الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
مراجعة في تفسير قوله تعالى: {قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى}
(1)
طالعتُ في الجزء السادس من "المجلة الزيتونية" بحثًا نفيسًا دبجه قلمُ الأستاذ الفاضل المنزل مني منزلةَ الابن البار الشيخ ناصر الصدام (2) في ما يُعَوَّل عليه من تفسير قوله تعالى: {قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى} [الشورى: 23]، فرأيته ختم بحثَه بالرغبة في إحقاق الحق من معنى الآية، وعلمت أنه يحب مجاذبةَ البحث مما أكده من الرجاء والحث. (3)
فهزَّ عطفي إلى تذَكُّر عهدِ زمنٍ مديد، بأن أسايره بتكملة وتأييد، وفصل بين قريب وبعيد.
أقول: إن ما استظهره في معنى الآية هو الأظهر، وهو المأثور عن ابن عباس في صحيح البخاري وغيره، (4) وتابعه عليه أساطينُ المفسرين من التابعين: مجاهد
(1) المجلة الزيتونية، المجلد 5، الجزء 7، جمادى الثانية 1361/ يونيو 1944 (ص 146 - 148).
(2)
كان الشيخ ناصر الصدام تلميذًا مقربًا للمصنف، ومن مدرسي الزيتونة النابهين، ومن كتاب المجلة الزيتونية المداومين. ولد سنة 1919 وتوفّيَ سنة 1990، عليه رحمة الله.
(3)
المجلة الزيتونية، المجلد 5، الجزء 6، جمادى الأولى/ مايو 1944 (ص 106 - 110). وقال الصدام في خاتمة مقاله:"والرجاء ممن يقف على هاته العجالة إحقاقُ حقِّها وإبطالُ باطلها، داعيًا إلى سبيل ربه بالحكمة والموعظة الحسنة، وفوق كلِّ ذي علم عليم".
(4)
عن شعبة عن عبد الملك بن ميسرة قال: "سمعتُ طاوُوسًا عن ابن عباس رضي الله عنهما، أنه سئل عن قوله: {إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى}، فقال سعيد بن جبير: قربَى آل محمد صلى الله عليه وسلم. فقال ابنُ عباس: عَجِلْتَ، إن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن بطنٌ من قريش إلا كان له فيهم قرابة، فقال: "إلا أن تَصِلوا ما بيني =
وقتادة وعكرمة ومقاتل وطاووس والشعبي والسدي والضحاك. وهو الذي اقتصر عليه البخاري في كتاب التفسير، وعياض في الباب الأول من كتاب الشفاء. (1)
وعلى ذلك التفسير تكون "في" - من قوله تعالى: "في القربى" - تعليلية. ومما لا يشك فيه المضطلع بأسرار كلام البلغاء أن التعليلَ الذي يُستفاد بـ "في" غيرُ التعليل الذي يُستفاد بلام التعليل؛ لأن التعليل بـ "في" إنما هو معنًى عارضٌ لها متفرِّعٌ عن معنى الظرفية الأصلي فيها؛ فإن "في" قد تُستعار للظرفية المجازية. ومن صور تلك الظرفية المجازية أن تنزل علةُ الشيء وسببُه منزلةَ الظرف الواقعُ الشيءُ فيه، لِمَا في المجاز من الدقة والبيان. وذلك مقتضى العدول عن الحقيقة إلى المجاز، فلله در الشيخ صاحب البحث من تطرقه إلى بيان موجب العدول عن لام التعليل إلى حرف الظرفية.
أما ما ارتآه من إشعارِ حرف الظرفية بأضعف مما يشعر به حرفُ التعليل في التسبب فلا أشايعه عليه، ولا أحسبه مرادًا من استعمال العرب. ألا ترى قولَ الحماسي - وهو سبرة (بن عمرو) الفُقعسي - من شعراء الجاهلية:
= وبينكم من القرابة"". صحيح البخاري، "كتاب التفسير"، الحديث 4818، ص 851. وانظر كذلك "كتاب المناقب"، الحديث 3497، ص 588.
