المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

عدوًّا من سوى أنفسهم فيستبيح بيضتَهم، وإن ربِّي قال: يا - جمهرة مقالات ورسائل الشيخ الإمام محمد الطاهر ابن عاشور - جـ ١

[ابن عاشور]

فهرس الكتاب

- ‌إهداء

- ‌فَاتِحَةُ الكِتَاب

- ‌بين يدي مقالات ابن عاشور ورسائله

- ‌تمهيد: أنا وتراث ابن عاشور:

- ‌محاولات سابقة لجمع مقالات ابن عاشور، ولكن

- ‌منهجنا في هذه الجمهرة جمعا وترتيبا:

- ‌شكر وعرفان ودعاء

- ‌ضميمة

- ‌المِحْوَرُ الأَوَّلفِي العَقِيْدَةِوَالتَفْسِيْر وَالفِكرِ وَالحِكمَةِ

- ‌الفَرْع الأَوّلالعَقيْدَة والتّفسِيْر

- ‌تنبيه ونصيحة

- ‌الرحمن على العرش استوى

- ‌[مقدمة]

- ‌[موقع الآية من المتشابه]

- ‌[طريقة السلف إزاء المتشابه]

- ‌[الخلف وتأويل المتشابه]

- ‌[رأي المصنف]

- ‌تكليم الله لموسى عليه السلام

- ‌وجهُ تسمية يوم القيامة بيوم التغابن

- ‌عصمة الأنبياء

- ‌القول الفصل - لا في الفضل - في عصمة الأنبياء من بعد النبوة ومن قبل:

- ‌قول عياض:

- ‌[الخلاصة]:

- ‌شفاعة محمد صلى الله عليه وسلم

- ‌معنى الشفاعة:

- ‌أنواع الشفاعة ومكانة الرسول عليه السلام منها:

- ‌مراجعة في تفسير قوله تعالى: {قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى}

- ‌المهدي المنتظر

- ‌[مقدمة]:

- ‌[مكانة حديث المهدي من تعاليم الإسلام]:

- ‌[مذاهب العلماء في المهدي]:

- ‌كيف نشأ القولُ بالمهدي المنتظر

- ‌[أنواع الآثار المروية في المهدي]:

- ‌الآثار المروية في المهدي:

- ‌الرأي في هذه الآثار من جهة علم الحديث:

- ‌الرأى فيها من جهة النظر:

- ‌الفَرْعَ الثَّانِيالفكْر وَالحكْمَة

- ‌من يجدد لهذه الأمة أمر دينها

- ‌[تمهيد]:

- ‌دعائم الإسلام:

- ‌معنى التجديد

- ‌مضي مائة سنة مظنة لتطرق الرثاثة والاحتياج إلى التجديد:

- ‌كيف يكون مبدأ تعيين المائة السنة

- ‌رأي ابن السبكي في نعت المجدد وزمنه:

- ‌رأي مجد الدين ابن الأثير في تعيين المجددين

- ‌التحقيق في صفات المجدد وصنفه وعدده:

- ‌التوسم في تعيين المجددين بحسب أدلة الحق المبين:

- ‌[المائة الأولى]:

- ‌[المائة الثانية]:

- ‌[المائة الثالثة]:

- ‌[المائة الرابعة]:

- ‌[المائة الخامسة]:

- ‌[المائة السادسة]:

- ‌[المائة السابعة]:

- ‌[المائة الثامنة]:

- ‌[المائة التاسعة]:

- ‌[المائة العاشرة]:

- ‌[المائة الحادية عشرة]:

- ‌[انحلال الجامعة الإسلامية وتزايد الفتن]:

- ‌[المائة الثانية عشرة]:

- ‌التقوى وحسن الخلق

- ‌شرف الكعبة

- ‌اللذة مع الحكمة

- ‌احترام الأفكار

- ‌العلم عند الله

- ‌تحصيله:

- ‌المقدم منه والمتعين:

- ‌خطته:

- ‌نعيمه والغاية القصوى منه:

- ‌مسألة خفية من مباحث الفلسفة الإسلامية: وحدة الوجود

- ‌ابن سينا والحكمة المشرقية

- ‌[تمهيد]:

- ‌أصل الحكمة اليونانية المنقولة إلى العربية:

