المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌شرف الكعبة (1) قال الله تعالى {إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ - جمهرة مقالات ورسائل الشيخ الإمام محمد الطاهر ابن عاشور - جـ ١

[ابن عاشور]

فهرس الكتاب

- ‌إهداء

- ‌فَاتِحَةُ الكِتَاب

- ‌بين يدي مقالات ابن عاشور ورسائله

- ‌تمهيد: أنا وتراث ابن عاشور:

- ‌محاولات سابقة لجمع مقالات ابن عاشور، ولكن

- ‌منهجنا في هذه الجمهرة جمعا وترتيبا:

- ‌شكر وعرفان ودعاء

- ‌ضميمة

- ‌المِحْوَرُ الأَوَّلفِي العَقِيْدَةِوَالتَفْسِيْر وَالفِكرِ وَالحِكمَةِ

- ‌الفَرْع الأَوّلالعَقيْدَة والتّفسِيْر

- ‌تنبيه ونصيحة

- ‌الرحمن على العرش استوى

- ‌[مقدمة]

- ‌[موقع الآية من المتشابه]

- ‌[طريقة السلف إزاء المتشابه]

- ‌[الخلف وتأويل المتشابه]

- ‌[رأي المصنف]

- ‌تكليم الله لموسى عليه السلام

- ‌وجهُ تسمية يوم القيامة بيوم التغابن

- ‌عصمة الأنبياء

- ‌القول الفصل - لا في الفضل - في عصمة الأنبياء من بعد النبوة ومن قبل:

- ‌قول عياض:

- ‌[الخلاصة]:

- ‌شفاعة محمد صلى الله عليه وسلم

- ‌معنى الشفاعة:

- ‌أنواع الشفاعة ومكانة الرسول عليه السلام منها:

- ‌مراجعة في تفسير قوله تعالى: {قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى}

- ‌المهدي المنتظر

- ‌[مقدمة]:

- ‌[مكانة حديث المهدي من تعاليم الإسلام]:

- ‌[مذاهب العلماء في المهدي]:

- ‌كيف نشأ القولُ بالمهدي المنتظر

- ‌[أنواع الآثار المروية في المهدي]:

- ‌الآثار المروية في المهدي:

- ‌الرأي في هذه الآثار من جهة علم الحديث:

- ‌الرأى فيها من جهة النظر:

- ‌الفَرْعَ الثَّانِيالفكْر وَالحكْمَة

- ‌من يجدد لهذه الأمة أمر دينها

- ‌[تمهيد]:

- ‌دعائم الإسلام:

- ‌معنى التجديد

- ‌مضي مائة سنة مظنة لتطرق الرثاثة والاحتياج إلى التجديد:

- ‌كيف يكون مبدأ تعيين المائة السنة

- ‌رأي ابن السبكي في نعت المجدد وزمنه:

- ‌رأي مجد الدين ابن الأثير في تعيين المجددين

- ‌التحقيق في صفات المجدد وصنفه وعدده:

- ‌التوسم في تعيين المجددين بحسب أدلة الحق المبين:

- ‌[المائة الأولى]:

- ‌[المائة الثانية]:

- ‌[المائة الثالثة]:

- ‌[المائة الرابعة]:

- ‌[المائة الخامسة]:

- ‌[المائة السادسة]:

- ‌[المائة السابعة]:

- ‌[المائة الثامنة]:

- ‌[المائة التاسعة]:

- ‌[المائة العاشرة]:

- ‌[المائة الحادية عشرة]:

- ‌[انحلال الجامعة الإسلامية وتزايد الفتن]:

- ‌[المائة الثانية عشرة]:

- ‌التقوى وحسن الخلق

- ‌شرف الكعبة

- ‌اللذة مع الحكمة

- ‌احترام الأفكار

- ‌العلم عند الله

- ‌تحصيله:

- ‌المقدم منه والمتعين:

- ‌خطته:

- ‌نعيمه والغاية القصوى منه:

- ‌مسألة خفية من مباحث الفلسفة الإسلامية: وحدة الوجود

- ‌ابن سينا والحكمة المشرقية

- ‌[تمهيد]:

- ‌أصل الحكمة اليونانية المنقولة إلى العربية:

- ‌طريقة الشيخ ابن سيناء في الحكمة:

- ‌الحكمة المشرقية:

- ‌الكتاب المعنون "منطق المشرقيين

- ‌الإنسان على الأرض

- ‌عمر الإنسان: ماذا أردت

- ‌أصول التقدم والمدنية في الإسلام

- ‌[مقدمة]

- ‌ما هو الإسلام

- ‌[التأسيسات الأصلية]

- ‌[وحدة النوع الإنساني: ]

- ‌ظهور الإسلام

- ‌واجب المسلمين أن يقتنعوا بهداية الإسلام

- ‌واجب المسلمين: النصيحة

- ‌ما هو النصح والنصيحة

- ‌اضطلاع الناصح بحق النصيحة:

- ‌قبول المنصوح للنصيحة:

- ‌الرفق بالحيوان في الإسلام

- ‌تحرير مسألة في علم الهيئة

- ‌المحْوَر الثّانِيفِي فِقْهِ السُّنَّةِ

- ‌الفَرْع الأَوّلفِقْه الحَدِيْث

- ‌التعريف بكتاب الموطأ للإمام مالك بن أنس رحمه الله ونشأة علم الحديث

- ‌[تمهيد]:

- ‌الاهتمام بتدوين ما صحت روايته عن رسول الله صلى الله عليه وسلم

- ‌الغرض من تأليف الموطأ

- ‌ما المراد بالحديث الصحيح

- ‌[نسخ الموطإ]

- ‌اسم كتاب "الموطأ

- ‌تحقيق مسمى الحديث القدسي

- ‌[تقديم]:

- ‌ تعريف الحديث القدسي

- ‌صيغة رواية الحديث القدسي:

- ‌الفرق بين الحديث القدسي والقرآن وبينه وبين غيره من الأحاديث النبوية:

- ‌مراجعة ما تضمنه كتاب "فتح الملك العلي

- ‌المراجعة الإجمالية:

- ‌المراجعة التفصيلية:

- ‌درس في موطأ الإمام مالك رضي الله عنه: "جامع القضاء وكراهيته

- ‌[تمهيد: القضاء بين الترغيب والترهيب]:

- ‌[العدل أساسُ صلاح العمران]:

- ‌[شرح الحديث]:

- ‌الأسانيد المريضة الرواية: "حديث طلب العلم فريضة

- ‌أقوال الحفاظ في رجال سنده:

- ‌آراء الحفاظ في حالته:

- ‌[روايات الحديث]:

- ‌التنبيه على أحاديث ضعيفة أو موضوعة رائجة على ألسنة الناس

- ‌خلق النور المحمدي

- ‌متن هذا الحديث:

- ‌مرتبة هذا الحديث من الصحة:

- ‌نقده من جهة اللفظ:

- ‌نقده من جهة المعنى:

- ‌دفع إشكال في حديث نبوي: "سألتُ ربي

- ‌سند هذا الحديث:

- ‌[معنى الحديث]:

- ‌حديث: من سُئل عن علمٍ فكتمه

- ‌[سند الحديث]:

- ‌معنى الحديث:

- ‌[مسائل في فقه الحديث]:

- ‌حديث: من لم يهتم بأمر المسلمين فليس منهم

- ‌سند الحديث واختلاف ألفاظه

- ‌معنى الحديث:

- ‌تحقيق الخبر المأثور: "لا رهبانية في الإسلام

- ‌معنى الرهبانية:

- ‌لا صفر

- ‌شهر رجب

- ‌شهر شعبان

- ‌لا عزاء بعد ثلاث

- ‌تحقيق معنى لفظ العزاء

الفصل: ‌ ‌شرف الكعبة (1) قال الله تعالى {إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ

‌شرف الكعبة

(1)

قال الله تعالى {إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ (96)} : [آل عمران: 96].

