الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وقولنا: "مع تفويض التصرف في ألفاظها"؛ أي التفويض إلى النبي صلى الله عليه وسلم وإلى جبريل إذ كان هو المبلغ لها، مسوقٌ مساقَ التقسيم؛ لأن الأحاديثَ القدسية يجوز التفويضُ في عبارتها لجبريل أو للنبي صلى الله عليه وسلم.
صيغة رواية الحديث القدسي:
صيغة رواية الحديث القدسي حصرها ابن حجر الهيتمي في شرحه للأربعين في صيغتين:
إحداهما: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عن ربه، وهذه صيغةُ السلف، يعني أو ما يرادفها في حديث ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم فيما يحكيه عن ربه عز وجل قال:"أَيُّما عبدٍ من عبادي خرج مجاهدًا في سبيل الله" الحديث المتقدم آنفًا. (1)
الثانية: قال الله تعالى فيما رواه عنه رسوله.
فتُعتبر إحدى هاتين الصيغتين أو ما يرادفهما من الحديث القدسي. ويدل التتبعُ والاستقراء على أن الحديثَ الذي فيه تحاورٌ ومقاولةٌ بين الله وبعض عباده الأخيار أو الأشرار، لا يُعَدُّ حديثًا قدسيًّا، بل الحديثُ القدسيُّ ما هو حكايةُ قولِ الله وحده.
والذي يظهر من كتاب "الأحاديث القدسية" أن اللجنةَ التي دونته اعتمدت في حقيقة الحديث القدسي أنه كلُّ ما حُكِيَ فيه قولٌ محكيٌّ عن الله تعالى مطلقًا.
الفرق بين الحديث القدسي والقرآن وبينه وبين غيره من الأحاديث النبوية:
أما الفرق بين القرآن والحديث القدسي فظاهرٌ مما ذكرناه، وإنما الخفاءُ في الفرق بين أقوال النبي صلى الله عليه وسلم مما ينسبه إلى الله وبين غيره من كلامه، ذلك أن الكلام الصادر عن النبي صلى الله عليه وسلم في التشريع وأمور الدين محمولٌ عند الجمهور على أنه موحًى به إليه. قال ابن حجر الهيتمي في شرح الأربعين النووية: "واختلف في بقية السنة
(1) الهيتمي: المبين بشرح الأربعين، ص 374.
غير الأحاديث القدسية: هل هو كله بوحي أو لا؟ وآية: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى (3) إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى (4)} [النجم: 3، 4] تؤيد الأول". (1) وقال السيوطي في الإتقان في النوع السادس عشر: "إن جبريل كان ينزل بالسنة كما ينزل بالقرآن". (2)
وأقول: هذا هو الظاهر، كما يدل عليه حديثُ يعلى بن أمية أن رجلًا أتى النبي صلى الله عليه وسلم بالجعرانة وعليه (أي على الرجل) جبة وعليه أثر الخلوق فقال:"يا رسول الله، كيف ترى في رجل أحرم بعمرة، وهو متضمخ بطيب؟ فسكت النبي صلى الله عليه وسلم ساعة، فجاءه الوحي، فأشار عمر رضي الله عنه إلى يعلى، فجاء يعلى، وعلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ثوبٌ قد أظل به، فأدخل رأسه، فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم محمر الوجه، وهو يغط، ثم سري عنه، فقال: "أين الذي سأل عن العمرة؟ " فأُتِيَ بالرجل، فقال: "اغسل الطيب الذي بك ثلاثَ مرات، وانزع عنك الجبة، واصنع في عمرتك كما تصنع في حجتك". (3)
فهذا الإخبار عن حكم العمرة نزل فيه وحي، ولم ينزل فيه قرآن. وظاهر الحال يقتضي أن الوحي للنبي صلى الله عليه وسلم في تلك الساعة نزل لأجل جواب السائل عن العمل في العمرة. على أنه يحتمل أن يكون سؤالُ السائل صادف وقتَ نزول الوحي بقرآن، وأن تأخير جواب النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان لأجل الاشتغال بتلقِّي قرآن ينزل لا لترقب نزول وحي لجواب السائل، وهو احتمالٌ بعيد. ومسألةُ كونِ جميع الأحاديث موحًى بها مسألةٌ مبنيةٌ على الخلاف في وقوع الاجتهاد من النبي صلى الله عليه وسلم في الشرعيات. (4)
(1) المرجع نفسه، ص 373.
(2)
السيوطي: الإتقان في علوم القرآن، ج 1، ص 127.
(3)
صحيح البخاري، "كتاب الحج"، الحديث 1536، ص 249؛ وانظر كذلك "كتاب العمرة"، الحديث 1789، ص 288؛ "كتاب المغازي"، الحديث 4329، ص 732؛ "كتاب فضائل القرآن"، الحديث 4985، ص 893 - 894.
