الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ومثلُه رُوِيَ عن مالك في التمهيد وفي المدارك لعياض. (1) وروينا عن عبد الله بن المبارك: "إن الإسناد من الدين، ولولا الإسنادُ لقال من شاء بما شاء". (2) وقال عبد الرحمن بن مهدي: "خصلتان لا يستقيم فيهما حسنُ الظن: الحكم والحديث". (3)
وعلى هذه الطريقة جرى الأئمةُ المشهود لهم بتمام الضبط، مثل أصحاب مالك، كعبد الله بن المبارك وابن مهدي، ومن أصحابهم كالإمامين البخاري ومسلم. وأنا أرى التحري أولَى بالمسلمين، فقد طفحت عليهم الروايات، فكانت منها أدواءٌ وطامات.
فإذا كنا متفقين في طريقنا من تغليب جانب التحرِّي، فالمراجعةُ سهلة، ولو لاح الخلافُ في أول وهلة. وإن كان كلٌّ ينحو إلى منهج من ذينك المنهجين، فالاختلافُ في الفروع تبعٌ للخلاف في الأصول، فلنتمسك بوثاق الود، ولا نهتم باختلاف الأوهام والعقول.
المراجعة التفصيلية:
ثم إن استقراء كتاب "فتح الملك العلي" بلغ بي إلى حصر مدارك الخلاف بيننا في ستة طرق مما سلكتموه:
الطريق الأول: أن كثرة الرواة عن أبي الصلت ترونَها موجبًا لتعديله، وأنا أرى أن كثرةَ الرواة عن المطعون فيه ليست بالتي تفلته من سهام الطاعنين. وأنتم تعلمون أن أهلَ الصحيح والحسن يتوقفون في الرواية عن أحد بقولهم "تُكلِّمَ فيه"، فكيف والذين روَوْا عن أبي الصلت كلُّهم متكلَّمٌ فيهم؟
(1) المصدر نفسه، ص 342؛ اليحصبي: ترتيب المدارك، ج 1، ص 123.
(2)
الخطيب البغدادي: الكفاية، ص 341.
(3)
المصدر نفسه، ص 207.
الطريق الثاني: جعلتم اشتهار أبي الصلت بالزهد والديانة شاهدًا لتعديله. وهذا لا أساعد عليه؛ إذ بين الديانة والعدالة بون. فقد قال مالك رضي الله عنه: "لقد أدركت سبعين رجلًا ممن يقول قال رسول الله صلى الله عليه وسلم عند هذه الأساطين - وأشار إلى المسجد - فما أخذتُ عنهم شيئًا، وإن أحدَهم لو اؤتُمِن على بيت مال لكان أمينًا، إلَّا أنهم لم يكونوا من أهل هذا الشأن". (1)
وروى ابنُ وهب عنه أنه قال: "أدركت بهذه البلدة [أي المدينة] أقوامًا لو استُقي بهم القَطرُ لَسُقُوا، قد سمعوا العلمَ والحديثَ كثيرًا، ما حدَّثْتُ عن أحد منهم شيئًا؛ لأنهم كانوا ألزموا أنفسَهم خوفَ الله والزهد. وهذا الشأن - يعني الحديث والفتيا - يحتاج إلى رجل معه تُقًى وورع، وصيانةٌ وإتقان، وفهمٌ وعلم، فيعلم ما يخرج من رأسه وما يصل إليه غدًا". (2)
وقال يحيى بن سعيد القطان فيما روى مسلم: "لم نر أهلَ الخير في شيء أكذبَ منهم في الحديث"، (3) يريد أنهم يكذبون عن توهم وغلط واختلاط في المسموعات، وحسن الظن بالرواة. وقال عبد الله بن المبارك في شأن عباد بن كثير:"كنت إذا ذكر في مجلس أثنيت عليه في دينه وأقول: لا تأخذوا عنه". (4)
(1) وتمامُ كلام الإمام مالك: "إن هذا العلم دينٌ فانظروا عمن تأخذونه". اليحصبي: ترتيب المدارك، ج 1، ص 123.
(2)
المصدر نفسه.
(3)
صحيح مسلم، المقدمة، ص 16. قال مسلم:"يقول: يجري الكذب على لسانهم، ولا يتعمدون الكذب".