الغرض من هذه الآية بيانُ شرف الكعبة لوقوع هذه الآية عَقِب قوله تعالى: {قُلْ صَدَقَ اللَّهُ فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا} [آل عمران: 95]، وقبل قوله:{وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا} [آل عمران: 97]. فعلمنا أنها مسوقةٌ مساقَ الدليل لِمَا قبلها؛ لأن شأنَ الدليل أن يقعَ عقب المطلوب ومساقَ المقدمة لِمَا بعدها، وكلاهما مؤذِنٌ بالتعليل، والعلةُ أوضحُ دلالةً من المعلول، فكان ذلك مؤذنًا بتقرر شرف الكعبة.

وكلٌّ من الدليل والمقدمة طريقٌ في صناعة الخطابة لإثبات مقصود الخطيب. والاستدلالُ يكون بطريق التدليل والتعقيب، والمقدمة بطريق التصدير والتقديم، فالجمع في موقع هذه الآية بين الطريقتين من بلاغة القرآن وإعجازه الذي لَمْ أرَ مَنْ نَبَّه عليه.

وتصديرُ الآية بحرف التأكيد من دون تقدم إنكارٍ منكِرٍ ولا تردُّدِ متردِّد، تأكيدٌ مقصودٌ منه الاهتمامُ بالخبر. ومن شأن "إن" إذا جاءت لمجرد الاهتمام أن تُغنِيَ غناءَ فاء العطف وتفيدَ من التعليل والربط شيئًا عجيبًا، فيكون الكلامُ بها مستأنَفًا غير مستأنف، مقطوعًا موصولًا معًا، كما فصله الشيخ عبد القاهر في "دلائل الإعجاز"، ومثَّله بقول بشار بن برد:

بَكِّرَا صاحِبَيَّ قَبْلَ الْهَجِيرِ

إِنَّ ذَاكَ النَّجَاحَ فِي التَّبْكِيرِ

(1) المجلة الزيتونية، المجلد 1، الجزء 6، ذو الحجة 1355/ فيفري (فبراير) 1937 (ص 269 - 277).

ص: 223

وذكر قصة خلف الأحمر وأبي عمرو بن العلاء مع بشار في شأن هذا البيت. (1)

وإيقاعُ "إن" في أول هذه الآية أدخلُ في الإعجاز، بحيث نجد وقوعَها متعيِّنًا في بلوغ الكلام حدَّ الإعجاز؛ لأنها مفيدةٌ لتعليل ما قبلها، إذ هي بمنزلة فاء التفريع كما تقدم. وهي أيضًا مفيدةٌ مفادَ أداة الاستفتاح لِمَا فيها من معنى الاهتمام الذي يناسب صدر الكلام، ولذلك قال الشيخ عبد القاهر:"فأنت ترى الكلامَ بِها مستأنفًا غير مستانف، ومقطوعًا موصولًا معًا". (2) ولو وقعت الفاءُ في أول الآية لمَا صلُحت إلا أن تكونَ تفريعًا عما قبلها، فتفيدَ التعليلَ ولا تفيد الاهتمام، ولا تصلح الجملةُ حينئذ لأن تكون مقدمةً لِمَا بعدها. هذا وجهُ إفادة شرف الكعبة على وجه الإجمال، وسنجيئك بتفصيله من بعد بيان معنى الآية.

(1) والقصة التي إليها أشار المصنف هي كما ذكر الجرجاني: "رُوي عن الأصمعي أنه قال: كنتُ أشدو من أبي عمرو بن العلاء وخلف الأحمر، وكانا يأتيان بشارًا فيسلمان عليه بغاية الإعظام، ثم يقولان: يا أبا معاذ، ما أحدثتَ؟ فيخبرهما وينشدهما، ويسألانه ويكتبان عنه متواضعيْن له، حتى يأتيَ وقتُ الزوال، ثم ينصرفان. وأتياه يومًا فقالا: ما هذه القصيدة التي أحدثتها في سلم بن قتيبة؟ قال: هي التي بلغتكم. قالا: بلغنا أنك أكثرتَ فيها من الغريب. قال: نعم، قالا: أنْشِدْناها يا أبا معاذ، فأنشدهما [من الخفيف]:

بَكِّرَا صاحِبَيَّ قَبْلَ الْهَجِيرِ

إِنَّ ذَاكَ النَّجَاحَ فِي التَّبْكِيرِ

حتى فرغ منها، فقال له خلف: لو قلتَ يا أبا معاذ مكان "إن ذاك النجاح في التبكير"، "بكرا فالنجاح في التبكير"، كان أحسن. فقال بشار: إنما بنَيْتُها أعرابيةً وحشية، فقلت:"إن ذاك النجاح في التبكير"، كما يقول الأعراب البَدَويّون، ولو قلت:"بكرا فالنجاح"، كان هذا من كلام المُولَّدين، ولا يشبه ذاك الكلام، ولا يدخل في معنى القصيدة". دلائل الإعجاز، ص 272 - 273. وقد أورد القصةَ الأصفهاني من قبل بلفظ مختلف قليلًا: كتاب الأغاني، ج 1/ 3، ص 678. والبيت المذكور هو طالعُ قصيدة طويلة مدح بها بشارٌ سلم بن قتيبة الباهلي، والراجح أنه هنأه بها حين ولايته أميرًا على البصرة في خلافة المنصور. انظر ديوان بشار بن برد، جمع وتحقيق وشرح الشيخ محمد الطاهر ابن عاشور (القاهرة/ تونس: دار السلام ودار سحنون، ط 1، 1429/ 2008)، ج 2/ 3، ص 184 - 200.

(2)

الجرجاني: دلائل الإعجاز، ص 273.

ص: 224

قوله تعالى: {إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ} : "الأول" اسم يدل على السابق في حال من الأحوال، فإذا أُطلق فهو الأولُ المطلق، وذلك كما في اسمه تعالى "الأول". (1) وإذا أُضيف إلى اسمِ جنسٍ ظاهر أو مقدَّر فهو الأول في ذلك الجنس، كقوله تعالى:{مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ} [التوبة: 108]، (2) وقول الفرزدق:"ومُهَلْهِل الشُّعراء ذاك الأول"؛ (3) أي أول الشعراء. وقد يُطلق الأول ويُراد به السابقُ في الفضل والكمال في أحوال ما أضيف إليه، كقوله صلى الله عليه وسلم:"نحن الأولون السابقون يوم القيامة، بيد أنهم أوتوا الكتاب من قبلنا". (4) والأولية عند العرب من شعار التفضيل فيما يتنافس فيه المتنافسون، كما

(1) وذلك في قوله تعالى: {هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (3)} [الحديد: 3].

(2)

جزء من قوله تعالى: {لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ} [التوبة: 108].