(4)
راجع في مسألة اجتهاد الرسول عليه السلام: عيسى، عبد الجليل: اجتهاد الرسول صلى الله عليه وسلم (القاهرة: مكتبة الشروق الدولية، ط 2، 1423/ 2003)؛ العمري، نادية شريف: اجتهاد الرسول صلى الله عليه وسلم (بيروت: مؤسّسة الرسالة والشركة المتحدة للتوزيع، ط 4، 1408/ 1987)؛ جاد الحق، جاد الحق علي: اجتهاد الرسول وقضاؤه وفتواه (القاهرة: نهضة مصر للنشر والتوزيع، 2008).
وبما تقرر تكون الأقوالُ التي ينطق بها النبي صلى الله عليه وسلم ثلاثة أنواع: أعلاها: وهو معلوم. (1) الثاني: الحديث القدسي وهو الذي بحثنا في شأنه، ولا بد فيه من نسبة قول إلى الله. الثالث: الحديث النبوي وهو ما عدا القرآن والحديث القدسي.
وقد تتبعتُ ما في كتاب الأحاديث القدسية للجنة القرآن والحديث، فوجدت ما يحق أن يُعَدَّ حديثًا قدسيًّا أربعةً وخمسين حديثًا، وفي أكثرها رواياتٌ ألغينا إثباتها. فنحو قول النبي صلى الله عليه وسلم في الصحيحين:"ينزل ربُّنا تبارك وتعالى كلَّ ليلة إلى السماء الدنيا - حين يبقى ثلث الليل الآخر - فيقول: مَنْ يدعونِي فأستجيبَ له؟ من يسألني فأعطيَه؟ من يستغفرني فأغفرَ له؟ "، (2) يشبه أن يكون قدسيًّا وليس بالقدسي؛ لأنه قولٌ إلهي متعلِّقٌ بأحوال قوم مَخْصوصين.
ونحو قوله في حديث الموطأ: "يتعاقبون فيكم ملائكةٌ بالليل وملائكة بالنهار، ويجتمعون في صلاة الفجر وصلاة العصر، ثم يعرج الذين باتوا فيكم، فيسألهم وهو أعلم بهم: كيف تركتم عبادي؟ فيقولون: تركناهم وهم يصلون، وأتيناهم وهم يصلون"، (3) ليس بقدسي؛ لأنه حكايةُ قولٍ من الله للملائكة، وليس قولًا يُرادُ تبليغُه، وإنما المراد تبليغُ القصة كلِّها بما اشتملت عليه.
ونحو حديث: "إن الله يرضى لكم ثلاثًا، ويكره لكم ثلاثًا"، (4) ليس بحديث قدسيٍّ؛ لأنه نسبةُ فعل إلى الله لا نسبةُ قول. وكذلك حديث: "كلمتان حبيبتان إلى
(1) يعني القرآن.
(2)
صحيح البخاري، "كتاب التهجد"، الحديث 1145، ص 183؛ "كتاب الدعوات"، الحديث 6321، ص 1099 - 1100؛ "كتاب التوحيد"، الحديث 7494، ص 1290؛ صحيح مسلم، "كتاب صلاة المسافرين وقصرها"، الحديث 758، ص 274.
(3)
سبق تخريجه.
(4)
جزء من حديث طويل عن أبي هريرة: "قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الله يرضى لكم ثلاثًا، ويكره لكم ثلاثًا، فيرضى لكم أن تعبدوه، ولا تشركوا به شيئًا، وأن تعتصموا بحبل الله جميعًا ولا تفرقوا. ويكره لكم قيل وقال، وكثرةَ السؤال، وإضاعة المال"". صحيح مسلم، "كتاب الأقضية"، الحديث 1715، ص 680.
الرحمان، خفيفتان في اللسان، ثقيلتان في الميزان: سبحان الله وبحمده، سبحان الله العظيم". (1)
وهذه أرقامُ الأحاديث التي يحق أن تُعَدَّ قدسية، وهي الأرقام المرقم بها في كتاب "الأحاديث القدسية" على ترتيبها مع إلغاء أعداد مختلف رواياتها. وهي أربعة وخمسون حديثًا: 10، 11، 13، 16، 19، 22، 25، 27، 30، 33، 34، 35، 36، 37، 42، 44، 45، 52، 62، 71، 72، 73، 74، 81، 113، 123، 134، 142، 144، 146، 152، 154، 155، 160، 162، 171، 179، 182، 198، 201، 218، 219، 224، 231، 234، 234، 236، 262، 264، 266، 271، 286، 294، 301.
(1) صحيح البخاري، "كتاب الدعوات"، الحديث 6406، ص 1112؛ "كتاب الأيمان والنذور"، الحديث 6682، ص 1154؛ "كتاب التوحيد"، الحديث 7563، ص 1505.