- ‌طريقة الشيخ ابن سيناء في الحكمة:

- ‌الحكمة المشرقية:

- ‌الكتاب المعنون "منطق المشرقيين

- ‌الإنسان على الأرض

- ‌عمر الإنسان: ماذا أردت

- ‌أصول التقدم والمدنية في الإسلام

- ‌[مقدمة]

- ‌ما هو الإسلام

- ‌[التأسيسات الأصلية]

- ‌[وحدة النوع الإنساني: ]

- ‌ظهور الإسلام

- ‌واجب المسلمين أن يقتنعوا بهداية الإسلام

- ‌واجب المسلمين: النصيحة

- ‌ما هو النصح والنصيحة

- ‌اضطلاع الناصح بحق النصيحة:

- ‌قبول المنصوح للنصيحة:

- ‌الرفق بالحيوان في الإسلام

- ‌تحرير مسألة في علم الهيئة

- ‌المحْوَر الثّانِيفِي فِقْهِ السُّنَّةِ

- ‌الفَرْع الأَوّلفِقْه الحَدِيْث

- ‌التعريف بكتاب الموطأ للإمام مالك بن أنس رحمه الله ونشأة علم الحديث

- ‌[تمهيد]:

- ‌الاهتمام بتدوين ما صحت روايته عن رسول الله صلى الله عليه وسلم

- ‌الغرض من تأليف الموطأ

- ‌ما المراد بالحديث الصحيح

- ‌[نسخ الموطإ]

- ‌اسم كتاب "الموطأ

- ‌تحقيق مسمى الحديث القدسي

- ‌[تقديم]:

- ‌ تعريف الحديث القدسي

- ‌صيغة رواية الحديث القدسي:

- ‌الفرق بين الحديث القدسي والقرآن وبينه وبين غيره من الأحاديث النبوية:

- ‌مراجعة ما تضمنه كتاب "فتح الملك العلي

- ‌المراجعة الإجمالية:

- ‌المراجعة التفصيلية:

- ‌درس في موطأ الإمام مالك رضي الله عنه: "جامع القضاء وكراهيته

- ‌[تمهيد: القضاء بين الترغيب والترهيب]:

- ‌[العدل أساسُ صلاح العمران]:

- ‌[شرح الحديث]:

- ‌الأسانيد المريضة الرواية: "حديث طلب العلم فريضة

- ‌أقوال الحفاظ في رجال سنده:

- ‌آراء الحفاظ في حالته:

- ‌[روايات الحديث]:

- ‌التنبيه على أحاديث ضعيفة أو موضوعة رائجة على ألسنة الناس

- ‌خلق النور المحمدي

- ‌متن هذا الحديث:

- ‌مرتبة هذا الحديث من الصحة:

- ‌نقده من جهة اللفظ:

- ‌نقده من جهة المعنى:

- ‌دفع إشكال في حديث نبوي: "سألتُ ربي

- ‌سند هذا الحديث:

- ‌[معنى الحديث]:

- ‌حديث: من سُئل عن علمٍ فكتمه

- ‌[سند الحديث]:

- ‌معنى الحديث:

- ‌[مسائل في فقه الحديث]:

- ‌حديث: من لم يهتم بأمر المسلمين فليس منهم

- ‌سند الحديث واختلاف ألفاظه

- ‌معنى الحديث:

- ‌تحقيق الخبر المأثور: "لا رهبانية في الإسلام

- ‌معنى الرهبانية:

- ‌لا صفر

- ‌شهر رجب

- ‌شهر شعبان

- ‌لا عزاء بعد ثلاث

- ‌تحقيق معنى لفظ العزاء

الفصل: عدوًّا من سوى أنفسهم فيستبيح بيضتَهم، وإن ربِّي قال: يا

عدوًّا من سوى أنفسهم فيستبيح بيضتَهم، وإن ربِّي قال: يا محمد! إنِّي إذا قضيتُ قضاءً فإنه لا يرد، وإنِّي أعطيتُك لأمتك أن لا أهلكَهم بسنة عامة، وأن لا أُسَلِّطَ عليهم عدوًّا من سوى أنفسهم فيستبيح بيضتَهم، ولو اجتمع عليهم مَنْ بأقطارها (أو قال: من بين أقطارها)، حتى يكون بعضُهم يهلك بعضًا، ويسبي بعضهم بعضًا".