(3)

ديوان الفرزدق، نشرة بعناية إيليا الحاوي (بيروت: دار الكتاب اللبناني ومكتبة المدرسة، ط 1، 1983)، ج 2، ص 323. وتمام البيت:

وَأَخُو بَنِي قَيْسٍ وَهُنَّ قَتَلْنَهُ

وُمُهَلْهِلُ الشُّعَرَاءِ ذَاكَ الأَوَّلُ

والبيت من قصيدة من سبعة وسبعين بيتًا من الكامل يهجو فيها الفرزدقُ جريرًا، وطالعها:

إِنَّ الَّذي سَمَكَ السَّمَاءَ بَنَى لَنَا

بَيْتًا دَعَائِمُهُ أَعَزُّ وَأَطْوَلُ

قال ابن قتيبة عند حديثه عن عدي بن ربيعة: "وسمي مُهَلْهِلًا؛ لأنه هَلْهَل الشعر، أي أَرَقَّه. وكان فيه خُنث. ويقال إنه أول مَنْ قصَّد القصائد، وفيه يقول الفرزدق"، ثم ذكر البيت. الدينوري: الشعر والشعراء، ص 168. والمهلهل هو عدي بن ربيعة بن الحارث بن مرة بن هبيرة، التغلبي، الوائلي، من بني جشم، من تغلب، تُوُفِّيَ سنة 531 م، أي قبل الهجرة بأربع وتسعين سنة. ويعرف أيضًا بالزير سالم، من أبطال العرب في الجاهلية. وهو جد الشاعر عمرو بن كلثوم لأمه ليلى بنت المهلهل، وذهب البعض إلى أنه خال الشاعر الكبير امرؤ القيس. ويقال إنه أول مَنْ قال الشعر، وكان قد عكف في صباه على اللهو والتشبيب بالنساء، فسمي "زير النساء"، أي جليسهن. ولمَّا قتل عمرو بن مرة - المعروف بجساس - أخاه وائل بن ربيعة الملقب بكليب، ثار المهلهل وانقطع عن الشراب واللهو إلى أن يثأر لأخيه، فكانت وقائع بكر وتغلب المعروفة بحرب البسوس التي دامت أربعين سنة، وكان للمهلهل فيها أخبار كثيرة.

(4)

لم أجده بهذا اللفظ والترتيب لكلمتي "الأولون" و"السابقون"، ولكن جاء بقريب منه عند مسلم، عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "نحن الآخرون الأولون (الآخرون السابقون) يوم القيامة، ونحن أولُ مَنْ يدخل الجنة. بيد أنهم أوتوا الكتاب من قبلنا، وأوتيناه من بعدهم، فاختلفوا، =

ص: 225

قال حسان في رثاء أبي بكر الصديق: "وَأَوَّلَ النَّاسِ حَقًّا صَدَّقَ الرُّسُلَا". (1)

ومن ذلك إطلاقُ العتيق عندهم على الشريف؛ إذ العتيقُ عندهم في الحقيقة هو القديم، والقديم شيءٌ أول. وقد فُسِّر به قولُه تعالى:{وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ} [الحج: 29]، والبيت محتجر من الأرض بحجارة أو بنسيج من ثياب الشعر يُتَّخَذُ للإيواء والسكنى، فإن كان من أدم فهو القبة. وقد يُطلق البيتُ على المسجد، بتقدير أنه بيت الله أو بيت الصلاة، قال تعالى:{فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ} [النور: 36]، وقال حكايةً عن إبراهيم عليه السلام:{رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ} [إبراهيم: 37]، وسموا المسجد الأقصى بيت المقدس.

ومعنى {وُضِعَ لِلنَّاسِ} أقيم واتخذ. وأصلُ الوضع في كلام العرب ضدُّ الرفع؛ يقولون: وضعتُ لك الشيءَ في محل كذا، أي قربته لك وهيأته، ثم استُعمِل بمعنى مطلق الجعل والإقامة. والناس: اسم جمع لطائفة من البشر، لا واحدَ له من لفظه في كلام العرب، فإذا دخل عليه حرفُ التعريف دلَّ غالبًا على الاستغراق الحقيقي نحو:{قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ (1)} [الناس: 1]. ويكون التعريف فيه للعهد أيضًا، نحو قول الخطيب:"أيها الناس"، يعني سامعيه، وقوله تعالى:{إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ} [آل عمران: 173] يعني قريشًا.

= فهدانا الله لِمَا اختلفوا فيه من الحق. فهذا يومُهم الذي اختلفوا فيه، هدانا الله له (قال يوم الجمعة). فاليوم لنا، وغدًا لليهود، وبعد غدٍ للنصارى". صحيح مسلم، "كتاب الجمعة"، الحديث 855 (20 - 21)، ص 306. وجاء عند البخاري بلفظ: "نحن الآخرون السابقون يوم القيامة. بيد أنهم أوتوا الكتاب من قبلنا، ثم هذا يومهم الذي فرض عليهم فاختلفوا فيه، فاختلفوا، فهدانا الله له، فالناس لنا فيه تبع، اليهود غدًا والنصارى بعد غد". صحيح البخاري، "كتاب الجمعة"، الحديث 876، ص 141. وانظر سنن ابن ماجه، "أبواب"، الحديث 4290، ص 625: عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ؛ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "نَحْنُ آخِرُ الأُمَمِ، وَأَوَّلُ مَنْ يُحَاسَبُ. يُقَالُ: أَيْنَ الأُمَّةُ الأُمِّيَّةُ وَنَبِيُّهَا؟ فَنَحْنُ الآخِرُونَ الأَوَّلُونَ".

(1)

هذا عجز البيت، وهو من قصيدة يرثي فيها أبا بكر الصديق. وفيه "منهم" بدل "حقًا". أما صدره فهو:"وَالثَّانِيَ الصَّادِقَ المَحْمُودَ مشهدُهُ". ديوان حسان بن ثابت، ج 1، ص 32.

ص: 226

وقوله تعالى: {لَلَّذِي بِبَكَّةَ} ، جاء بالموصولية دون أن يقول الكعبة - الذي هو عَلَم البيت الحرام - لزيادة الإيضاح؛ إذ قد اتخذت الحبشُ الكعبةَ اليمانية في صنعاء، فحجت إليها خثعمُ وبعضُ قبائل العرب. و"بكة" اسم البلد الذي به الكعبة، وهو مكة، فهو بالباء وبالميم في أوله. وقد ورد الاستعمالان معًا في القرآن، قال تعالى:{بِبَطْنِ مَكَّةَ} [الفتح: 24]. (1) والعرب يُبْدِلون الباء ميمًا وعكسه إبدالًا غير قياسي، ولا سيما مازن، يقولون: بَاسمك؟ أي: ما اسمك؟ وقد نبه على هذا الإبدال أبو علي القالي في أماليه، كقولهم: لازب ولازم، وقولهم أربد وأرمد. (2) وفي سماع ابن القاسم من العُتْبِيَّةِ أن مالكًا رحمه الله تعالى قال:"بكة بالباء اسمُ موضع الكعبة، وبالميم بقية البلاد". (3)

وقد اقتضت الآيةُ أن الكعبةَ أولُ بيت وضع للناس، وظاهِرُ هذا التركيب أنَّها أولُ بيت بُنِيَ للبشر. وقد تناولت أفهامُ المفسرين هذه الآية بتفاسير مختلفة، ونحن نشير إلى مجمل أقوالهم ثم نُتْبِعُها بما نختاره في تفسيرها. حمل قتادة ومجاهد والسدي وقليلٌ من المفسرين الآيةَ عَلى ظاهرها بجعل الأوليةِ حقيقية، والناس على عمومه. فأما مجاهد وغيره فقد أحسوا بأن في بني آدم مباني سابقةً الكعبة، فقالوا: إن أول مَنْ بنى الكعبةَ آدم، وكانت تُسمَّى الضُّرح (بضم الضاد المعجمة)، وأنه رُفع إلى السماء في وقت الطوفان فصارت الملائكةُ تطوف به وتسكنه في السماء، ثم بنى إبراهيمُ الكعبة في موضعه. (4)

(1) جزء من قوله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا (24)} [الفتح: 24].

(2)

القالي، أبو علي إسماعيل بن القاسم بن عيذون: كتاب الأمالي، ومعه ذيل الأمالي والنوادر كلاهما لها، تحقيق صلاح بن فتحي هلل وسيد بن عباس الجليمي (صيدا/ بيروت: المكتبة العصرية، 1427/ 2006)، ص 316 - 318.

