الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
سواء رضيَها أم أسخطها. ولا مريةَ أن إتيانَ الشيء بعد العلم بحاله أدعى للدوام عليه إن كان خَيْرًا، وأقربُ إلى الانكفاف والتقهقر عنه في حال سخافته وكراهته التي تنطبع في النفس مع العلم بحاله، مهما غولطت تلك النفسُ في انطباعه، أو عرضت سُحبُ وهمها لستر شعاعه.
المقدم منه والمتعين:
الغاية التي حض الله تعالى عليها الناس بلولا المتلوة بالفعل هي الفقه في الدين، والفقه إدراكُ الأشياء الخفية، وهو بهذا المعنى بابُ الحكمة، أو هو الحكمة نفسها. ولذا نرى الله تعالى ينفي عن أقوام الفقه في مواضع الخفاء، نحو ما قال:{وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ} [الإسراء: 44]، فهو تَمهيدٌ للعذر في الجملة، وينفي عن آخرين العلم في مواضع الظهور نحو "لا يعلمون"، وفرق ما بين العلم والفقه.
كان الله تعالى - ولا يزال - حريصًا على المؤمنين أن يتلقوا الدينَ بفهم لخفاياه وأسراره، فأوصاهم في غير موضع بالفهم والاستنباط والعلم، مرة بالتصريح وأخرى بالإشارة، حتى بترك البيان في مواضع. وذلك أرشدنا إلى أن الغايةَ المطلوبة من العلم - كيفما كان - هي الوصولُ إلى معرفة الأشياء على ما هي عليه، بحيث لا يحتمل نقيضًا، ولا يؤثر فيه تشكيكُ المشكِّكين، ولا اعتراضُ أو سخطُ الواهمين.
سنَّ الله تعالى النفرَ في طلب العلم، والعلم وإن كان ربما وُجد في فسطاطك بل في بيتك، فقد كان النفر والرحلة من أكبر ما يفيد قوتَه وكمالَه. وبمقدار الرحلة إليه تحصل غاياتٌ شريفة من معانيه؛ لأن التعلمَ باعتبار المغبَّة يؤول إلى توسيع الرأي وقوته، ليكون رائدَ نفسه بنفسه. والعملُ الذي هو موجِبُ رسوخ الملكات في أصحابها ونموِّها في جانب العلم والرأي، هو ملاقاةُ الآراء وتقادحُها، حتى قيل:"ما بين الرأيين رأي".
انظر إلى رجلٍ يقرأ في بيته ما يقرأ الناس، كيف لا تجده على كمال نحو ما تجد المتعلم بالدروس العامة؛ لِمَا يلقاه من مقادحة الأفكار ومبادلة الآراء. وفي ذلك
دربةٌ عقلية طبيعة تحصل بتدرِّجٍ وخفاء حتى تنموَ الملكةُ العقلية وتعتاد بالعمل والتيقظ؛ إذ التشاورُ الفكري والتبادل النظري يجعل جليسَك منبِّهًا لغفلتك عند حصولها، كما يجعلك له منبِّهًا، حتى يصير التنبُّه إلى الحقائق سجيَّة لك متى كنت مجبولًا على التهيؤ لذلك، والرحلة بعد ذلك تفيد [تيقظًا](1) أكبر.
ولو ذهبت تعد الأفراد الذين سموا برسوخ القدم إلى مرتقى راق في قوة الرأي، لرأيت فيهم من الراحلين أكثر مما ترى في غيرهم؛ وما وصلت قرطبةُ بعلمائها إلى تلك الغاية إلا بالرحلة. ولعلك تذكر الباجي، والأصيلي، وأبا بكر ابن العربي، وبقيَّ بن مخلد، ومنذرًا بن سعيد البلوطي، وعبد الملك بن حبيب و [غيرهم]. (2)
(1) زيادة اقتضاها السياق ليتم مساق الكلام.
(2)
جاء بعد الواو هنا فراغ منقوط، ولعل الأقرب إلى المراد منه العبارة التي وضعناها بين حاصرتين. وبقي بن مخلد هو أبو عبد الرحمن بقي بن مخلد بن يزيد، الإمام، الحافظ، شيخ الإسلام، الأندلسي القرطبي. ولد في حدود سنة 200 هـ، أو قبلها بقليل. طلب العلم في الأندلس، ورحل إلى المشرق في سبيل ذلك. سمع من كثيرين، منهم يحيى بن يحيى الليثي، ويحيى بن عبد الله بن بكرٍ، ومحمد بن عيسى الأعشى، وأبو مصعب الزهري، وصفوان بن صالح، وإبراهيم بن المنذر الحزامي، وأحمد بن حنبل - سمع منه مسائل وفوائد. ومنهم أبو بكر بن أبي شيبة، وجبارة بن المغلس، ويحيى بشر الحريري، وسويد بن سعيد، وهدبة بن خالد، ومحمد بن رمح، ومحمد بن أبان الواسطي، وحرملة بن يحيى، وإسماعيل بن عبيد الحراني، وعيسى بن حماد زغبة، وسحنون بن سعيد الفقيه، وهريم بن عبد الأعلى، ومنجاب بن الحارث، وعثمان بن أبي شيبة، وعبيد الله القواريري، وأبو كريب. وعني في رحلته بالحديث والرواية عناية فائقة، فعاد إلى الأندلس بعلم جم غزير. وبه وبمحمد بن وضاح صارت الجزيرة الخضراء دار حديث، ويقال إن عدة مشيخته الذين حمل عنهم مئتان وأربعة وثمانون رجلا. حدث عنه ابنه أحمد، وأيوب بن سليمان المري، وأحمد بن عبد الله الأموي، وأسلم بن عبد العزيز، ومحمد بن وزير، ومحمد بن عمر لبابة، والحسن بن سعد الكناني، وعبد الله بن يونس المرادي القبري، وعبد الواحد بن حمدون، وهشام الوليد الغافقي، وآخرون. كان إمامًا مجتهدًا صالِحًا، ربانيًّا صادقًا مخلصًا، رأسًا في العلم والعمل، عديم المثل، منقطع القرين، يفتي بالأثر، ولا يقلد أحدًا. وقد تفقه بإفريقية على سحنون بن سعيد صاحب المدونة. من مصنفاته "التفسير" و"المسند". توفي بقي بن مخلد سنة 276 هـ. أما البلوطي فهو أبو الحكم منذر بن سعيد البلوطي الأندلسي، قاضي الجماعة بقرطبة، ينسب إلى قبيلة يقال لها كزنة، وهو من موضع قريب من قرطبة يقال له "فحص البلوط". كان فقيهًا محققًا، وخطيبًا =