(1)
قال القاضي عياض تعليقًا على قوله تعالى: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ (128)} [التوبة: 128]: "أَعْلَم الله تعالى المؤمنين، أو العرب، أو جميع الناس - على اختلاف المفسرين مَن الْمُواجَهُ بهذا الخطاب - أنه بعث فيهم رسولًا من أنفسهم يعرفونه، ويتحققون مكانه، ويعلمون صدقه وأمانته؛ فلا يتهمونه بالكذب، وترك النصيحة لهم، لكونه منهم، وأنه لم يكن في العرب قبيلة إلا ولها على رسول الله صلى الله عليه وسلم ولادة أو قرابة. وهو عند ابن عباس وغيره معنى قوله تعالى: {إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى} [الشورى: 23] ". اليحصبي، القاضي أبو الفضل عياض بن موسى: الشفا بتعريف حقوق المصطفى (بيروت: دار ابن حزم، 1423/ 2002)، ص 13.
نُحَابِي بِهَا أكْفَاءَنَا وَنُهِينُها
…
وَنَشْرَبُ فِي أَثْمَانِهَا وَنُقَامِرُ (1)
وقد كنتُ ذكرتُ في شرحي على الحماسة المسمى "فوائد الأمالي التونسية على فرائد اللآلي الحماسية"(2) أن "في" للظرفية المجازية، أي: تحصل معاقرة الخمر ومعاطاة اليسر بأثمان تلك الإبل. فربما كان الأكثرُ للشرب، وربما كان الأكثر للقمار. والكلُّ مظروفٌ في أثمانها، فجعلها ظرفًا ليتطرق بذلك إلى إرادة إتلاف جميع أثمانها في ذلك. فالظرفيةُ على معنى باء السببية والمقصود هذا المسبب، وهو ما يرضيهم من الشراب واليسر. ولذلك لم يأت بـ "من" لئلا يُوهِمَ أنهم يشربون ويقامرون ببعض أثمانها، ويستبقون بعضها اكتنازًا، فهم يتعيرون بذلك.
ونظيرُ الظرفية قولُه تعالَى: {وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ} [النساء: 5]، أي ارزقوهم بها، ولم يقل منها، للإشارة إلى عدم التقتير عليهم في أموالهم، وإنما هي أسبابٌ لرزقهم وكسوتهم. فالمنظور إليه هو المسبَّب، والسبب تبعٌ لحال المسبب. ويكون التعريف في قوله تعالى:"القربى" تعريفَ الأجل، أي لأجل حقيقة القرابة بيننا. وهذا الوجهُ في معنى الآية هو الأنسب بالسياق؛ لأن الخطاب موجهٌ إلى المشركين، وكانوا عادَوْا النبي صلى الله عليه وسلم، وتداعوا للتألب عليه، فناسب أن يُذَكَّروا بوشائج الأرحام. والتذكير بها سنةٌ عربية مألوفة، كما قال القتَّال الكلابي:
نَهَيْتُ زِيَادًا وَالمُقَامَةُ بَيْنَنَا
…
وَذَكَّرْتُهُ أَرْحَامَ سِعْرٍ وَهَيْثَمِ (3)
(1) المرزوقي، أبو علي أحمد بن محمد بن الحسن: شرح ديوان الحماسة تحقيق عبد السلام هارون (القاهرة: مطبعة لجنة التأليف والترجمة والنشر، 1371/ 1951)، ج 1، ص 239.
(2)
طبع هذا الكتاب في العشرينيات من القرن العشرين الميلادي، ولم يعد طبعه حسب علمي.
(3)
الأصفهاني، أبو الفرج علي بن الحسين بن محمد بن أحمد بن الهيثم القرشي الأموي: الأغاني، تحقيق قصي الحسين (بيروت: منشورات دار ومكتبة الهلال، ط 1، 1422/ 2002)، ج 8/ 24، ص 491؛ المرزوقي: شرح ديوان الحماسة، ج 1، ص 201. والقتّال الكلابي هو عبد الله أو عبيد بن مجيب بن المضرحي، وكان يكنّى بأبي الحسيب وأبي سليل، ولعل الصواب "شليل" وهي كنية =
وليس من مناسِبِ المقام أن يسألَهم مودةَ أهل بيته وأقاربه؛ لأن ذلك لا غَناءَ له في غرض الآية.
وأما الوجه الثاني في تفسيرها فليس بباطل؛ إذ قد قال به جمعٌ من التابعين، مثل عمرو بن شعيب وسعيد بن جبير وعلي بن الحسين، وذكره صاحب الكشاف، (1) ولم يذهب إليه أحدٌ من الصحابة، وإني أراه مرجوحًا وضعيفًا. وقد روى البخاري إنكارَ ابن عباس على سعيد بن جبير في تفسير الآية به، (2) ولم يعرج على ذكره عياضٌ في فصل وجوب البر بآل محمد صلى الله عليه وسلم من كتاب الشفاء.