(3)

ابن رشد: البيان والتحصيل، "كتاب الجامع الأول"، ج 17، ص 57.

(4)

انظر في هذه الأقوال وغيرها، الطبري: جامع البيان، ج 5، ص 591 - 594. وقريب منه ما ذكره ابن قتيبة، أبو محمد عبد الله بن مسلم: المعارف، تحقيق ثروت عكاشة (القاهرة: دار المعارف، ط 4، 1981)، ج 2، ص 559.

ص: 227

ولهم في ذلك أحاديث وقصص، قال الشيخ ابن عطية في تفسيره:"وقد رُويت في ذلك أقاصيص ضعيفةُ الإسناد تركتُ ذكرَها"، (1) وقال الفخر:"أنكر ذلك الباقلاني". (2) وعلى هذه القصص بنَى المعري قولَه:

وَقَدْ بَلَغَ الضُّرَاحَ وَسَاكِنِيهِ

نَثَاكَ، وزَارَ مَنْ سَكَنَ الضَّرِيحَا (3)

أما السدي فقال: كانت الكعبةُ "أولَ بيت وُضع في الأرض"، (4) ولم يلتفت إلى ما كان قبل ذلك من البنيان. وهذا القول غير مستقيم، فقد كانت قبل إبراهيم مبانٍ كثيرة، منها صرحُ بابل بني بعد الطوفان، ومنها بيتُ الأصنام في بلد الكلدان وهو البيت الذي دخله إبراهيم وكسر الأصنام التي فيه، كما أشار إليه القرآن وورد بيانُه في الحديث الصحيح. (5)

(1) أورد المصنف كلام ابن عطية مختصرًا، وتمامه:"ورويت في هذا أقاصيص من نزول آدم من الجنة، ومن تحديد ما بين خلقه ودحو الأرض، ونحو ما قال الزجاج من أنه البيت المعمور، أسانيدها ضعيفة، فلذلك تركتها". المحرر الوجيز، ج 1، ص 474. وكذلك قال الراغب الأصفهاني:"ومنهم من قال: أولُ موضع اتخذته الملائكةُ قبلة في الأرض، وروى في ذلك أخبارًا، وهذا لا يقتضيه الظاهر؛ لأنه قال: {وُضِعَ لِلنَّاسِ} فخُصَّ بالناس". تفسير الراغب الأصفهاني (من أول سورة آل عمران وحتى نهاية الآية 113 من سورة النساء)، تحقيق عادل بن علي الشدي (الرياض: مدار الوطن، 1424/ 2003)، ج 1، ص 730 - 731.

(2)

ليس هذا كلام الرازي بحرفه، وإنما هو مؤداه. الرازي: التفسير الكبير، ج 4/ 8، ص 126.

(3)

المعري، أبو العلاء: سقط الزند، نشرة بعناية أحمد شمس الدين (بيروت: دار الكتب العلمية، ط 2، 1428/ 2007)، ص 61. ومعنى النثا، ما أُخبِر به عن الرجل من حسن أو سيئ، وقصد الشاعر هنا الذكر الحسن لممدوحه. والبيت من قصيدة من بحر الوافر اسمها "تبوح بفضلك الدنيا"، كتبها المعري جوابًا للشريف أبي إبراهيم موسى بن إسحاق، وطالعها:

أَلَاحَ، وَقَدْ رَأَى بَرْقًا مُلِيحًا

سَرَى، فَأَتَى الْحِمَى نِضْوًا طَلِيحَا

(4)

وهو كذلك قول قتادة. الطبري: جامع البيان، ج 5، ص 592.

(5)

انظر ذكر القرآن لذلك في: الأنبياء: 57 - 58؛ الصافات: 91 - 93. وانظر ما رواه الطبري في ذلك عن السدي في: جامع البيان، ج 16، ص 295 - 297؛ تاريخ الرسل والملوك، ج 1، ص 237 - 239.

ص: 228

ورُوي عن علي رضي الله عنه أنه سُئل عن هذه الآية: أكانت الكعبةُ أولَ بيت؟ قال: "لا، قد كان قبله بيوت، ولكنه أول بيت وضع للناس مباركًا وهدى للعالمين ومن دخله كان آمنًا"، (1) فجعل الأوليةَ المقصودة هي المقيدة بالحالين "مباركًا وهدى". وأنا أستبعدُ صحةَ هذه الرواية عنه؛ إذ هو عربِيٌّ بليغ، وهذه الأحوال من خبر "إن"، ولا يجوز جعلُها أحوالًا من المضاف إليه؛ لأنه يقتضي الفصلَ بين الحال وصاحبه. وذلك يوجب اللبسَ بجعل "مباركًا" حالًا من "بيت"، تقييدًا للعامل وهو "أول". وفي رواية عنه أنه أولُ بيت وضع لعبادة الله، وهذا أحسن. (2)

ومن المفسِّرين مَنْ يجعل "أول" هنا بمعنى الشرف، (3) أي كقوله:"البيت العتيق". ومنهم مَنْ حمل "الناسَ" على خصوص العرب. وعن مجاهد ما يقتضي جعلَه أولَ بالنسبة إلى خصوص بيت المقدس. (4)

(1) قال الطباطبائي في معرض تفسير الآية موضوع البحث: "ليس هو أنّه أول ما بني على وجه أرض، كما قد يتوهمه البعض، بل المراد أول بيت وضع للعبادة والهدى والبركة للناس. وهذا ما وردت به الرواية عن علي أمير المؤمنين (ع) في ما نقله ابن شهر آشوب عنه في قوله تعالى: {إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ} الآية، فقال له رجل: هو أول بيت؟ قال: لا، قد كان قبله بيوت، ولكنه كان أولَ بيت وضع للناس مباركًا، فيه الهدى والرحمة والبركة، وأول مَنْ بناه إبراهيم، ثم بناه قوم من العرب من جُرهم، ثم هُدِم فبنته العمالقة، ثم هُدم فبنته قريش". الطباطبائي، محمد حسين: الميزان في تفسير القرآن (بيروت: مؤسسة الأعلمي للمطبوعات، 1411/ 1991)، ج 13، ص 407.

(2)

تفسير الراغب الأصفهاني، ج 1، ص 729.

(3)

قال الراغب: "ثم اختلفوا في معنى أول، فمنهم من اعتبر ذلك بالشرف، فكأنه قيل: أشرف بيت. وعلى ذلك قال مجاهد هو كقوله: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} . المرجع نفسه.

(4)

يشير المصنف بذلك إلى ما رُوي عن مجاهد أنه قال: "تفاخر المسلمون واليهود، فقالت اليهود: بيت المقدس أفضلُ وأعظمُ من الكعبة؛ لأنه مُهاجَرُ الأنبياء، وفي الأرض المقدسة. وقال المسلمون: بل الكعبة أفضل، فأنزل الله هذه الآية". النيسابوري: أسباب النزول، ص 115؛ القرطبي: الجامع لأحكام القرآن، ج 5، ص 207.

ص: 229

وهذه الأقوال راجعةٌ إلى التأويل: إما بتأويل لفظ "أول"، أو بتأويل معنى البيت، أو بتأويل معنى الوضع، أو بتأويل المراد بالناس، أو بتأويل نظم الآية. ولا حاجةَ بنا إلى استيعابها استدلالًا وردًّا، إذ ليس ذلك من غرضنا.