ورواه أبو داود والترمذي وأحمد بن حنبل وابن ماجه وابن حبان عن ثوبان بأطول من هذا يزيد بعضهم على بعض. (1)

[معنى الحديث]:

وهذا الحديث مع إشكاله لَم يتناوله شراحُ الحديث - عياض والنووي والأبي من شراح مسلم، وابن العربي في شرح الترمذي، والخطابي في شرح كتاب أبي داود - بما يستحقه من البيان، بل تراهم أعرضوا عن بيان المراد منه، وموافقته لما ظهر من الحوادث. وقصدنا الاقتصارُ على محل الإشكال من رواية مسلم.

ومعناه الذي أرى أن هذا الحديث مسوق للبشارة والتحذير معًا، وأنه جاء على سنن البلاغة النبوية بإيجاز بديع، وأنه يدل على أن رسولَ الله صلى الله عليه وسلم دعا ربَّه دعوةً استجيبت له، فأراد إدخالَ السرور بها على أمته ليعلموا كرامتَهم على الله ويزدادوا معرفةً بقدر رسولهم.

(1) ورواية مسلم عن ثوبان هي: "إن الله زوى لِيَ الأرض، فرأيت مشارقَها ومغاربها. وإن أمتي سيبلغ ملكُها ما زُوِيَ لي منها. وأُعطيت الكنزين: الأحمر والأبيض. وإني سألتُ ربِّي لأمتي أن لا يهلكَها بِسَنَةٍ عامة، وأن لا يُسَلِّط عليهم عدوًّا من سوى أنفسهم، فيستبيح بيضتَهم. وإن ربي قال: يا محمدُ، إنِّي إذا قضيتُ قضاءً فإنه لا يُرد، وإنِّي أعطيتك لأمتك أن لا أُهلكَهم بسنة عامة، وأن لا أسلط عليهم عدوًّا من سوى أنفسهم، يستبيح بيضتهم ولو اجتمع عليهم مَنْ بأقطارها - أو قال: مَنْ بَيْنَ أقطارها - حتى يكون بعضُهم يهلك بعضًا، ويسبي بعضُهم بعضا". صحيح مسلم، "كتاب الفتن وأشراط الساعة"، الحديث 2889، ص 1106 - 1107. سنن أبي داود، "كتاب الفتن والملاحم"، الحديث 4252، ص 666؛ سنن الترمذي، "كتاب الفتن"، الحديث 2176، ص 524 - 525؛ سنن ابن ماجه، "أبواب الفتن"، الحديث 3952، ص 567.

ص: 435

وقد دل على أن الدعوةَ مستجابةٌ قولُه في آخر الحديث، فيما يرويه عن ربه:"وإني أعطيتك لأمتك أن لا أسلط عليهم عدوًا" إلخ، وفيه تحذير مما يخشى وقوعه بين المسلمين من التقاتل. وله نظائرُ في التحذير كثيرة، منها قولُه صلى الله عليه وسلم:"فلا ترجعوا بعدي كفارًا يضرب بعضُكم رقابَ بعض".

والتسلطُ في كلام العرب هو الغلب، قال الله تعالى:{وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَسَلَّطَهُمْ عَلَيْكُمْ فَلَقَاتَلُوكُمْ} [النساء: 90]. واشتقاقُه من السلاطة، وهي الشدة، يقال: فلان سليط اللسان، أي: خبيث القول، ومنه اشتقت السلطة والسلطان.

وقد أُريد بالتسليط هنا الشدة، وهو تسليطُ الإهلاك والاستئصال، بدليل مجيء فاء التسبب الجعلي عقبه في قوله:"فيستبيح بيضتَهم"، فيعود الكلام إلى معنى:"وأن لا يستبيح عدوُّهم بيضتَهم".