(4)
قال مسلم: "وحدثني حجاج بن الشاعر حدثنا شبابة، قال: قال شعبة: وقد لقيت شهرًا فلم أعتدَّ به. وحدثني محمد بن عبد الله بن قهزاد من أهل مرو قال: أخبرني علي بن حسين بن واقد قال: قال: عبد الله بن المبارك: قلت لسفيان الثوري: إن عباد بن كثير مَنْ تعرف حالَه، وإذا حدث جاء بأمر عظيم، فترى أن أقول للناس لا تأخذوا عنه؟ قال سفيان: بلى. قال عبد الله: فكنت إذا كنتُ في مجلس ذُكر فيه عباد أثنيت عليه وأقول: لا تأخذوا عنه". صحيح مسلم، "المقدمة"، ص 16.
فإذا سلمنا أن أبا الصلت كان على جانب من التقوى والزهد، فلسنا بالذين نسلم أن ذلك كاف في قبول حديثه.
الطريق الثالث: الاحتجاج بتوثيق مَنْ وثق أبا الصلت، مثل الحاكم في المستدرك، ومثل ما نقل عن يحيى بنٍ معين. وأنا آخِذٌ في هذا بقاعدة تقديم الجرح على التعديل، إلا إذا كان المجرِّح شاذًّا جدًّا وكان متحاملًا، لا سيما وكثيرٌ من الذين جرَّحوا أبا الصلت طعنوه طعنًا عميقًا، كما ذكره الخطيب البغدادي في ترجمته، وكما ذكره أئمةُ الحديث عن أحمد بن حنبل والدارقطني وابن عدي في شأنه. (1)
وقد ثبت أن أبا الصلت كان يروي أحاديثَ في مثالب ملصقة بمن تثلبهم الشيعة من الصحابة، مثل أبي موسى الأشعري ومعاوية رضي الله عنهما، وذلك يدل على خبث تشيعه ورقة ديانته بدخول الفضول بين خيرة الأمة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأن الطعن في الصحابة إطلالٌ من كُوى الإلحاد في الدين ورفع الثقة بنَقَلَةِ الدين إلينا. فكيف تطمئن النفسُ للرواية عن مثله؟ ولا ينفعه مع هذه النزعة زهدُه وتقاه.
وفي الحديث وصفَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم قومًا فقال: "تَحْقِرون صلاتَكم مع صلاتِهم وصيامَكم في صيامهم، وأعمالكم مع أعمالهم، يقرؤون القرآن ولا يجاوز حناجرَهم، يمرقُون من الدين كما يمرق السهم من الرَّمية"، (2) وفي الحديث:"التقوى ههنا"، ويشير إلى صدره ثلاث مرات. (3)
(1) الخطيب البغدادي، أبو بكر أحمد بن علي بن ثابت: تاريخ مدينة السلام وأخبار محدثيها وذكر قطانِها العلماء من غير أهلها ووارديها، تحقيق: بشار عواد معروف، (بيروت: دار الغرب الإسلامي، ط 1، 1422/ 2001، ج 12، ص 318 - 319، وص 321 - 322.
(2)
الموطأ برواياته الثمانية، "كتاب القرآن"، الحديث 521، ج 2، ص 147؛ صحيح البخاري، "كتاب المناقب"، الحديث 3610، ص 605 - 606؛ صحيح مسلم، "كتاب الزكاة"، الحديث 1064/ 147، ص 382 - 383.
(3)
عن أنس رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "الإسلام علانية، والإيمان في القلب"، قال: ثم يشير بيده إلى صدره ثلاث مرات. قال: ثم يقول: "التقوى ههنا، التقوى ههنا". الهيثمي: بغية الرائد، =
وقد جزم أحمد بن حنبل وابن عدي بأن أبا الصلت هو واضعُ حديث: "أنا مدينة العلم"، ونسبه لأبي معاوية. (1) أما ما يُنقل عن يحيى بن معين في شأن أبي الصلت فكلامُه فيه متناقض، كما ذكره الخطيب في التاريخ، (2) فلا يُعَوَّلُ على شيء من كلامه.
وههنا ملاحظة تتعلق بهذا الطريق وهي أنكم ذكرتم في صفحة 8 عن الدارقطني عن دعلج أن أبا سعيد الهروي سئل عن أبي الصلت فقال: نعم ابن الهيضم ثقة فقال: إنما سألتك عن عبد السلام فقال: نعم ثقة. اهـ.
والظاهرُ أن في النسخة تحريفًا؛ فإن الخطيب البغدادي في التاريخ في ترجمة عبد السلام بن صالح ذكر كلامَ الدارقطني عن دعلج ونصَّ جواب الهروي هكذا: "نعيم بن الهيصم (بالصاد المهملة) ثقة، قال سائلُه: إنما سألتُكَ عن عبد السلام، فقال: نعيم ثقة، ولم يزد". (3) فهذا إعراضٌ من أبي سعيد الهروي عن الجواب عن حال عبد السلام بن صالح الملقب بأبي الصلت. وليس في العبارة "نعم" حرف الجواب، بل هو نُعَيم اسم بصيغة التصغير، ونعيم هذا هروي، توُفِّي سنة 228.