والذي أراه وأجزم به - في معنى الآية - أن القرآن كتابُ شريعة وهدى، وليس من أغراضه تأريخُ المباني ولا تأريخُ أطوار مساكن البشر، فلا يَعبأ بذكر المباني غير الدينية، ولا بذكر الهياكل الدينية الضالة، وأن الآية مسوقةٌ - كما بيَّنَّاه آنفًا - للاستدلال على وجوب اتباع ملة إبراهيم، معنيًّا بها الإسلامُ ووجوب الحج. فتعين أن يكون المرادُ من الأولِ الأولَ في النوع، وبالبيوت بيوتَ العبادة الحقة والهدى إلى الحق.

وذلك أن الله تعالى بعث الرسلَ قبل إبراهيم فدعوا إلى عبادة الله وتوحيده، وكانت الأممُ في ضلالتهم إذا أشركوا بالله أقاموا لِمعبوداتهم ولشركائهم تماثيلَ وهياكل، كما فعل قومُ نوح وقومُ إبراهيم الكلدانيون. وقامت الرسلُ تدعو إلى التوحيد بالقول، ولكنهم لم يُؤمر أحدٌ منهم بأن يقيم هيكلًا ينادي فيه لعبادة الله ولتوحيده، ويناغي بذلك تماثيل المشركين، ويردد ذلك على مسامع الناس. (1)

فلما بعث الله إبراهيم، أمره بإقامة هيكل لعبادة الرب الحق الواحد ليدافع بذلك تظاهر المشركين، قال تعالى:{وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَنْ لَا تُشْرِكْ بِي شَيْئًا وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ (26) وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ} [الحج: 26، 27]. فكان بناء الكعبة رمزًا للتوحيد، ولذلك قال [تعالى]:{أَنْ لَا تُشْرِكْ بِي شَيْئًا} [الحج: 26]، ثم قال:{وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ} [الحج: 26]؛ أي بالحج لله.

فاتخذ إبراهيم الكعبة ودعا الناس إلى الحج لعبادة الله الصادقة، فكان الحجُّ مجمعًا لأهل التوحيد يجددون ذكراهم ويدعون إليه من عداهم. وأقام ولده فيها

(1) انظر في شأن بيوت العبادة: الشهرستاني، أبو الفتح محمد بن عبد الكريم: الملل والنحل، ضبط أمير علي مهنا وعلي حسن فاعور (بيروت: دار المعرفة، 1421/ 2001)، ص 578 - 581.

ص: 230

داعيًا بعده، وجعل من ذريته سدنةً لذلك البيت، وأوصاهم بكلمة التوحيد وبثها، قال تعالى:{وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَابَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (132)} [البقرة: 132]، وقال:{وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (28)} [الزخرف: 28]. وبهذا المعنى يظهر وجهُ وصف البيت بأنه "هدى للعالمين"، كما سيأتي.

فالكعبةُ أولُ بيتِ توحيدٍ وُضع للناس، أي البشر؛ لأن واضع معابد الوحدانية هو إبراهيم عليه السلام، والكعبة أول مسجد وضعه إبراهيم. ففي صحيح مسلم عن أبي ذر رضي الله عنه قال:"سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم، أي مسجد وضع أول؟ قال: المسجد الحرام. قلت: ثم أي؟ قال: المسجد الأقصى. قلت: كم كان بينهما؟ قال: أربعون سنة". (1) ولا شك أن مراد رسول الله بالمسجد الأقصى المسجدُ الذي بناه إبراهيم هنالك، لا المسجد المعروف الذي بناه سليمان بن داود، ويكون مسجد سليمان مبنيًّا على موضع مسجد إبراهيم، فيندفع الإشكالُ عن الحديث. إذ قد ثبت في التوراة أن إبراهيم بنى مذابِحَ - أي مساجد - في كثير من البلاد التي مر عليها، وهذا ما تقتضيه الفقرة السادسة من الإصحاح 12 من سفر التكوين:"إن إبراهيم لمَّا مرّ بأرض كنعان بنى مذبَحًا لله في بلوطة مورة في مكان شكيم ومذبَحًا غربي بيت إيل". (2)

(1) صحيح مسلم، "كتاب المساجد ومواضع الصلاة"، الحديث 520، ص 195؛ صحيح البخاري، "كتاب أحاديث الأنبياء"، الحديث 3366، ص 564 والحديث 3425، ص 576.

(2)

الكتب المقدسة: كتب العهد العتيق، سفر التكوين، الفصل الثاني عشر، ص 15. هذا وقد جاء في نشرة عبد الملك ابن عاشور لتحقيقات وأنظار (ص 27) مباشرة بعد هذا الموضع الفقرة الآتية:"ويؤخذ من تاريخ ابن العربي والقديس إيروسيمرس أن ذلك في الجبل الذي بنَى عليه داود خيمتَه وبنى عليه سليمان هيكله، فيندفع الإشكالُ عن الحديث؛ إذ قد ثبت في التوراة أن إبراهيم بنى مذابح - أي مساجد - في كثير من البلاد التي مر عليها. وحقيقٌ من بينها بذلك البلد الذي أراه الله، ووعده أن يعطيَه ذريتَه بني إسرائيل. وإذ قد كان إسماعيلُ بِكْرَ أولاد إبراهيم، كان الوعدُ بإعطاء بني إسرائيل بلادَ الشام فظهر معنى الحديث أتم الظهور". وواضح أن في الكلام اضطرابًا بسبب تكرر بعض عباراته، إما عن سهو من المصنف أو تحريف من الناشر. وأما ما جاء فيه من ذكر تاريخ منسوب لابن العربي، فبين أنه خطأ، والصحيح "تاريخ ابن العربي"، وهو من تأليف =

ص: 231

وحقيقٌ من بينها بذلك البلدُ الذي أراه الله، ووعده أن يعطيه ذريتَه بني إسرائيل. وإذ قد كان إسماعيل بِكرَ أولاد إبراهيم، كان الوعدُ بإعطاء ذريته بلادَ العرب سابقًا على الوعد بإعطاء بني إسرائيل بلادَ الشام، فظهر معنى الحديث أتَمَّ الظهور.

وهذا الوجهُ فيه بقاءُ الأولية على ظاهرها، وبقاءُ لفظ "الناس" على ظاهر عمومه، وإبقاء نظم القرآن على ظاهره، دون صرف الأولية إلى أولية مقيَّدة بالحال أو بالنسبة إلى بيت المقدس، وليس فيه إلا تأويلُ البيت بأنه بيت العبادة الحق. وذلك تأويلٌ قريبٌ لشيوع إطلاق البيت على بيت العبادة، ولأن قرينةَ السياق تقرِّب هذا التأويل. ويكون مناطُ التشريف والثناء هو الخبر بأن الكعبة أولُ بيت؛ إذ الخبر هو محطُّ الفائدة، ويكون الحالان في قوله:{مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ (96)} زيادةً في تمجيده وتشريفه، وليس هما غرض المخبر؛ إذ ليس الحال عمدةَ الكلام، وكذلك ما بعدها من الصفات.

فكانت الكعبةُ بهذا أفضلَ المساجد، وإنما كانت أولية السبق مقتضية التفضيل؛ لأن هذا المسجد كان أصلًا للبقية، فكلُّ فضلٍ لغيره بعده يكون له منه حظّ، فلا يزال فضلُه يتزايد، ولأن مواضع العبادة لا تتفاضل من جهة وقوع العبادة فيها، إذ هي في ذلك سواء، وإنما تتفاضل بما يحف بها من طول الزمان في عمرانها بالأنوار الملكية وبإخلاص مؤسسيها في تأسيسها. وأيُّ إخلاص أعظم من إخلاص تأسيس أصل معابد التوحيد الذي كانت المعابد بعده تقليدًا له ومحاكاةً لغرضه!