والنكتةُ في ابتداء الدعاء بنفي التسليط ثم تعقيبه بنفي الاستجابة هي التأدُّب بإسناد الفعل المطلوب إلى الله تعالى، وأن العدوَّ إذا لم يسلطه اللهُ لا يستطيع استباحةَ بيضة المسلمين. والسين والتاء في الاستباحة للصيرورة، مثل قولهم: استقام الأمر، أي: صار قيمًا، فالمعنى: فتصير بيضةُ المسلمين مباحةً لهذا العدو المسلط، والإباحة في الأصل المكنة، قال الشاعر:

أبَحْنَا حَيَّهُمْ قَتْلًا وَأَسْرًا

خَلَا الشَّمْطَاءِ وَالطِّفْلِ الصَّغِيرِ (1)

(1) هذا ثاني بيتين استشهد بهما ابن عقيل في باب الاستثناء، وأولهما:

تَرَكْنَا فِي الْحَضِيضِ بَنَاتِ عُوجٍ

عَوَاكِفَ قَدْ خَضَعْنَ إِلَى النُّسُورِ

وقد ذكر محققه أن هذين البيتين من الأبيات التي لم يقف "على نسبتها إلى قائل معين"، وقد اجتهد صاحب هذه الحاشية في ذلك ولكن بدون طائل. شرح ابن عقيل، ج 2، ص 236. (وفيه:"عدا" بدل "خلا").

ص: 436

وضدُّها الْحُرمة وهي المنع، ومنه وصف البلد الحرام. ومعنى صيرورة البيضة مباحةً أن لا يبقى لها من القوة والعزة ما يمنع العدوَّ من تناولها والتمكن منها، والبيضة هنا الجامعة. وأصلُ البيضة لأمة الحرب التي تُلبس على الرأس لتقيه ضربَ السيوف، مثل المغفر، ثم أُطلِقت على العزة مجازًا مرسلًا؛ لأنها سببُ العزة في الحرب للابسها أن يكون آمنًا من إتلاف نفسه. ثم أُطلقت على الأمر الذي تجتمع عليه الأمة، وبه قوامُها وبقاؤها. ومن ذلك قولُ العلماء: من شرط الخليفة أن يكون قادرًا على حماية البيضة.

والجامعةُ في اعتبار الإسلام هي جامعة الدين، فلا التفاتَ إلى القبائل والأحياء، ولا إلى الأوطان والأمم. ولكن الجامعةَ الإسلامية لَمَّا كانت حاصلةً في جماعة المسلمين، وكانت جماعةُ المسلمين لا غِنًى لها عن الاستقرار في مكان، فوطنُ الإسلام وبلاد الإسلام هو الأرض التي يقطنها طوائفُ من المسلمين.

فالتأم من معنى الكلام: أن الرسول صلى الله عليه وسلم سأل الله أن لا يسلط العدوَّ على الأمة تسليطًا يتمزق به إهابُ الجامعة الإسلامية. فليس الْمُرادُ أن لا يسلط العدُوَّ على بعض المسلمين في بعض الأقطار أو في بعض الأيام؛ لأن سنة الله في هذا الكون أن الدنيا دولٌ والحرب سجال، وأن الأمور موكولةٌ إلى أسبابها وعوارضها، فقد هُزِم المسلمون في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم في بعض الوقائع، كما قال تعالى:{هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا (11)} [الأحزاب: 11].

وإنما المراد أن لا يسلِّطَ عدوًّا على جميع الأمة فيستأصلها، بقرينة قوله قبله:"أن لا يهلكهم بسنة عامة"؛ أي بقحط يعم جميعَ بلاد الإسلام حتى يستأصلهم. فلا يمنع ذلك من حصول قحطٍ في بعض الجهات يُهلك طوائفَ من الناس، فقد كان قحطُ عامِ الرمادة في خلافة عمر رضي الله عنه، وكان غيرُه بعده. ونظيرُ هذا أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم سأل ربه غيرَ مرة دعواتٍ مرجعُها إلى حماية هذه الأمة من أسباب الاستئصال. فقد أمن الله أمةَ محمد صلى الله عليه وسلم من الخسف، ومن الهلاك بالريح، ونحو ذلك مما أُهلكت به

ص: 437

الأممُ البائدة. وفي حديث البخاري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "سألت ربي أن لا يهلك أمتي بعذاب من فوقهم أو من تحت أرجلهم، فاستجاب لِي. وسألته: أن لا يلبسهم شيعًا ويذيق بعضَهم بأسَ بعض، فلم يستجبْ لِي". (1)

