوم شيء. (وبه) أي بما ذهب إليه الأشاعرة (قال الحكماء) أيضًا، (فإن الماهية) الممكنة وإن كان وجودها زائدًا على ذاتها (لا تخلو عندهم عن الوجود الخارجي أو الذهني)، يعني أنها إذا كانت متقررة متحققة فهي موجودة بأحد الوجودين؛ لأن تقررَها وتحققها عينُ وجودها"، وذلك لأن "الشيئية عندهم تساوق الوجود". الجرجاني: شرح المواقف، ومعه حاشيتا السيالكوتي والجلبي، نشرة بعناية محمود عمر الدمياطي (بيروت: دار الكتب العلمية، ط 1، 1419/ 1998)، ج 1/ 2، ص 190 - 192. وانظر تفصيلَ رأي الحكماء في المسألة في ابن سينا: الإلهيات من الشفاء، تحقيق الأب قنواتي وسعيد زايد وتصدير إبراهيم مدكور (قم: منشورات ذوي القربي، 1428)، ص 30 - 36.
(1)
الكلّي الطبيعي هو معروضُ المفهوم الكلّي، والمفهوم الكلّي يُسمَّى الكلّي المنطقي. - المصنف.
(2)
لم أتمكن من الوقوف على هذا الكلام المنسوب للشيخ الرئيس، لا في الإشارات والتنبيهات، ولا في النجاة، ولا في إلهيات الشفاء، ولا في كتاب التعليقات، ولا في كتاب المباحثات، ولا في غيرها مما =
فبهذا الاعتبار يصحُّ أن نُطلق وحدةَ الوجود على معنى كون ماهية الوجود حقيقة واحدة غير متفاوتة في الماهية، وإنما تتفاوتُ في صدقها على أفرادها. ولذلك قال صاحب "المواقف" في مبحث الوحدة والكثرة:"إن الوحدة تساوق الوجود، فكلُّ موجود له وحدةٌ حتى الكثير". (1) هذا رأيُ الحكماء في الوجود.
أما المتكلِّمون فالذي سلكه الشيخ أبو الحسن الأشعري رحمه الله أن الوجود من الحقائق الاعتبارية غير الوجودية؛ لأنه لا تحققَ له في الخارج إلا تبعًا لتحقق الموجودات. والأمور الاعتبارية عنده ليست من الأمور الوجودية، بل هي من العدمية. ولذلك قال الأشعري: إن الوجود هو عين الموجود. ومعنى ذلك أن الوجودَ ومعروضَه - وهو الموجود - ليس لهما هويتان متغايرتان تقوم إحداهما بالأخرى، مثل السواد والجسم. بل الماهيةُ إذا كانت فكونُها هو وجودُها، لكنهما متغايران في التعقل؛ بمعنى أن للعقل أن يلاحظ الماهيةَ دون الوجود، وبالعكس، فلا يكون الوجود زائدًا إلا في العقل.
وتفرع عن ذلك أنه قال: إن إطلاق الوجود على واجب الوجود وعلى ممكن الوجود ليس بحسب مفهوم واحد، بل بحسب مفهومين مختلفين، اعتدادًا بالعوارض العارضة للوجود بحسب حالة الموجود. فوجودُ الواجب يفوت وجودَ الممكن بسبب تنزُّه وجودِ الواجب عن قيد اكتناف العدم به مبدأ ونهايةً، ووجودُ بعض الحوادث التي لا آخر لها كالأرواح وأهل الجنة يفوتُ وجود بعض الحوادث التي لها آخر، كموجودات هذا العالم. فعلى هذه الطريقة ليس للوجود وحدة. (2)
= أمكنني مراجعته من مصنفاته. هذا وانظر تحليلًا ضافيًا لمسألة الوجود في فلسفة ابن سينا في: آل ياسين، جعفر: فيلسوت عالم: دراسة تحليلية لحياة ابن سينا وفكره الفلسفي (بيروت: دار الأندلس، ط 1، 1404/ 1984)، ص 218 - 230.
(1)
الإيجي، عبد الرحمن بن أحمد: المواقف في علم الكلام (بيروت: عالم الكتب، بدون تاريخ)، ص 78؛ الجرجاني: شرح المواقف، ج 2/ 4، ص 21.