وإذ قد تَبَيَّنْتَ أن مساقَ الآية مساقُ الاستدلال على علة الأمر باتباع ملة إبراهيم، فكأنك قد استشرفتَ إلى بيان وجه هذا الدليل وكيف تمام التقريب فيه. (1) ووجهه أن الكعبة لَمّا كانت أولَ هيكل أقيم لإعلان توحيد الله وهو مبدأ الحنيفية، فقد ثبت

= غريغوريوس أبو الفرج بن هارون الملطي، السرياني، المعروف بابن العبري (1226 - 1286). وأما القديس إيروسيمرس فلم نهتد إلى معرفة مَنْ هو. هذا ولم نعثر في تاريخ ابن العربي على ما جاءت الإشارة إليه في هذه الفقرة.

(1)

التقريب كلمة اصطلاحية في علم آداب البحث، وهو استلزام الدليل للمدَّعَى. - المصنف.

ص: 232

لهذا البيت أفضليةٌ على كل مسجد تقام فيه دلائلُ التوحيد. وهذا الأثر أقامه إبراهيم عليه السلام كما دل عليه آخِرُ الآية، وإبراهيم هو رسول الحنيفية الأول. فإذا استقرت فضيلةُ هذا الأثر على بقية الآثار الدينية الحقة، ثبتت الفضيلةُ لا محالة للملة التي أُقيم هذا الأثر دليلًا عليها ومناديًا بها على ممر الأحقاب لكونه دليلَها وفيه ظهرت، فتكون أشرف الملل. وهذا الاستدلال جارٍ على طريق دلالة الالتزام، فهو استدلالٌ بطريقة الكناية بشرف المحلّ على شرف الحالّ فيه، كقول زياد الأعجم (شاعر أموي):(1)

إنَّ السَّمَاحَةَ وَالمُرُوءَةَ وَالنَّدَى

فِي قُبَّةٍ ضُرِبَتْ عَلَى ابْنِ الحْشْرَجِ (2)

وهذه الطريقةُ في صناعة البلاغة كإثبات الشيء بحجة ولها تأثير في المخاطبين، فكانت الحنيفيةُ بذلك أفضلَ الملل؛ لأنها أقامت للتوحيد أولَ معبد ومسجد، ولأنها جمعت للدعوة للحق بالقول الدعوةَ له بالمشاهدة، ولأن الملل التي تقدمتها كانت تُنْسَى بوفاة رسلها وانقطاع أقوالهم، والحنيفية بقي أثرُها ناطقًا. فإذا كان أول مسجد بناه إبراهيم للتوحيد هو الكعبة، تكون الملةُ التي نبعت منه وظهرت فيه أفضلَ الملل بحكم إعطاء شرف القرين لقرينه.

وقوله تعالى: {مُبَارَكًا} حال من اسم الموصول الصادق على البيت، أي مجعولًا ذا بركة، والبركةُ كثرةُ الخير ونماؤه من جانب الله تعالى دون سبب عادي. ووُصِف البيتُ بذلك باعتبار ذاته؛ إذ كان قد باشر بناءه رسولُ الله إبراهيم وابنُه إسماعيل رسول الله، فلامست أيديهما حجارتَه وطينه، ثم أعان فيه محمد صلى الله عليه وسلم حين بنته قريش، ثم كان هو الواضع للحجر الأسود منه بيده لَمّا اختلفت بطونُ قريشٍ

(1) هو أبو أمامة زياد بن سلمى، ويقال زياد بن جابر بن عمرو بن عامر من عبد القيس، وكان ينزل إصطخر. عُرف بزياد الأعجم للُكنة كانت فيه. وذكر أن مولده ومنشأه في أصفهان، ثم انتقل إلى خراسان فلم يزل بها حتى مات. كان شاعرًا جزلًا، فصيحَ الألفاظ، على لكنته وجريه على لفظ أهل بلده. أورد له ابن قتيبة عدة أبيات، ليس منها هذا البيت. الشعر والشعراء، ص 260 - 262.

(2)

هو عبد الله بن الحشرج القيسي، أمير خراسان لبني أمية. - المصنف.

ص: 233

في الذي يتولَّى وضعَه في موضعه. فقد توالَى على بنائه ثلاثَةُ رسل، وذلك لم يكن لبناءٍ غيره. وذلك الحجر الأسود الذي وضعته أيدي ثلاثة رسل هو هو، لم يزل قائمًا ماثلًا للناس.

وقوله {وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ (96)} حالٌ ثانية من الموصول، ويجيء الحال مصدرًا كالوصف بالمصدر، وكالإخبار بالمصدر لقصد المبالغة، أي هاديًا للعالمين، فجعل كأنه نفس الهدى. ووصف البيت بذلك؛ لأن وضعه كان للدلالة على توحيد الله كما علمت. فكلُّ مَنْ يراه يسأل عنه، وعن سبب وضعه، وعن واضعه، فيُخْبَرُ بذلك، فينظر فيهتدي إلى التوحيد، ولأن سدنته وحفظته - وهم ذرية واضعه - قد وُكلت إليهم الدعوةُ إلى ذلك الهدى الذي أراده جدُّهم. وفي هذا تعريضٌ بالمشركين؛ إذ جعلوا مصدرَ الهدي إشراكًا، ولذلك لَمَّا أزال النبيُّ صلى الله عليه وسلم الأصنامَ من الكعبة يوم الفتح قرأ:{جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ} [الإسراء: 81]. ولم يأمر بذلك في إزالة الأصنام الأخرى؛ لأن وضع الأصنام في هيكل التوحيد من أعظم الباطل والاعتداء، زيادةً على كون مجرد اتخاذ الأصنام هو من الباطل.

وقولُه تعالى: {فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ} [آل عمران: 97]، يجوز أن يكون استئنافَ كلام، ويجوز أن يكون حالًا ثالثة. وكيفما كان، فهو من تفصيل التفضيل. والآيات جمع آية، وهي العلامةُ المصدِّقة للدعوى. فالمُرادُ هنا آياتٌ على كونه مباركًا وهدى، سواء اشترك في الاهتداء بها سائرُ الناس أم اختص بها البعض، على تفاوتهم في الاختصاص بها حسب ما يفتح الله لهم من أبواب الإرشاد الإلهي والفتح النوراني. وقد اقتضى الكلامُ أن الآيات كائنةٌ في البيت. فإن كانت الظرفية المستفادة من "في" ظرفية حقيقية، فالمراد من الآيات آياتٌ ظاهرة كائنة في المسجد الحرام، وهي عدة، منها:

1 -

الحجر الأسود، فالمتواتر أنه نزل من السماء، رآه إبراهيم حين نزل على جبل أبي قبيس، فأخذه وجعله في ركن الكعبة، زيادةً في تشريفها إذ كان من حجارة جدرانها حجارة نزلت من السماء. ومعنى ذلك أن يكون الحجرُ الأسود من الحجارة

ص: 234

التي ترمي بها النجومُ فتصادف ظهرَ الأرض تارات، وتكون هذه خصوصيةً له لثبوت نزوله برؤية الرسول إبراهيم إياه حين نزوله، ولتواتر ذلك عن خبره في العرب.

2 -

والآية الثانية: أثر قدم إبراهيم في الحجر الذي كان يقف عليه، وذلك متواتر عند الناس إلى اليوم. ومن المأثور عند العرب قولُ أبي طالب من قصيدته:

وَمَوْطِئُ إبْرَاهِيمَ فِي الصَّخْرِ قَائِمًا

عَلَى قَدَمَيْهِ حَافِيًا غَيْرَ نَاعِلِ (1)

3 -

ومنها بئر زمزم الذي تواتر عند العرب أن الله فجره لهاجر لما ظمئت وظمئ ولدُها إسماعيل.