الطريق الرابع: رأيتم أن هذا الحديث رُوِيَ من غير طريق أبي الصلت؛ إذ رواه محمد بن جعفر الفيدي عن أبي معاوية، وجعفر بن محمد البغدادي الفقيه عن
= "كتاب الإيمان"، الحديث 160، ج 1، ص 212. قال الهيثمي:"رواه أحمد وأبو يعلى بتمامه، والبزار باختصار. ورجاله رجال الصحيح ما خلا عليَّ بن مسعدة، وقد وثقه ابن حبان وأبو داود الطيالسي وأبو حاتم وابن معين، وضعفه آخرون".
(1)
ابن عدي الجرجاني، أبو أحمد عبد الله: الكامل في ضعفاء الرجال، ج 1، ص 311، ج 3، ص 201؛ ج 6، ص 302.
(2)
أبو الصلت هو عبد السلام بن صالح بن سليمان الهروي، توفِّيَ سنة 236 هـ. قال الخطيب بعد ذكر كلام يحيى بن معين فيه:"قلت: وقد ضعَّف جماعة من الأئمة أبا الصلت وتكلموا فيه بغير هذا الحديث"، ثم ساق ما قيل فيه. الخطيب البغدادي: تاريخ مدينة السلام، ج 12، ص 318 - 321.
(3)
المرجع نفسه، ص 322.
أبي معاوية، وعمر بن إسماعيل بن مجالد، وأحمد بن سلمة الجرجاني، وإبراهيم بن موسى الرازي، ورجاء بن سلمة، وموسى بن محمد الأنصاري، ومحمود بن خداش، والحسن بن علي بن راشد، وأبو عبيد القاسم بن سلام. وقد ذكرتُ في مقالي ما قيل في جعفر بن محمد، وفي رجاء بن سلمة، وفي أحمد بن سلمة، وفي عمر بن إسماعيل. فيبقى محمد بن جعفر الفيدي، وإبراهيم بن موسى الرازي، وموسى بن محمد الأنصاري، ومحمود بن خداش، والحسن بن علي بن راشد، وأبو عبيد القاسم بن سلام.
فأما محمد بن جعفر الفيدي فهو في ذاته ثقة، غير أن روايته لم تنقل إلينا بسند معروف حتى ننظر رجاله الراوين عن محمد بن جعفر الفيدي، ثم ننظر صيغة التحديث به عن أبي معاوية. إنما رأينا نقلًا نقله الخطيب في التاريخ عن ابن معين بغير سند أن الفيدي روى عن أبي معاوية، فالله أعلم بحال سنده.
وأما إبراهيم بن موسى فرواه عنه محمد بن جرير الطبري وقال: "إنه شيخ لا أعرفه، ولا سمعت منه غير هذا الحديث". (1) فهو إذن مجهولٌ لراويه، غريبٌ عنده، فلا يُعتد به. وهو غير إبراهيم بن موسى الرازي الملقب بالفراء وبالصغير، فذاك إمام جليل.
وأما موسى بن محمد الأنصاري، فقد روى حديث "أنا دار الحكمة". وقد ذكرتُ روايتَه في مقالِي في جملة رواياته، وبينتُ ما فيها. وفي رواته محفوظ بن بحر الأنطاكي، وقد قال فيه أبو عروبة:"إنه كذاب"، قاله الذهبي في الميزان. (2)
(1) الطبري، محمد بن جرير: تهذيب الآثار (نسخة إلكترونية في الموقع الإلكتروني "شبكة مشكاة الإسلامية"، بدون ترقيم الصفحات)، الحديث 1415، قال الطبري:"حدثني محمد بن إسماعيل الضراري، قال: حدثنا عبد السلام بن صالح الهروي، قال: حدثنا أبو معاوية، عن الأعمش، عن مجاهد، عن ابن عباس، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أنا مدينة العلم، وعلي بابها، فمن أراد المدينة فليأتها من بابها"، حدثني إبراهيم بن موسى الرازي - وليس بالفراء - قال: حدثنا أبو معاوية، بإسناده، مثله. قال أبو جعفر: هذا الشيخ لا أعرفه، ولا سمعت منه غير هذا الحديث".