(2)
قال التفتازاني: "المنقول عن الشيخ أبي الحسن الأشعري أن وجود كل شيء عينُ ذاته، وليس للفظ الوجود مفهوم واحد مشترك بين الموجودات، بل الاشتراك لفظي. والجمهور على أن له مفهومًا =
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= واحدًا مشتَرَكًا بين الموجودات، إلا أنه عند المتكلمين حقيقةٌ واحدة تختلف بالقيود والإضافات، حتى إن وجود الواجب هو كونُه في الأعيان". شرح المقاصد، ج 1، ص 152 (وقد وقع تصحيف من مُعِدِّ هذه النشرة إذ جاء فيها "غير ذاته"، والصحيح ما أثبتناه). وقبله استقصى الرازي المذاهبَ في مسألة عينية الوجود وإشكالية العلاقة بين الوجود والماهية وقررها على النحو الآتي: "إنه من المعلوم بالضرورة أنا نصف واجبَ الوجود لذاته بأنه موجود، ونصف أيضًا ممكن الوجود لذاته بأنه موجود. فنقول: إما أن يكون وقوع لفظ الوجود على هذين القسمين بحسب مفهوم مشترك بين هذين القسمين، وإما أن لا يكون كذلك، بل يكون بحسب الاشتراك اللفظي فقط. فإذا كان الحق هو القسم الأول، فنقول: هذا القسم ينقسم إلى قسمين آخرين، وذلك لأن ذلك المفهوم المسمى بالوجود إما أن يقال إنه في حق واجب الوجود مقارنٌ لماهية أخرى، ويكون هذا الوجودُ صفةً لتلك الماهية ولاحقًا من لواحقها، وإما أن يقال إنه أمرٌ قائمٌ بنفسه، مستقلٌّ بذاته، من غير أن يكون صفة لشيء من الماهيات، ومن غير أن يكون عارضًا لشيء من الحقائق. فيثبت أن القول في وجود الله تعالى لا يمكن أن يخرج عن هذه الأقسام الثلاثة. فالأول: قولُ مَنْ يقول لفظ الموجود الواقع على الواجب لذاته وعلى الممكن لذاته لا يفيد مفهومًا واحدًا مشتركًا فيه بين القسمين، بل هو بحسب الاشتراك اللفظي فقط. والثاني: قولُ مَنْ يقول لفظ الموجود يفيد مفهومًا واحدًا، إلا أنه في حق واجب الوجود لذاته وجود مجرد، أعني أنه وجود بشرط كونه غير عارض لشيء من الماهيات، بل يكون وجودًا قائمًا بنفسه. وبهذا التقدير يكون وجود الله تعالى نفس حقيقته. والثالث: قولُ مَنْ يقول إن الوجود صفة من صفات حقيقة الله تعالى، ونعت من نعوت ماهيته، وبهذا التقدير فوجود الله غير ماهيته. وهذه الأقوال الثلاثة قد ذهب إلى كل واحدٍ منها عالم من الناس. فالأول: قولُ طائفةٍ عظيمة من المتكلمين، كأبي الحسن الأشعري وأبي الحسين البصري. والثاني: هو القول الذي اختاره أبو علي بن سينا في جميع كتبه. والثالث: قول طائفة عظيمة من المتكلمين، وهو الذي نصرناه في أكثر كتبنا". الرازي، فخر الدين محمد بن عمر: المطالب العالية في علم الإلهيات والطبيعيات، ج 1/ 1، ص 169؛ وقارن بكلامه في: المباحث المشرقية من العلم الإلهي، تحقيق محمد المعتصم بالله البغدادي (بيروت: دار الكتاب العربي، ط 1، 1410/ 1990)، ج 1، ص 97 - 138؛ وانظر كذلك الآمدي: أبكار الأفكار، ج 1، ص 260 - 261؛ الجرجاني: شرح المواقف، ج 1/ 2، ص 152 - 155. وانظر مناقشة ابن تيمية للمسألة في: الرسالة الصفدية، ص 525 - 547. وقال أبو البركات البغدادي بعد الكلام على الموجودات في الأعيان وأن الموجود منها إما أن يكون موجودًا بذاته وعن ذاته، وإما أن يكون وجوده وجب عن غيره ولم يجب له بذاته: "فإن قيل: فالوجود الذي هو صفة كل موجود من الموجودات الكثيرة الدائمة والزائلة أهو هذا الوجود البسيط الواجب بذاته أم غيره؟ فإن كان هو فكيف يكون الموجود المجرد الدائم الواجب بذاته صفة لغيره من الموجودات الواجبة الوجود وغير الواجبة الوجود والدائمة وغير الدائمة؟ وإن لم يكن هو وجود الموجودات الأخرى فالموجودات الأخرى غير موجودة ولا =
ويشبه أن يكون الخلافُ بين الأشعري والحكماء قريبًا من الخلاف اللفظي؛ لأنه ناشئٌ عن اختلاف الاصطلاح في تفسير الوجودي وفي تفسير الزائد، وليس هذا موضعَ تحقيقه، فنكتفي بالإشارة إليه. على أن هاتين المسألتين مما لا يؤثر في العقيدة، نلتزم فيها اتباعَ الأشعري رحمه الله، الذي جعلناه قدوتنا في أصول الاعتقاد، وقد خالفه في هاتين المسألتين كثير من أصحابه.