4 -

ومنها أن البيت هو الأثر الوحيد المقطوع بأن إبراهيم أقامه هنالك؛ لأنه لمَّا أقامه أقام له أهلَه شهداء عليه، وتناقلته الأجيال بالتواتر. وهذا لا يوجد في أثرٍ آخر من آثار إبراهيم عليه السلام، بل كلُّها قد اندثرت، وما تعين موضعُ بيت المقدس إلا بوحيٍ وخبر.

وإن كانت الظرفيةُ مجازية، فالمعنى أنه اشتمل على دلائل الوحدانية والرسالة بالدلائل المحسوسة التي ذكرناها، وبما علمناه مما حدث فيه من المعجزات لإبراهيم وإسماعيل عليهما السلام، ومعجزات محمد صلى الله عليه وسلم مثل شق صدره والإسراء به، ونزول الوحي عليه، وعصمة الله تعالى إياه من أعدائه - كلُّ ذلك كائنٌ فيه وحواليه. وبما لم نعلمه من المعجزات والأسرار الواقعة فيه بين الله ورسله، مما لا يعلمه إلا الله ومَنْ أطلعه من خاصة عباده.

(1) هذا البيت من قصيدة لامية تنسب لأبي طالب، وهي تحتوي على مائة وأحد عشر بيتًا في رواية أبي هفان عبد الله بن أحمد الْمِهزمي من عبد القيس، ومن مائة وخمسة عشر بيتًا في رواية أبي البشر. وقد جاء البيت في الديوان بلفظ "وَطْأَةً" بدل "قَائِمًا"، وما أورده المصنف مطابق لما جاء عند ابن كثير. ديوان أبي طالب بن عبد المطلب، صنعة أبي هفان المهزمي البصري وصنعة علي بن حمزة البصري التميمي، تحقيق محمد حسن آل ياسين (بيروت: دار ومكتبة الهلال، ط 1، 1421/ 2000)، ص 72 و 191؛ ابن كثير: البداية والنهاية، ج 1، ص 377.

ص: 235

5 -

ومن آياته ما جُعِل له من الحرمة في نفوس الخلق من العرب وغيرهم من سائر الملل، فقد حجته الجبابرةُ من الملوك والأكاسرة، وكسته التبابعة، (1) وقدسته سائرُ العرب، واحترموا قريشًا؛ لأنهم سدنته وذرية مؤسسه. وقد قال أبو طالب في خطبته:"وجَعلنا حَضَنَةَ بيته، وسُوَّاسَ حرمه، وجعلنا الحكامَ على الناس". (2)

6 -

ومنها ما يسر الله لسكانه من الأرزاق بسببه، وذلك بمجيء الناس للحج من كل فج عميق، قال الله تعالى:{جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَامًا لِلنَّاسِ وَالشَّهْرَ الْحَرَامَ وَالْهَدْيَ وَالْقَلَائِدَ ذَلِكَ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَأَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (97)} [المائدة: 97]، وأن من أكبر الآيات فيه للمهتدي أنه مصدرُ التوحيد والحنيفية.

ثم انشقت منه جداولُ الشرائع والهدى اشتقاقَ الجداول من النهر، ثم اجتمعت وآوت إليه في شريعة الإسلام، فعاد النهرُ إلى مجراه. وفي ذلك رمزٌ إلهي إلى أن الدين عند الله هو الإسلام، وأنه ابتدأ على يد إبراهيم في مكة كالحبة المزروعة إلى أن آن أوانُ جَناه، فظهر من حيث بدئ، ليدل على أن الزرع قد نضج، وأن الغرس قد أثمر.

(1) يُطلق لقبُ تُبَّع (ووزنه كوزن كسكر) على الملوك الذين حكموا اليمن، وعلى مجموعهم التبابعة. وقد ذكرت بعض المصادر التاريخية أنهم سموا تُبَّعًا وتبابعة لأنه يتبع بعضهم بعضًا، كلما هلك واحد قام مقامه آخر تابعًا له على مثل سيرته، أو لأن التبع ملك يتبعه قومه ويسيرون خلفه تبعًا له، أو لكثرة أتباعه، أو من التتابع لتتابعهم. وقد ذُكر أن هذا اللقب لا يُلقَّب به إلا الملوك الذين يملكون اليمن والشحر وحضرموت، وقيل حتى يتبعهم بنو جشم بن عبد شمس، أما إذا لم يكن كذالك، فإنما يسمى ملكًا. وأول من لقب منهم بذالك الحارث بن ذي شمر، الذي يعرف أيضًا بالرائش. ولم يزل هذا اللقب واقعًا على ملوكهم إلى أن زالت مملكتهم بملك الحبشة لليمن.

(2)

السهيلي، أبو القاسم عبد الرحمن بن عبد الله بن أحمد بن أبي الحسن الخثعمي: الروض الأُنف في شرح السنة النبوية لابن هشام، تحقيق مجدي بن منصور بن سيد الشوري (بيروت: دار الكتب العلمية، ط 1، بدون تاريخ)، ج 1، ص 213.

ص: 236

وقوله تعالى: {مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ} ، المقام اسم على وزن المفعل، مشتق من القيام، مُرادٌ به مكانُ القيام. والقيام يُطلق أيضًا على الوقوف للدعاء والعبادة كالصلاة، فمقام إبراهيم يصح أن يكون المرادُ منه مسجدَ إبراهيم مصلاه ومحلَّ وقوفه بين يدي ربه، كما قال زيد بن عمرو بن نفيل:(1)

عُذْتُ بِمَا عَاذَ بِهِ إِبْرَاهِمْ

مُسْتَقْبِلَ الْكَعْبَةِ وَهوَ قَائِمْ (2)

وعليه فمقامُ إبراهيم هو البيت، فيكون قولُه:"مقام إبراهيم" مرفوعًا على الاستئناف كالنعت المقطوع، أي هو مسجد إبراهيم. فالغرضُ من الإضافة لهذا الاسم هو التنويهُ بالمضاف إليه لزيادة تشريف المضاف.

ويصح أن يكون المقام مشتقًّا من مطلق القيام، أي محل قيام إبراهيم لبناء الكعبة، كقول أبي طالب المتقدم:"وموطئ إبراهيم في الصخر قائما". فيكونُ المرادُ بالمقام الحجرَ الذي فيه أثرُ قدمَيْ إبراهيم عليه السلام، وهو مِمَّا أُطلق عليه المقامُ من عهد

(1) كان من الحنفاء، وفرَّ إلى الله من عبادة الأصنام. ساح في أرض الشام تطلبًا للدين القيم، فرأى النصارى واليهود، فلم يطمئن إلى ما كانوا عليه، وقال:"اللهم إني على دين إبراهيم"، ولكن لم يظفر بشريعة إبراهيم عليه السلام، ولا رأى مَنْ يوقفه عليها. وهو من أهل النجاة، فقد شهد له النبي صلى الله عليه وسلم بأنه "يبعث أمةً واحدة". الحاكم النيسابوري: المستدرك، "كتاب معرفة الصحابة رضي الله عنهم"، الحديثان 5923 و 5927، ج 3، ص 538 - 539. وزيد بن عمرو هو ابن عم عمر بن الخطاب رضي الله عنه، رأى النبي صلى الله عليه وسلم ولم يعش حتى مبعثه، وهو والد سعيد بن زيد أحد العشرة المبشرين بالجنة. روى هشام بن عروة - فيما نقله عنه ابن أبي الزناد - أنه بلغه أن زيد بن عمرو كان بالشام، فلما بلغه خبر رسول الله صلى الله عليه وسلم، أقبل يريده، فقتله أهلُ ميفعة بالشام. وروى الواقدي أنه مات، ودفن بأصل حِراء. وقال ابن إسحاق: قتل ببلاد لخم. والظاهر أن زيدًا رحمه الله توُفِّيَ قبل المبعث، فقد نقل ابن إسحاق أن ورقة بن نوفل رثاه بأبيات، منها:

رَشَدْتَ وَأُنْعِمْتَ ابْنَ عَمْرٍو وَإِنَّمَا

تَجَنَّبْتَ تَنُّورًا مِنَ النَّارِ حَامِيَا

بِدِينِكَ ربًّا لَيْسَ رَبٌّ كَمِثلِهِ

وتركِكَ أَوْثَانَ الطَّوَاغِي كَمَا هِيَا

ابن هشام: السيرة النبوية، ج 1/ 1، ص 186 - 187.