وعلى هذا الوجه يكون في قوله تعالى: "في القربى" حذفُ مضاف، أي: في ذوي القربى، وتكون "في" مستعملة في الظرفية المجازية بأن جعل أهلَ قرابة الرسول كالمكان لاستقرار المودة، كما صرح به في الكشاف. (3)
= جدّه المضرحي. أما لفظ "القتّال" فلقب غلب عليه لتمرده وفتكه. وهو شاعر إسلامي من بني عامر بن صعصعة، كان معاصرًا للراعي النميري والفرزدق وجرير في عصر الدولة المروانية. يمثل القتّال الكلابي حالة متطرفة لمقاومة كل ما سنته الدولة من تنظيمات، كما يمثل الثورةَ على الاستقرار، ويمعن في حماية نقاء الدم بين أفراد القبيلة. وقد عكس في شعره أنواع الصراع الذي كانت تشهده البادية في عصره. فمن قصائده ما هو صورة للمنازعات القبلية، وخاصة بين بني جعفر وأبناء عمومتهم بني أبي بكر. ومنها ما هو صورة للصراع بين القتّال وقبيلته؛ إذ كانت تتخلى عنه لكثرة جرائمه حتى ليتمنى أحيانًا أنه لم يكن منتسبًا لها. كما يصور شعرُه الصراعَ بين الدم النقي والدم الدخيل، ولذلك كثر حديثُه عن كراهية الدماء، وكثر اعتزازه بأنه من نسل الحرائر. والمثل الأعلى في الشخصية لديه هو "الصعلوك". وقد ذكر له الأصفهاني (ج 8/ 24، ص 490 - 502) شعرًا كثيرًا في هذه المعاني. تُوُفِّيَ القَتّال الكلابي نحو 66 هـ.
(1)
الوجه الثاني لمعنى الآية الذي إليه يشير المصنف هو كون المراد بالمودة في القربى موادة أهل قرابة الرسول صلى الله عليه وسلم. الزمخشري: الكشاف، ج 4، ص 213.
(2)
سبق ذكر كلام سعيد بن جبير وإنكار ابن عباس عليه.
(3)
الزمخشري: الكشاف، ج 4، ص 213.
وقد ذكر بعضُ المفسرين في ترجيح كون هذا الوجه هو المراد من الآية حديثًا عن ابن عباس أنه قال: "لما نزلت هذه الآية قالوا: يا رسول الله من هؤلاء الذين أمر الله بمودتهم؟ فقال: "فاطمة وولدها". (1) وهذا الحديث شديدُ الضعف؛ لأن في سنده حسينًا الأشقر، وكان مشهورًا بالغلُوِّ في التشيع، وكان مع ذلك مجهولًا غيرَ مقبول الحديث. (2) وأما ما يرمي إليه الكُميت في أبياته وشريح بن أوفَى العبسي (3) في بيته، فإنما هو تقليدٌ لهذا التأويل في معنى الآية.
(1) المباركفوري، أبو العلا محمد عبد الرحمن بن عبد الرحيم: تحفة الأحوذي بشرح جامع الترمذي (بيروت: دار الكتب العلمية، 1422/ 2001)"كتاب تفسير القرآن عن رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم"، شرح الحديث 3668، ج 9، ص 90 - 91.
(2)
وقد تباينت الأقوالُ في تعديله وتجريحه، فقال فيه يحيى بن معين:"لا ثقة، ولا مأمون"، وقال أبو زرعة الرازي:"منكر الحديث"، وقال أبو حاتم:"ليس بقوى"، وقال فيه البخاري:"فيه نظر" و"عنده مناكير". أما أحمد بن حنبل فقال مرة: "لم يكن عندى ممن يكذب"، وقال، حين ذكر له أنه صنف في معائب أبي بكر الصديق وعمر بن الخطاب:"ليس هذا بأهل أن يُحَدَّث عنه". وسئل يحيى بن معين عن حديثه، فقال:"لا بأس به"، ثم سئل إن كان صدوقًا، فأجاب:"نعم، كتبت عنه". وقال الحاكم: "ليس بالقوى عندهم"، يعني عند أهل العلم بالحديث.