وفي الصحيح أنه لمَّا نزل قولُه تعالى: {قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ} [الأنعام: 65]، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"أعوذ بوجهك"، قال:{أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ} . قال: "أعوذ بوجهك". {أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ} ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"هذا أهون، أو هذا أيسر". (2) فالرسول عليه السلام حريصٌ على أن لا يصيب الأمةَ شيءٌ يستأصلها؛ لأن ذلك يقطع أعظمَ شيء عند الرسول وهو توحيدُ الله وعبادته. ألا ترى قوله يوم بدر وهو في العريش: "اللهم إن تهلك هذه العصابة لا تعبد في الأرض"؟

وذلك أن الأمم الماضية أصابهم الاستئصالُ بأنواع المهلكات، من نحو الغرق لقوم نوح، والريح لعاد، والخسف لأهل سدوم، والصاعقة لثمود، وسيل العرِم لسبأ، والصيحة لمدين، فباد جمعهم وهلكوا، والاستئصال بالسيف لبني إسرائيل

(1) لَم أجده في صحيح البخاري، لا بهذا اللفظ ولا بغيره، وليس موجودًا به عند غيره، وقد سبق في معنى ما ذكره المصنف ما جاء في حديث ثوبان. والأقرب إلى ما ساقه المصنف هو ما رواه مسلم قال:"حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة، حدثنا عبد الله بن نمير، وحدثنا ابن نمير (واللفظ له)، حدثنا أبي، حدثنا عثمان بن حكيم، أخبرني عامر بن سعد عن أبيه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أقبل ذات يوم من العالية، حتى إذا مر بمسجد بني معاوية، دخل فركع فيه ركعتين، وصلينا معه، ودعا ربه طويلًا. ثم انصرف إلينا، فقال صلى الله عليه وسلم: "سألت ربي ثلاثًا، فأعطاني ثنتين ومنعني واحدة: سألت ربي أن لا يهلك أمتي بالسنة فأعطانيها، وسألته أن لا يهلك أمتي بالغرق فأعطانيها، وسألته أن لا يجعل بأسهم بينهم فمنعنيها"". صحيح مسلم، "كتاب الفتن وأشراط الساعة"، الحديث 2890، ص 1107. وقريب منه ما أخرجه الترمذي: سنن الترمذي، "كتاب الفتن"، الحديث 2175، ص 524.

(2)

صحيح البخاري، "كتاب التفسير"، الحديث 4628، ص 792؛ وكذلك "كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة"، الحديث 7313، ص 1259 و"كتاب التوحيد"، الحديث 7406، ص 1274.

ص: 438

على أيدي السريان في مدة بختنصر (1) ثم أيدي الرومان في زمن طيطس، (2) حتى استبيحت بيضتُهم وزالت جامعتُهم إلى اليوم.

والمُرادُ بالعدو المعادي، أي المخالف الْحَنِق، وهو هنا عدوُّ الدين، بقرينة مقابلته بمجموع الأمة الإسلامية. وقوله:"من سوى أنسهم"، أي من غير قومهم؛ لأن الأنفس في مثل هذا المقام يُراد به الصميم. والقوم: المراد هنا القومية الدينية لا القبيلية، (3) فيجوز أن لا يكون هذا الوصفُ لقوله:"عدوًّا" وصفًا كاشفًا؛ إذ العدو لا يكون إلا من غير القوم، أي عدوًّا من غير المسلمين. وحينئذ فليس فيه ما يقتضي أن يسلط على المسلمين عدوًّا منهم يستاصلهم.

ويجوز أن يكون وصفًا مقيِّدا لقوله عدوًّا معاديًا من أنفسهم، فيكون المعنى على تأويل: عدوًّا لبقيتهم أي فريق من المسلمين يكون عدوًّا لبقيتهم. فيكون رسول الله صلى الله عليه وسلم دعا الله دعوةً لاحظَ فيها حقَّ الأدب مع الله؛ لأن سنة الله في خلقه أن لا تسلم أمةٌ من عدو يناوئها. فسأل الله أن يسلمها من عدو شديد العداوة يستأصلها ويهينها؛