(2)

المرجع نفسه، ص 185.

ص: 237

الجاهلية وفي الإسلام. وقد قيل إنه المرادُ في قوله تعالى: {وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى} [البقرة: 125]. وقال الفرزدق:

أَلَمْ تَرَنِي عَاهَدْتُ ربِّي، وَإِنَّنِي

لَبَيْنَ رِتَاجٍ قَائِمٌ وَمَقَامِ (1)

فيكون رفعُه على أنه من "آيات" بدل من مجمل، غير أن المبدل منه جمع والبدل مفرد فلم يذكر بقية المفصل اكتفاءً بالمهم من الآيات. وعلى هذا المعنى فسر الزجاج وتبعه الزمخشري. وزاد فجعل مقامَ إبراهيم بمنزلة آيات كثيرة لقوة دلالته، أو لأنه يشتمل على آيات؛ لأن بقاء أثر القدم في الصخرة الصماء آية، وغوصه فيها إلى الكعبين آية، وإلانة بعض الصخرة دون بعض آية.

وقوله تعالى: {وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا} [آل عمران: 97]، لفظُه لفظُ الخبر. والظاهر أن معناه كذلك، فيكون من جملة صفاتِ البيت. ويكون هذا من دلائل عناية الله بما سخر الأممَ وألهمهم لاحترامه، وتأمين داخله. فقد كان العربُ مع شدة حنقهم على أعدائهم يلقَى الرجلُ في المسجد الحرام قاتلَ ابنه أو أبيه فلا يتعرض له. (2) ويكون هذا المعنى آيةً ثانية، فيكون البدلُ من الجمع قد وقع باثنين وسكت عن الثالث. ونظره في الكشاف بقول جرير:

(1) ديوان الفرزدق، شرح إيليا حاوي (بيروت: دار الكتاب اللبناني ومكتبة المدرسة، ط 1، 1983)، ج 2، ص 405.

(2)

ومما شاع تعبيرًا عن معنى الأمن الذي ارتبط بالحرم ومكة عند العرب في الجاهلية المثل القائل: "آمَنُ من حمام مكة، ومن غزلان مكة". فلم يكن الأمنُ فيها خاصًّا بالبشر، بل شمل الطير والحيوان، وخاصة في الأشهر الحرم. قال النابغة:

لَا وَالَّذِي آمَنَ الْغُزْلَانَ تَمْسَحُهَا

رُكْبَانُ مَكَّةَ بَيْنَ الْغَيْلِ وَالسَّعَدِ

انظر الجاحظ، أبو عثمان عمرو بن بحر: كتاب الحيوان، تحقيق عبد السلام محمد هارون (بيروت: دار إحياء التراث العربي، بدون تاريخ)، ج 3، ص 139 - 142 و 192 - 195. وجاء صدر البيت في رواية ابن السكيت بلفظ:"والمؤمِّنِ الطَّيْرِ العائِذّاتِ يَمْسَحُهَا". ديوان النابغة الذبياني، ص 25 (نشرة محمد أبو الفضل إبراهيم).

ص: 238

كَانَتْ حَنِيفَةُ أثلاثًا فَثُلْثُهُمُو

مِنَ العَبِيدِ وَثُلْثٌ مِنْ مَوَالِيهَا (1)

ولم يذكر الثلث الثالث. ثم يبقى على هذا الوجه أن بقية الآيات ترك ذكرها اكتفاءً بهاتين الآيتين العظيمتين، أو بما يتضمنه قوله:{وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا} من آيات كثيرة، منها تيسير الأرزاق. ولذلك جمع إبراهيم في دعوته للبلد الحرام ملاكَ الخيرات؛ إذ قال فيما حكى الله عنه:{رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ} [البقرة: 126]. ويجوز أن تكون الآية الثالثة هي مضمون قوله: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ} [آل عمران: 97] إلخ، لِمَا يقتضيه الحجُّ من الخيرات لأهل مكة.

وقيل إن معنى هذا الخبر الأمر، أي آمنوا من دخله، كقوله صلى الله عليه وسلم يوم الفتح:"من دخل دار أبي سفيان فهو آمن"، (2) أي: فأمنوه. وهو لا يفيد المقصودَ من التشريف، ولكنه يدل على تشريفٍ مقررٍ قديم، والحمل على الأول أَوْلَى. ولا يَرِدُ عليه أنه قد انتُهِكَتْ حُرمةُ أمنه في بعض الأزمنة، مثل ما فعله القرامطة؛ لأن الآيات هي أمنُه فيما مضى يسره الله لهم ليكون ملجأً قائمًا مقامَ العدل، ثم أغنى الله بعد ذلك بالإسلام، ولأن القضايا النادرة لا تقدح في الشرف الأثيل. على أن أَمْنَ مَنْ دخل البيت لا يقتضي أمنَ كل من كان بالمسجد الحرام أو ببلد مكة.

واعلم أن مغزى هذه الآية مع سابقتها هو التنويهُ بملة الإسلام، وبيانُ أنها هي الحنيفيةُ التي فضلها الله تعالى، والتي بعث إبراهيمَ بأصولها، أو أنها دعوةُ إبراهيم فيما حكى الله عنه من قوله:{رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ} [البقرة: 129]. فكانت ملةُ الإسلام هي كمالَ الحنيفية وتفصيلها. وقد نصب الله على ذلك آيةً خفية تظهر للمهتدي، وهي أن إبراهيم أظهر الحنيفيةَ في مكة، وأقام لذلك عَلَمًا وهو المسجد الحرام، وأقام ابنه إسماعيل داعيًا لها هنالك.

(1) الزمخشري: الكشاف، ج 1، ص 380؛ وانظر البيت في: ديوان جرير، ج 3، ص 545.

(2)

ابن هشام: السيرة النبوية، ج 2/ 4، ص 36.

ص: 239

ثم لم يبعث الله رسولًا بعد إبراهيم وابنه في ذلك البلد، فتطوَّحت الشرائعُ في بلاد الله، حتى جاء الدينُ الذي أراده الله لإظهار الشريعة الجامعة. وفي بقاء هذا الأثر المبارك من آثار إبراهيم واندثار غيره معجزةٌ خفية، وإشارةٌ إلهية إلَى أن جميعَ الشرائع التي تفرَّعت عن ملة إبراهيم من شريعة موسى وغيره شرائعُ زائلة، وأن الشريعة الخالدة هي الشريعةُ التي تظهر مرةً أخرى من جانب هذا الأثر. فبعث الله من مكة رسولًا يَلمُّ بدعوته أشتاتَ الأمم، يزجي بهم إلى الانضواء تحت ذلك العلَم، وبذلك حقَّ مرادُ الله تعالَى وتم. (1)

(1) انظر للمصنف مزيدَ تفصيلٍ وبيان لِما في الآية من معان وعبر في: تفسير التحرير والتنوير، ج 3/ 3، ص 11 - 21.

ص: 240