(3)
الكُميت هو الكميت بن زيد بن خُنيس بن مجالد بن وُهَيب الأسدي، لقبه أبو المستهل، وينتهي نسبه إلى مُضَر، وهو ابن أخت الشاعر الكبير الفرزدق. ولد في الكوفة سنة 60 هـ، وقضى شطرًا من صباه في مسقط رأسه، حيث تغذى فكره بما كان من ذكرى ثورة الحسين بن علي رضي الله عنه واستشهاده وبروح التمرد على حكم الأمويين. كان الكميت في مطلع حياته يعلّم الصبيان في مسجد الكوفة، ثم نبغ في الشعر حتّى أضحى من فحول الشعراء في عصره، وهو من أوائل شعراء الإسلام الذين جعلوا من الشعر أداة للتعبير عن آرائهم ومواقفهم السياسية، وكان ناطقًا بلسان الهاشميين في معارضتهم بني أمية، له ديوان مشهور بالهاشميات. تُوُفِّيَ الكميت بالكوفة في خلافة مروان بن محمد سنة 126/ 744 بعد عام واحد من خلافته. والعبسي هو شريح بن أوفَى بن يزيد بن زاهر بن جزء، أدرك النبي صلى الله عليه وسلم. كان من فرسان علي بن أبي طالب على ميسرة جيشه، قتل في معركة النهروان سنة 38 هـ. وأما أبيات الكميت التي يشير إليها المصنف فهي قوله:
طَرِبْتُ وَمَا شَوْقًا إِلَى الْبِيضِ أَطْرَبُ
…
وَلَا لَعِبًا مِنِّي وَذُو الشَّيْبِ يَلْعَبُ
وَلَمْ يُلْهِنِي دَارٌ وَلَا رَسْمُ مَنْزِلٍ
…
وَلَمْ يَتَطَرَّبْني بَنَانٌ مُخَضَّبُ
وَلَا السَّانِحَاتُ الْبَارِحَاتُ عَشِيَّةً
…
أَمَرَّ سَلِيمُ الْقَرْنِ أَمْ مَرَّ أَعْضَبُ؟ =
ثم لا حاجةَ بنا إلى التخليط الذي وقع فيه بعضُ المفسرين في ترجيح هذا التأويل بجلب الأدلة على وجوب مودة أهل قرابة رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ (1) فإن إبطالَ كون ذلك مستفادًا من هذه الآية لا يوهم إبطالَه في نفسه، إذ لم يدع أحدٌ انحصارَ الدليل في هذه الآية. (2)
وهنالك وجهٌ ثالث في تفسير الآية، هو أبعدُ الوجوه. فقد رُوِيَ عن ابن عباس والحسن البصري أن المعنى: إلا أن توادوا الله وتتقربوا إليه بالطاعة، فيكون المرادُ القربَى المجازية، أي: الموالاة وتطلُّب الرضا. ويكون التعريفُ للعهد، بقرينة من مقام الخطاب لا وجود لها في لفظ الآية.
وقد ذكر أبو بكر ابن العربي الوجوهَ الثلاثة، وقال إثرها:"وليس يبعد أن يكون الكلُّ معْنِيًا من الآية". (3) ويتعين أن يكون أراد مِنْ نفي الاستبعاد نفيَ
= وَلَكِنْ إِلَى أَهْلِ الْفَضَائِلِ وَالنُّهَى
…
وَخَيْرِ بَنِي حَوَّاءَ وَالْخَيْرُ يُطْلَبُ
إِلَى النَّفَرِ الْبِيضِ الَّذِينَ بِحُبِّهِمْ
…
إِلَى الله فِيمَا نَابَنِى أَتَقَرَّبُ
بَنِي هَاشِم رَهْطِ النَّبِيِّ فَإِنَّنِي .... بِهِمْ وَلَهُمْ أَرْضَى مِرَارًا وَأَغْضَبُ
خَفَضْتُ لَهُمْ مِنِّي جَنَاحَيْ مَوَدَّةٍ
…
إِلَى كَنَفٍ عِطْفَاهُ أَهْلٌ وَمْرْحَبُ
وَكُنْتُ لَهُمْ مِنْ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَا
…
مُحِبًّا، عَلَى أَنِّي أُذَمُّ وَأُقْصَبُ
وَأُرْمَى وَأَرْمِي بِالْعَدَاوَةِ أَهْلَهَا
…
وَإِنِّي لأُوذَى فِيهِمْ وَأُؤَنَّبُ
الأصفهاني: الأغاني، ج 6/ 17، ص 306 - 307. ولم أهتد إلى ما أشار إليه المصنف من شعر شريح.
