الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
(ثم قال الونشريسي: )"قيل: القرونُ كلُّها إذا استقريتها بالنسبة إلى ملوكها وعلمائها في كل قطر لا يخلو أولُ كلِّ قرن من بركة في العلماء أو في الملوك، (لما أجرى الله العادة أن كل قرن فيه خير، وخيره يغلب شره. وقد شاهدنا من ذلك رأسَ القرن التاسع منَّ الله على أهل إفريقية (بأمير المؤمنين المتوكل على الله القائم بأمر الله) أبي فارس عبد العزيز بن الخليفة أمير المؤمنين أبي العباس ابن الأمراء الراشدين الحفصيين، فقطع الله به أهلَ الزيغ والفساد من أهل البادية والبلاد، وقاتل المحاربين (وأهل الخلاف)، كما قائل الكفار حين نزلوا بالمهدية"]. (1)
التحقيق في صفات المجدد وصنفه وعدده:
ولَم أَرَ مَنْ عُنِيَ بتحقيق هذا الأمر، ولا عرضه على شواهد التاريخ وأحوال الدهر. وها أنا ذا أبدي ما وقر في رُوعي من الاختبار في صفة هذا المجدد على العموم، ثم أُتبعه بأفراد هذه الأمة الذين انبروْا للتجديد في وقت الحاجة. وليس ببدع أن يكون ما أراه في هذا الشأن راجحًا في كفة البيان، فليس الحقُّ بمحتكَر، ولا شرب الصواب بمحتضر، والحكم في الترجيح لمحكِّ النظر.
= 1389/ 1969 - 1379/ 1972)، ج 11، ص 320 - 324؛ الونشريسي، أبو العباس أحمد بن يحيى: المعيار المعرب والجامع المغرب عن فتاوى أهل إفريقية والأندلس والمغرب، تحقيق جماعة من العلماء بإشراف العلامة محمد حجي (بيروت: دار الغرب الإسلامي، 1401/ 1981)، ج 10، ص 7 - 10. وقد ضبطنا كلام ابن الأثير وفق ما جاء في كتابه لا تبعًا لنقل الونشريسي الذي تصرف فيه بعض التصرف.
(1)
الونشريسي: المعيار المعرب، ج 10، ص 10. وما بين قوسين من كلام الونشريسي لم يورده المصنف، وكذلك عبارة "ثم قال الونشريسي" إضافة من المحقق لوصل الكلام بعضه ببعض. أما الكلام الذي بين حاصرتين من عبارة "رأي مجد الدين ابن الأثير" إلى قول الونشريسي: "حين نزلوا بالمهدية"، فلم ينشر في مجلة الهداية الإسلامية، وقد استكملناه من نشرة عبد الملك ابن عاشور لكتاب "تحقيقات وأنظار"، وكتاب "مقالات الإمام محمد الطاهر ابن عاشور" الذي يشتمل على أحد عشر مقالًا جمعها علي الرضا التونسي من مجلة "الهداية الإسلامية".
لقد صرَّح الكلامُ النبوي أن هذا المجدد يبعثه الله ويُلهمه لتجديد أمر الدين للأمة، فوجب أن يكون هذا المجددُ قائمًا بعمل مثمرٍ تجديدًا في الدين. وقد أَبَنْتُ فيما مضى معنى التجديد، فيتعين أن تكون لهذا المجدِّد الصفاتُ التي تؤهله لرتق ما فُتِقَ من أمر الدين في زمنه. فإذا كان الفتقُ قد طرأ على ناحية من نواحي علم الدين، تعيَّنَ أن يكون المجددُ في تلك الناحية عالِمًا يؤهله علمُه لإدراك الدين الحق في الغرض المقصود.