فلما نظر بعضُ الصوفية في كتب الحكماء والكلام، اختاروا طريقةً ثالثة هي مزيج من الطريقتين، وذلك أنهم أثبتوا وحدةَ الوجود؛ أي أخذوا بقول الحكماء في أن الوجود حقيقةٌ متحدة مستقلة عن حقيقة الموجود من حيث إنه موجود؛ أي أن وجود الشيء ليس عينَ ذلك الشيء. فارتقى بعضُهم - عن غلوّ أو عن سوء تحقيق - فجعلوا أو توهموا أن مظاهرَ الوجود غيرُ متمايزة بالعوارض. وحيث كان التمايزُ بالعوارض مُدْرَكًا بالضرورة ولا مندوحةَ لعاقل عن الجزم به، أبَوْا أن يعتبروه لئلَّا
= موجود غير هذا الواحد، فكيف تكون الموجودات غير موجودة أي غير متصفة بالوجود؟ فكيف يصح هذا النظر ويتحقق هذا المعنى؟ كان الجواب المحقق عن ذلك هو أن لفظة الوجود والموجود المقول على هذا الوجود الأول البسيط المعنى والهوية وعلى الوجود الذي هو ماهية ولها وجودٌ تتصف به، إنما يقال بالاشترك، فلا موجود على الحقيقة وبهذا المعنى إلا هو. وأما الموجود الذي وجوده صفة حاصلة لماهيته بغيره، فمعنى وجوده هو علاقته بهذا الموجود ونسبته إليه ومعيَّته وإضافته إلى هذا الأول، فهذا نوعٌ من التوحيد لا يُعقل في شيء من الآحاد إلا في هذا الواحد الذي هو الموجود الأول. . . فالوجود الذي تتصف به الموجودات المعلولة ويقال لها به إنها موجودة، غيرُ هذا الوجود القائم بذاته الذي معنى الصفة لموصوف بها، أعني الوجود والموجود واحد، ولفظة الوجود والموجود تقال عليهما باشتراك الاسم". البغدادي، أبو البركات هبة الله بن علي بن ملكا: الكتاب المعتبر في الحكمة (جبيل/ لبنان: دار ومكتبة بيبليون، 2007، تصوير عن الطبعة الأولى الصادرة عن دائرة المعارف العثمانية بحيدرآباد الدكن بعناية سليمان الندوي، 1358 هـ)، ج 3، ص 21 و 64 - 65. وانظر عرضًا مكثفًا ودقيقًا لآراء المتكلمين والفلاسفة في المسألة في: النابلسي، عبد الغني بن إسماعيل: الوجود الحق والخطاب الصدق، تحقيق بكري علاء الدين (دمشق: المعهد الفرنسي للدراسات العربية، 1995)، ص 59 - 60 (نقلًا عن شرح طوالع الأنور لشمس الدين محمود الأصفهاني).
يُفسد تفسير الوجود في نظرهم، فتخيلوا وجودَ غير الواجب عدمًا، وجعلوا الوجودَ منحصرًا في الوجود الواجب.
