الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
العلمُ الغالب في تلك القرون هو النقل والآثار، ولم يكونوا بحاجة إلى تجديد في علم الفقه، ولا في علم التوحيد.
[المائة الرابعة]:
وفيما هم على تلك الحال من الهدى إذ نبعت فيهم فئاتٌ يخوضون في أصول الدين خوضًا يشوب الأدلةَ الشرعية بالأصول الفلسفية، ويُعلنون أن الحقَّ هو الذي يجب أن يكون رائدَ المسلم في أصول الاعتقاد، ويردُّون الأدلةَ السمعية التي تخالف الأصول التي أصَّلوها ردًّا بالتأويل أو الإبطال. وكانوا قد درسوا ما تُرْجِم من علوم الأوائل، وأصبحت مبثوثةً بينهم وبين أتباعهم. وصاروا يتبجحون على مخالفيهم بأنهم لا ثقةَ بعلومهم؛ لعدم ارتياض عقولهم بالعلوم الحقيقية. فدخلت بذلك على الأمة فتنٌ في عقائدها، كانت أولاها فتنة القدر، ثم فتنة خلق القرآن، وتبعتها فتنةُ الاستثناء في الإيمان، وفتنة صحة إيمان المقلد، وفتنة خلق الأفعال، وغيرها.
فوجم أهلُ السنة وجمةً عضُّوا عندها على اعتقادهم بالنواجذ؛ فرثَّ الإسلامُ من ناحية العقيدة رثَّةً استدعت رحمة الله بأهله وضمانه لحفظه لأن يقيض مَنْ يذبُّ عن السنة، ويزيف مذاهبَ أهل الأهواء بنصب أدلة من نوع ما موَّهوا به على الناس، وذلك هو إمام المسلمين الشيخ أبو الحسن الأشعري.
كان الشيخُ من أتباع مذهب الاعتزال، فأنهضه الله للذب عن السنة، وبَيَّنَ له سُقمَ كثير من أصول المعتزلة، فانبرى لتأييد العقيدة الإسلامية السنية. وكان انتقالُه إلى أتباع السنة منذ سنة 300 هـ، وأخذ يدلل العقائدَ بالأدلة الفلسفية، ويُعَضِّدُ بِها الأدلةَ السمعية، فتم عمله في حدود سنة 310 هـ. وتوفي سنة نيف وثلاثمائة وثلاثين، وقيل سنة 330 هـ ببغداد. فهو مجددُ رأس المائة الرابعة، ولا أجدرَ منه بهذه المزية من علماء ذلك القرن.
لا بأسَ على المسلمين بعد ذلك في أمور شرعهم واعتقادهم وسلطانهم، ولكن ما طلع القرن الرابع، ولاح ظلُّه حتى حدثت في الإسلام دول كثيرة، وادعى
كلُّ زعيم في صقعه السلطانَ لنفسه، وضعف أمرُ الخلافة العباسية لظهور الدولة السامانية (1) فيما وراء النهر، والدولة البويهية في العراق، ودولة بني طولون بمصر، والدولة الصغارية بسجستان وخراسان، ودولة بني حمدان بالموصل والجزيرة والشام.
وفي أول هذا القرن ابتُلِىَ المسلمون بولاية الحاكم الفاطمي مُلْكَ مصر، وتفاقم حزبُ غلاة الشيعة بسائر أقطار الإسلام إدلالًا بملوكهم في مصر، وأنصارهم في الأقطار بالعراق والشام وجباله، وبإفريقية. وآلت الحال بالحاكم إلى أن ادعى الإلهية، واستوزر حمزةَ زعيم الإسماعيلية من الفاطمية، فأصبح المشرقُ والمغرب في مرج وفتنة من جراء تعدد الدول، وظهور ضلال النحل، وأصبحت قوةُ دول الإسلام مسلطة على أنفسهم بالحروب الطاحنة التي أزهقت النفوس، وكانت قصاراها أخذًا وردًّا في أصقاع الإسلام. فضعفت السلطنةُ الإسلامية وجاه أعداءُ الإسلام، وانقطعت الفتوحُ وبَثُّ الدعوةِ الإسلامية الذي كان من أمر الدين منذ ظهر الدين.
فظهر السلطان محمود بن سُبُكْتُكِين الغزنوي يمين الدولة، وصار إليه الملك بغزنة سنة 388 هـ، وكان من أشد الثوار المتغلبين على الدولة العباسية، ومسّ بحروبه سائر الممالك التي استبدت على الدولة العباسية. كان محمود بن سُبُكتكين بَدَا له في سنة 392 هـ أن يأتي عملًا يكون كفارة عما فرط منه في ابتداء تأسيس سلطانه من قتال المسلمين؛ فصمم العزمَ على أن يفتح للإسلام بلادَ الهند، فأخذ يستعد لغزو الهند، وهجم على تخومها، وكان يفتح البلاد، ويحمل أهلها على الإسلام.
وكانت الحربُ سجالًا، والهدنة تعقب قتالًا، وكان ملوك الهند كلما أحسوا بانصراف يمين الدولة عنهم نقضوا طاعتَه وكفروا، إلى سنة 406 هـ[حينما] غزا الهندَ غزوتَه الفاصلة، فجهَّز جيشًا عظيمًا، فابتدأ بغزو بلاد الأفغان، ثم اخترق بلادَ
(1) في الأصل "السمانية"، والصواب ما أثبتناه.