وإن كان الفتقُ قد طرأ على الدين من ناحية وَهن نفوذِه ووقوف انتشاره، تعيَّن أن يكون المجددُ في ذلك قادرًا على حماية البيضة، ونصر الشريعة - أي نصر الحق من الدين - لئلَّا يدخل في المجددين مَنْ قام ينصر نِحلةً اعتقادية يعتقد أنها الدينُ وهو فيها زائغ، مثل أبي يزيد راكب الحمار، (1) ومثل أبي عبد الله الشيعي داعية المهدي العبيدي، (2) أو لإعلان فتنة وانقلاب دولة تحت اسم الدين مثل مهدي
(1)"وهو أبو يزيد مخلد بن كيداد، من قبيلة زناتة البربرية، عاش في مدينة توزر بتونس، وعرف باسم أبي يزيد. نشأ على التعطش للدماء والقتل والثأر، وارتكاب المحرمات والمنكرات. وقد ذكر خبرَه ابنُ خلدون في الجزء الرابع من تاريخه. ومما قال عنه: "وخالط النكارية من الخوارج وهم الصُّفرية، فمال إلى مذهبهم وأخذ به. . . وكان يذهب إلى تكبير أهل ملته، واستباحة الأموال والدماء، والخروج عن السلطان. ثم أخذ نفسه بالحسبة على الناس، وتغيير المنكر سنة ست عشرة وثلاثمائة. ولما مات المهدي، خرج بناحية جبل أوراس، وركب الحمار، وتلقب بشيخ المؤمنين، فاتبعه أمم من البربر" - ولذلك لقب بصاحب الحمار - "ودعا للناصر صاحب الأندلس من بني أمية فاتبعه أمم من البربر". ابن خلدون، عبد الرحمن: تاريخ ابن خلدون المسمى ديوان المبتدأ والخبر في تاريخ العرب والبربر ومن عاصرهم من ذوي الشأن أكبر، نشرة بعناية خليل شحادة وسهيل زكار (بيروت: دار الفكر، 1421/ 2000)، ج 4، ص 52. وقد قامت الثورة التي قادها وعرفت باسم ثورة صاحب أو راكب الحمار في المهدية العاصمة الأولى للفاطميين قبل الانتقال للقاهرة، وذلك في زمن حكم الخليفة العباسي محمد القائم بأمر الله (322 - 334 هـ) وانتهت في زمن حكم ابنه الخليفة المنصور بالله (334 - 341 هـ).
(2)
قامت الدولة الفاطمية التي عرفت بالدولة العبيدية في إفريقية (تونس) سنة 298 هـ بزعامة عبيد الله المهدي الذي ادعى أنه صاحب الحق في الخلافة وأنه حفيد محمد بن إسماعيل بن جعفر الصادق. وقد مهد لقيامها داعية إسماعيلي هو أبو عبد الله الحسن بن أحمد بن محمد بن زكريا الشيعي (من أهل صنعاء، ولي الحِسبة في بعض أعمال بغداد). سار أبو عبد الله الشيعي إلى أبي القاسم الحسن =
الصومال، والتعايشي. (1)
ويجب أن يكون المجددُ في هذا المقام عالِمًا بالشريعة، وأن يكون مسترشدًا بالعلماء؛ ليصادف الحق الذي يتطلبه الشرع. وإذا كان الفتقُ الذي اعترى الدين من ناحيتين فصاعدًا، تعين أن يكون المجدد كفئًا للنهوض بما يتطلبه التجديد في ذلك، مثل أبي بكر الصديق رضي الله عنه في موقف ارتداد العرب.
= ابن حوشب الداعي الإسماعيلي باليمن، وصار من كبار أصحابه مفارقًا مذهب الإمامية الذي كان عليه. وبعد أن اطمأن ابن حوشب إلى تمكن التعاليم الإسماعيلية منه أرسله إلى بلاد المغرب ضمن الحجاج من قبيلة كتامة، فنجح في حشد هذه القبيلة للدعوة الإسماعيلية ومهد السيل لقيام الدولة العبيدية.