وكأنهم أحبوا أن يجمعوا بين طريقتَيْ الحكماء والأشعري بما يناسب طريقتَهم في التواضع واحتقار هذا العالم الزائل. ثم اختلفوا في شرح هذا المبدأ، فبعضهم شرحه بأن العبد إذا قرُب إلى الله بصفاء السريرة وزكاء النفس وصالح الأعمال، انْمحى عن نفسه وعن سائر الممكنات، فلا يرى موجودًا إلا الله، وسَمَّوا ذلك المقامَ بمقام الفناء. واستروحوا له بما ورد في الحديث القدسي في الصحيح:"ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها" إلخ، (1) فقالوا: إذا تحقق هذا الكونُ (الذي في قوله: كنت معه)، صار العبدُ لا يشعر بغير وجود الله.
وقد أشار إلى هذا المعنى الشيخ عبد السلام بن مشيش (2) في صلاته المشهورة
(1) صحيح البخاري، "كتاب الرقاق"، الحديث 6502، ص 1127، ولفظه:"إن الله تعالى قال: من عادى لي وليًّا فقد آذنته بالحرب، وما تقرب إلي عبدي بشيء أحب إلي مما افترضته عليه. وما زال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحِبَّه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، وإن سألني لأُعطينه، ولئن استعاذني لأعيذنه، وما ترددت عن شيء أنا فاعله ترددي عن نفس المؤمن يكره الموت وأنا أكره مَساءَتَه".
(2)
هو عبد السلام بن مشيش بن حيدرة بن محمد بن إدريس الأكبر بن عبد الله الكامل بن الحسن المثنى بن الحسن السبط بن علي بن أبي طالب وفاطمة الزهراء بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، شيخ الإمام أبي الحسن الشاذلي. ولد سنة 559/ 1198 في منطقة جبل العلم القريبة من مدينة تطوان بشمال المغرب. تعلم في الكتّاب فحفظ القرآن الكريم، ثم أخذ في طلب العلم. كان يعمل في فلاحة الأرض كباقي أهل بلدته، ولم يكن متكلًا على غيره في تدبير حياته، ويبدو أنه كان يقسم وقته بين أمور ثلاثة: طلب العلم والمعرفة، السهر على رعاية أسرته، والانشغال بالشؤون العامة كالجهاد، والعبادة والتبتل وقراءة الأوراد وسلوك طريق القوم حيث اختار المقام في الجبل الذي توفي به. من مشايخه في الدراسة العلمية الشيخ أحمد الملقب (أقطران) وهو دفين قرية أبرج قرب باب تازة، ومن مشايخه في التربية والسلوك الصوفي الشيخ عبد الرحمن بن حسن العطّار الشهير بالزيات. مات الشيخ ابن مشيش مقتولًا سنة 622 هـ. من أهم ما وصلنا من نصوصه: =
إذ قال: "وانشلني من أوحال التوحيد، وأغرقني في عين بحر الوحدة، حتى لا أرى ولا أسمع ولا أجد ولا أحس إلا بها". ولذلك غلا بعضُ الصوفية أو غلى (1) فقال: أنا الله، جلَّ الله عما يقول وعلا. وبعضُهم شرح وحدةَ الوجود بأن وجودَ الممكن وجودٌ مجازي وما هو بوجود؛ لأنه وجودٌ غير ذاتِيٍّ للممكن، ولكنه مُفَاضٌ عليه من واجب الوجود تعالى، فكأنه لا وجود. قال الشيخ محيي الدين ابن عربي في الباب السادس من الفتوحات في تقسيم المعلومات:
"ومعلوم ثان، وهو الحقيقة الكلية التي هي للحق وللعالم، لا تتصف بالوجود ولا بالعدم (أي لأنه ليس موجودًا كاملًا ولا هو معدوم أصلًا)، ولا بالحدوث ولا بالقدم، هي في القديم إذا وُصِفَ بها قديمةٌ، وفى المحدث إذا وُصِفَ بها مُحْدَثة. لا تُعْلمُ المعلوماتُ قدِيمُها وحديثُها حتى تُعلمَ هذه الحقيقة، ولا توجد
= "أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بسم الله الرحمن الرحيم، اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مَنْ مِنْهُ انْشَقَّتِ الأسْرَارُ، وَانْفَلَقَتِ الأنْوَارُ، وَفِيهِ ارْتَقَتِ الْحَقَائِقُ، وَتَنزَّلَتْ عُلُومُ آدَمَ فَأعْجَزَ الْخَلَائِقِ، وَلَهُ تَضَاءَلَتِ الْفُهُومُ فَلَمْ يُدْرِكْهُ مِنَّا سَابِقٌ وَلَا لَاحِقٌ، فَرِيَاضُ المَلَكُوتِ بِزَهْرِ جَمَالِهِ مُونِقَةٌ، وَحِيَاضُ الْجَبَرُوتِ بفَيْضِ أنْوَارِهِ مُتَدَفِّقَةٌ، وَلَا شَيْءَ إِلَّا وَهُوَ بهِ مَنُوطٌ، إِذ لَوْلَا الْوَاسِطَةُ لَذَهَبَ - كَمَا قِيلَ - المَوْسُوطُ، صَلَاةً تَلِيقُ بِكَ مِنْكَ إِلَيْهِ كَمَا هُوَ أهْلُهُ. اللَّهُمَّ إِنَّهُ سِرُّكَ الجْامِعُ الدَّالُ عَلَيْكَ، وَحِجَابُكَ الأعْظَمُ الْقَائِمُ لَكَ بَيْنَ يَدَيْك. اللَّهُمَّ أَلْحِقْنِي بنَسَبِهِ، وَحَقِّقْنِي بِحَسَبِهِ، وَعَرِّفْنِي إِيَّاهُ مَعْرِفَةً أَسْلَمُ بِهَا مِنْ مَوَارِدِ الْجَهْلِ، وَأكْرَعُ بِهَا مِنْ مَوَارِدِ الْفَضْلِ، وَاحْمِلْنِي عَلَى سَبِيلِهِ إِلَى حَضْرَتِكَ، حَمْلًا مَحْفُوفًا بِنُصْرَتِكَ. وَاقْذِفْ بِيَ عَلَى الْبَاطِلِ فَأدْمَغَهُ، وَزُجَّ بي فِي بِحَارِ الأحَدِيَّةِ، وَانْشُلْنِي مِنْ أوْحَالِ التِّوْحِيد، وَأغْرِقْنِي فِي عَيْنِ بَحْرِ الْوَحْدَةِ حَتَّى لَا أرَى وَلَا أَسْمَعَ وَلَا أجِدَ وَلَا أُحِسَّ إِلَّا بِهَا، وَاجْعَلِ الْحِجَابَ الأعْظَمَ حَيَاةَ رُوحِي، وَرُوحِهِ سِرَّ حَقِيقَتِي، وَحَقِيقَتِهِ جَامِعَ عَوَالِمِي، بتَحْقِيقِ الْحَقِّ الأوَّلِ. . يَا أوَّلُ يَا آخِرُ. . يَا ظَاهِرُ يَا بَاطِنُ. . اسْمَعْ نِدَائِي بِمَا سَمِعْتَ نِدَاءَ عَبْدِكَ زَكَرِيَّا. . وَانْصُرْنِي بك لَكَ، وَأَيِّدْنِي بِكَ لَكَ، وَاجْمَعْ بَيْنِي وَبَيْنَكَ، وَحُلْ بَيْنِي وَبَيْنَ غَيْرِكَ، (الله، الله، الله)، {إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ} [القصص: 85]، {رَبَّنَا آتِنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا (10)} [الكهف: 10] (ثلاثًا). {إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا (56)} ". التلمساني، محمد بن محمد المهدي: الإمام مولاي عبد السلام بن مشيش (بيروت: دار الكتب العلمية، 1427/ 2006)، ص 49.
(1)
غلا الأول من الغلُوّ، وغلى الثاني من الغليان، وكلاهما بالمعجمة. - المصنف.