(2)
ونص كلام الذهبي: "محفوظ بن بحر الأنطاكي: كذبه أبو عروبة". الذهبي، شمس الدين محمد بن أحمد: ميزان الاعتدال في نقد الرجال ويليه ذيل ميزان الاعتدال للعراقي، تحقيق علي محمد =
وأما محمود بن خداش والحسن بن علي بن راشد، فقد كفيتم القولَ فيهما إذ قلتم:"إن الراويين عنهما متهمان".
وأما أبو عبيد ففي الذين حدثوا عنه الجبريني، وهو من الضعفاء. وقد ذكرتم متابعةَ سعيد بن عقبة، ومتابعة عثمان بن عبد الله الأموي، وصرحتم كما صرحنا بقول ابن عدي فيهما، فلا يتكثر بهما.
الطريق الخامس: تعضيد هذا الحديث بالشواهد المعنوية مما يدل على فضائل علي رضي الله عنه. وإن فضل علي لا ينكره إلا جاهلٌ ضعيفُ الإيمان، فهو عند جمهور علماء الإسلام في الرعيل الأول من أفاضل الصحابة. واتفق أهلُ السنة قاطبةً على أنه يتلو في الفضل أبا بكر وعمر، واختلفوا في الثالث: فقيل عثمان، وهو قولُ الجمهور منهم وهو الأصح عن مالك، وهو الذي نتقلده. وقيل: الثالث علي، وقيل: هما سواء، وهو مرويٌّ عن مالك، فرضي الله عن جميعهم.
إنما الكلام في فضيلة خاصة، وهي أن يكون عليٌّ هو الطريق الواضح لعلم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهذا لا يكون إلا مِنْ نِحل الرافضة، كما بينته في مقالي. ويقوِّي التهمةَ المذكورة روايةُ الإصبغ بن نباتة لهذا الحديث أن رسول الله قال لعلي:"يا علي كذب مَنْ زعم أنه يدخلها من غير بابها"، فقد صرحت المكيدة بعد أن لوَّحت بها القرائنُ العديدة.
الطريق السادس: أن كثرةَ الروايات والطرق للحديث الضعيف تبلغ به مرتبةَ الحسن أو الصحة. وهذا إذا سلمناه، فإنما يُحتمل في الحديث الخفيف ضعفه. وأما الذي نحن بصدد الخوض فيه، فهو موضوعٌ أو شديدُ الضعف. فكثرةُ المتابعات لا تفيد (1)
= معوض وعادل أحمد عبد الموجود (بيروت: دار الكتب العلمية، ط 1، 1416/ 1995)، ج 6، ص 30 - 31 (الترجمة رقم 7089).
(1)
كذا في الأصل، ولعل الأولَى أن يقال: لا تعين أو لا تساعد، والله أعلم.
على أن نَمنع إطلاقَ القاعدة، كما يدل عليه كلامُ النووي وابن الصلاح. (1)
والخلاصةُ أن حالَ أسانيد هذا الحديث يمنع من إدخاله في حقيقة الصحيح وحقيقة الحسن، لفقدان شروطهما فيه، فيدور أمرُه بين الضعف والوضع.
(1) قال النووي: "ويدخل في المتابعة والاستشهاد رواية مَنْ لا يُحتج به، ولا يصلح لذلك كل ضعيف". السيوطي، جلال الدين: تدريب الراوي في شرح تقريب النواوي، تحقيق أبو قتيبة نظر محمد الفاريابي (بيروت: مؤسسة الريان، ط 1، 1426/ 2005، ص 202. وقال ابن الصلاح:"اعلم أنه قد يدخل في باب المتابعة والاستشهاد رواية مَنْ لا يُحتج بحديثه وحده بل يكون معدودًا في الضعفاء. وفِي كتابَيْ البخاري ومسلم جماعة من الضعفاء ذكراهم في المتابعات والشواهد. وليس كل ضعيف يصلح لذلك". وقال أيضًا: "ليس كل ضعف في الحديث يزول بمجيئه من وجوه، بل ذلك يتفاوت: فمنه ضعف يزيله ذلك بأن يكون ضعفه ناشئًا من ضعف حفظ راويه مع كونه من أهل الصدق والديانة. . . ومن ذلك ضعف لا يزول بنحو ذلك لقوة الضعف وتقاعد هذا الجابر عن جبره ومقاومته، وذلك كالضعف الذي نشأ من كون الراوي متهمًا بالكذب أو كون الحديث شاذًّا". ابن الشهرزوري: علوم الحديث، تحقيق نور الدين عتر (دمشق: دار الفكر، ط 3، 1423/ 2002)، ص 34 و 84.