(1)
مهدي الصومال هو الشيخ محمد بن عبد الله حسن (ولد سنة 1863 وتوُفِّيَ سنة 1921)، لقب بمهدي الصومال تشبيهًا له بمهدي السودان محمد بن أحمد. قضى في بداية مسيرته ما لا يقل عن عشر سنوات في رحلات متصلة إلى جميع أنحاء الصومال، لا يسمع عن شيخ متخصص في فرع من فروع المعرفة إلا قصده وتتلمذ عليه. عمل على تكتل الصوماليين وتجاوز انتسابهم إلى القبائل، من أجل توحيد قواهم للجهاد ضد المستعمر. أطلق على أتباعه اسم الدراويش، وقسمهم إلى فرق بغض النظر عن أنسابهم وقبائلهم، وأطلق على كل فرقة اسمًا خاصًّا يميز مهمتها في المعارك، مثل الرماة والمغيرين. قاد محمد بن عبد الله ثورة ضد الاستعمار البريطاني في الصومال استمرت من سنة 1889 حتى سنة 1921، وخاض عشرات المعارك ضد البريطانيين - الذين وصفوه بالملا المجنون - انتصر في معظمها، وكبد المحتلين خسائر فادحة، وسيطر على مناطق عديدة من البلاد. استشهد عام 1920 في قصف للطيران البريطاني استهدف مواقعَ الثوار في مدينة جالكاسيو غربي الصومال. أما التعايشي فيبدو أن المصنف عليه رحمة الله خلط بين مهدي السودان وخليفته، وليس التعايشي ممن ادعى المهدية، وإنما صار خليفة لمحمد بن عبد الله بن فحل (1843 - 1885) الذي ادعى المهدية، وحشد الأتباع، وقاد ما يعرف في تاريخ السودان بالثورة المهدية التي قامت ضد الحكم البريطاني في الخرطوم، فعرف بالخليفة عبد الله التعايشي. قاد التعايشي الدولة المهدية بالسودان من قاعدتها بأم درمان، ساعيًا إلى بسط نفوذها على أكبر ما يمكن من الأقاليم. واسمه محمد التقي بن السيد علي الكرار بن السيد محمد المعطي الداري، من قبيلة التعايشة التي تنسب إلى جهينة. ولد في بادية جنوبي غرب دارفور عام 1266/ 1846، وانتقل إلى وادي النيل فاتصل بمحمد المهدي، وصار أقرب المقربين إليه. اصطدمت جهود التعايشي في بناء الدولة المهدية وتوسيع دائرة نفوذها بتحديات الوجود الأوروبي الاستعماري في إفريقيا (فرنسا بلجيكا وإيطاليا وإنجلترا)، وقد استشهد في يوم الجمعة 24 نوفمبر 1899 م بأم دبيكرات، قرب مدينة كوستي الواقعة على النيل الأبيض.
ثم إن الأظهر أن يكون هذا المجددُ واحدًا؛ لأن اضطلاعه بالتجديد وهو واحد يكون أوقع؛ إذ يكون عمله متحدًا، ويكون أنفذ؛ إذ يسلَمُ مِنْ تطرُّق الاختلاف باختلاف الاجتهاد في وسائل المقصد. وربما اقتضى حالُ الزمان أن يكون المجدد متعددًا في الأقطار بأن يقوم في أقطار الإسلام مجددون دعوتهم واحدة، أو يكون رجلان فأكثر متظاهرين على عمل التجديد في موضع واحد.
ولقد جَوَّز ابنُ السبكي أن يكون ابنُ سريج وأبو الحسن الأشعري مجددَيْن في نهاية المائة الثالثة: أولهما في الفروع، وثانيهما في الأصول. ولا مانعَ من قيام رجلين بمهم واحد؛ فقد ظهر ذلك في أعظم مهم وهو الرسالة، إذ أرسل الله موسى وأخاه هارون إلى بني إسرائيل وفرعون وملئه، وأرسل رسولَيْن إلى أهل القرية ثم عززهما بثالث، كما جاء في سورة يس. (1)
ويُشترط أن يكون المجددُ قد سعى لعمل في التجديد من تعليم شائع أو تأليف مبثوث بين الأمة، أو حمل الناس على سيرة، بحيث يكون سعيُه قد أفاد المسلمين يقظةً في أمر دينهم، فسار سعيُه بين المسلمين، وتلقَّوْه وانتفعوا به من حين ظهوره إلى وقت إثماره، سواءً كان حصولُ ذلك دفعة واحدة أم تدريجيًّا.
ويشترط أن يظهر المجدد في جهة تتجه إليها أنظارُ المسلمين، وتكون سمعتُها بموضع القدوة للمسلمين، مثل أن يكون من أهل الحرمين، أو من مقر الخلافة، أو من البلاد التي تعنوا إليها وجوه المسلمين، مثل مصر في بعض عصور التاريخ. ولذلك نجزم بأن مظهر المجددين الذين ظهروا في عصور الإسلام كان هو الشرق؛ إذ يلزم أن يكون عمله نافعًا لجميع الأمة لا لصقع خاص.
(1) وذلك قوله تعالى: {وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا أَصْحَابَ الْقَرْيَةِ إِذْ جَاءَهَا الْمُرْسَلُونَ (13) إِذْ أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُمَا فَعَزَّزْنَا بِثَالِثٍ فَقَالُوا إِنَّا إِلَيْكُمْ مُرْسَلُونَ (14)} [يس: 13، 14].