هذه الحقيقةُ حتى توجد الأشياءُ الموصوفة بها، فإن وُجِد شيءٌ عن غير عدم متقدِّم كوجود الحق وصفاته قيلَ فيها موجود قديم لاتصافَ الحق بها، وإن وُجد شيءٌ عَن عدم كوجود ما سوى الله - وهو المحدث الموجود بغيره - قيل فيها محدثة. وهى في كل موجود بحقيقتها، فإنها لا تقبل التجزِّي، فما فيها كلٌّ ولا بعضٌ ولا يُتوَصَّلُ إلى معرفتها مجردةً عن الصورة بدليل ولا ببرهان. فمن هذه الحقيقة وُجِد العالَمُ بوساطة الحق تعالى، وليست بموجودة فيكون الحق قد أوجدنا من موجود قديم فيثبت لنا القدم. وكذلك لِتَعْلَمْ أيضًا أن هذه الحقيقة لا تتصف بالتقدم على العالم ولا العالم بالتأخر عنها، ولكنها أصلُ الموجودات عمومًا، وهى أصل الجوهر وفلك الحياة والحق المخلوق به وغير ذلك، وهى الفلك المحيط المعقول. فإن قلت إنَّها العالَم صدقت، أو إنَّها ليست العالَم صدقت، أو إنَّها الحق أو ليست الحق صدقت، تقبل هذا كله وتتعدد بتعدد أشخاص العالم، وتتنزه بتنزه الحق". (1)
وقال في الباب السابع والسبعين والمائة: "فلا وجودَ حقيقيّ لا يقبل التبديلَ إلا الله تعالى، [فما في الوجود المحقق إلا الله]، وأما ما سواه فهو الوجودُ الخيالي. . . فكل ما سوى الحق خيال حائل، وظل زائل". (2)
(1) ابن عربي، أبو بكر محيي الدين محمد بن علي بن محمد بن أحمد بن عبد الله الحاتمي: الفتوحات المكية، تحقيق أحمد شمس الدين (بيروت: دار الكتب العلمية، 1427/ 2006)، ج 1، ص 183 - 184. وقد جاء قبل هذا الكلام مباشرة قوله بخصوص واجب الوجود:"اعلموا أن المعلومات أربعة: الحق تعالى، وهو الموصوف بالوجود المطلق؛ لأنه سبحانه ليس معلولًا لشيء ولا علة، بل هو موجودٌ بذاته، والعلمُ به عبارةٌ عن العلم بوجوده، ووجودُه ليس غيرَ ذاته مع أنه غيرُ معلوم الذات، لكن يُعلم ما يُنسب إليه من الصفات؛ أعني صفات المعاني وهى صفات الكمال. وأما العلم بحقيقة الذات فممنوع، لا تُعلم بدليل ولا ببرهان عقليّ، ولا يأخذها حدٌّ، فإنه سبحانه لا يُشبه شيئًا ولا يشبهه شيء، فكيف يَعرفُ مَن يشبه الأشياءَ مَنْ لا يشبهه شيء ولا يشبه شيئًا، فمعرفتك به إنما هي أنه {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى: 11] {وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ} [آل عمران: 28]، وقد ورد المنع من الشرع في التفكر في ذات الله".
(2)
المرجع نفسه، ص 470.
وبعضُهم شرحها بسلوك مسلك الحلول، فزعم أن الله تعالى لَمَّا كان منزهًا عن الاستقرار في المكان، فهو حالٌّ في جميع الموجودات. ونقلوا عن بعض الحكماء أنه قال:"ذات الله وجوده المشترك بين جميع الموجودات، ويمتاز عن غيره بقيد سلبي وهو عدم عروضه للغير، فإن وجود الممكنات مقارِنٌ لِمَاهية مغايرة له". وإن كان عضد الدين في "المواقف" يقول عقب هذا: " [وهذا بطلانه ظاهر] ولم يتحقق عندي هذا النقل عنهم [أي عن الحكماء]، بل صرّح الفارابي وابنُ سينا بخلافه؛ فإنهما قالا: الوجودُ المشترك - وهو الكونُ في الأعيان - زائدٌ على ماهية الله تعالى بالضرورة، وإنما هو مقارِنٌ لوجود خاص". (1)
وعلى هذه الأنحاء كانت تأويلاتُهم لقوله تعالى: {هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ} [الحديد: 3]؛ فتأول كلُّ فريقٍ صيغةَ الحصر فيها بما يناسب فهمَه. وأنت لا يعسر عليك تصورُه وتقريرُه على حسب كل مذهب، وحسبُك بهذا البيان، فليس وراءه مطلب.
(1) الإيجي: المواقف في علم الكلام، ص 270؛ الجرجاني: شرح المواقف، ج 4/ 8، ص 21. هذا ولم أهتد إلى صاحب هذا القول من الحكماء الذين أشار إليهم الإيجي.