(1)
انظر مثالًا لذلك في ابن كثير: عمدة التفسير وهو مختصر تفسير القرآن العظيم لابن كثير، صنعة الشيخ أحمد محمد شاكر، تحقيق أنور الباز (المنصورة/ مصر: دار الوفاء، 1424/ 2003)، ج 3، ص 254 - 256.
(2)
قال ابن كثير في هذا المعنى: "والحق تفسير الآية بما فسرها به الإمام حَبرُ الأمة، وترجمان القرآن، عبد الله بن عباس كما رواه البخاري، ولا ننكر الوصاةَ بأهل البيت، والأمرَ بالإحسان إليهم واحترامهم وإكرامهم، فإنهم من ذرية طاهرة، من أشرف بيت وجد على وجه الأرض، فخرًا وحسبًا ونسبًا، ولا سيما إذا كانوا متبعين للسنة النبوية الصحيحة الواضحة الجلية". عمدة التفسير، ج 3، 254. أما ما أشار إليه من تفسير ابن عباس للآية فقد ذكرناه في حاشية سابقة.
(3)
ابن العربي، أبو بكر محمد بن عبد الله: عارضة الأحوذي بشرح صحيح الترمذي، تحقيق جمال مرعشلي (بيروت: دار الكتب العلمية، 1417/ 1997)، "كتاب التفسير"، ج 6/ 12، ص 93 - 94.
استبعادٍ يقتضي البطلان، بحيث يكون احتمالًا لا يسمح به لفظُ الآية، وليس يعني به استواءَ الوجوه الثلاثة في التبادر من الآية. وكيف وهو بصدد شرح الخبر الذي أخرجه الترمذي عن ابن عباس أنه أنكر على سعيد بن جبير تفسيره الآية بالوجه الثاني وفسرها ابن عباس بالوجه الأول؟
وأما الاستثناء الواقع في قوله: "إلا المودة"، فهو منقطعٌ على جميع الوجوه؛ لأن المودة ليست بأجر. فالاستثناءُ في معنى الاستدراك، وقد استُعمِلت أداةُ الاستثناء في معنى أداة الاستدراك. ولذلك جعل العلماءُ الاستثناءَ في مثله منقطعًا، ثم فسروه بأنه على ادعاء أنه إن كان أجرٌ فهذا هو أجري. ويُسمَّى هذا الاستعمالُ في اصطلاح الأدباء تأكيدَ المدح بما يشبه الذم، وهو معدودٌ في المحسِّنات البديعية بهذا الاسم وبضده، وهو تأكيدُ الذم بما يشبه المدح.
وقال العلامة التفتازاني: "الأجدر أن يُسمَّى تأكيدَ الشيء بما يشبه نقيضَه". (1) وأنا سَمَّيتُه في كتاب "موجز البلاغة"(2) تأكيدَ الشيء بما يشبه ضدَّه، توسعةً في التسمية، لئلا يختص بالنقيض. ثم أرى أنه يتعين في مثل هذا الاستثناء أنه إن وقع في مقام تُعتبر في مثله المحسناتُ فليسمَّ استثناءً ادعائيًّا، كما سَمَّى البلغاءُ بعضَ أنواع القصر قصرًا ادعائيًّا، وإن كان عريًّا عن قصد التحسين سُمِّيَ استثناءً منقطعًا. وللأديب تتبعُ فروقه، وتعيينُ صوبه من شيم بروقه (3).
(1) جاء ذلك خلال كلامه على المحسنات المعنوية في علم البديع من شرحه على تلخيص المفتاح. والقول المنسوب للتفتازاني ليس موجودًا بحرفه، وإنما يبدو أن المصنف ساقه بتصرف. انظر التفتازاني، سعد الدين مسعود بن عمر: المطول شرح تلخيص مفتاح العلوم، تحقيق عبد الحميد هنداوي (بيروت: دار الكتب العلمية، 1422/ 2001)، ص 672 - 676.
(2)
انظر الرسالة المذكورة في المحور الرابع من هذا المجموع الخاص باللغة والأدب.
(3)
أي تحديد اتجاهه من النظر في مظاهره. والصَّوْبُ: المطر، يقال: شام السحابَ والبرق، أي: نظر إليه يتحقق أين يكون مطرُه.