(1) بختنصر أو يختنصر، هو نبوخذ نصر بن نبوبلا نصر يختنصر نبوخذ نصر الكلداني ملك بابل ما بين سنتي 605 و 563 قبل ميلاد السيح، ويعرف في اللغات الأوروبية بـ Nebuchadnezzar. اشتهر بإنجازاته العمرانية في مدينة بابل بصورة خاصة وباقي مدن العراق بصورة عامة، وإن ما يشاهده الزائر في مدينة بابل هو بالأساس من نشاطاته العمرانية. وقد بنى الجنائن المعلقة في مدينة بابل لزوجته التي كانت تحن إلى موطنها الجبلي، وقد عُد ذلك من عجائب الدنيا السبعة. قاد الجيوش البابلية في معارك حاسمة ضد الجيوش المصرية وهزمها سنتي 609 و 605 قبل الميلاد، عندما كان وليًّا للعهد. وهو الذي قضى على مملكة يهوذا في حملتين خلال المدة 597 - 587 قبل الميلاد، وأسر ملكها وسبا عددًا كبيرًا من سكانها إلى باب، وهو ما يعرف في تاريخ اليهود بالسبي البابلي. وقد حفل كتاب أرميا من العهد القديم بمقاطع كثيرة في التحذير منه.

(2)

هو طيطس فلافيوس سابينوس فاسباسيانوس Titus Flavius Sabinus Vespasianus، عاش بين سنتي 40 و 81 ميلادية. أحد الأباطرة الرومان، كان يشبه نيرون في شدته وقسوته. كان ذكيًّا، محنكًا داهية، وكان محاربًا ماهرًا. استولَى على القدس عام سبعين للميلاد، وقام بتخريبها وإحراقها بكل مبانيها، كما أعمل جنودُه السلاحَ في سكانها تنكيلًا وتقتيلا.

(3)

نسبة إلى القبيلة، والأولَى أن يقال القبلية.

ص: 439

لأن غلبة العدو التام العداوة غلبةٌ مشتملة على إهانة بخلاف غلبة العدو الذي له بالمغلوب صلة واقتراب، فإنها لا تخلو من رحمة وتجنب للإهانة، كما قال البحتري:

وَفُرْسَانٌ هَيْجَاءُ تَجِيشُ صُدُورُها

بِأَحْقَادٍ حَتَّى تَضِيقَ دُرُوعُهَا

وَتْقتُلُ مِنْ وَتْرٍ أعزَّ نُفُوسِهَا

عَلَيْهَا بِأَيْدٍ مَا تَكَادُ تُطِيعُهَا

إِذَا احْتَرَبَتْ يومًا فَفَاضَتْ دِمَاؤُهَا

تَذَكَّرَتِ القُرْبَى فَفَاضَتْ دُمُوعُهَا (1)

وكما قال الحماسيُّ لمَّا أراد القودَ من أخيه حين قتل ابنه، ثم ألقى السيفَ من يده وقال:

أَقُولُ لِلنَّفْسِ تَأْسَاءً وَتَعْزِيَةً

إِحْدَى يَدَيَّ أَصَابَتْنِي وَلَمْ تُرِدِ

كِلَاهُمَا خَلَفٌ مِنْ فَقْدِ صَاحِبِهِ

هَذَا أَخِي حِينَ أَدْعُوهُ وَذَا وَلَدِي (2)

وعليه فليس الْمرادُ من تسليط العدوِّ الذي هو من أنفس الأمة تسليطَ الاستئصال؛ لأن ذلك غيرُ متوهَّمٍ في العرف أن يصدر من متسلط من أنفس القوم. ويدل لذلك قولُه في آخر الحديث: "حتى يكونَ بعضُهم يهلك بعضًا، ويسبي بعضُهم بعضًا".

والحديث على هذا البيان لا ينافيه شيءٌ مما حدث من أحوال المسلمين في التاريخ. فقد تسلط العدوُّ على طوائف من المسلمين غير مرة، بعضُها كان تسلطًا معتادًا كالحروب الصليبية، وبعضُها كان فوق المعتاد كتسليط التتر والمغول على

(1) من قصيدة قالها الشاعر في مدح الخليفة العباسي المتوكل على الله. ديوان البحتري (القسطنطينية: مطبعة الجوائب، ط 1، 1300 هـ)، ج 1، ص 3. والوَتْرُ والوِتْر: الظلم، والموتور: الذي قُتل له قتيل فلم يدرك بدمه.

(2)

هذا الشعر نسبه أبو تمام وابن داود إلى أعرابِيٍّ، ولم يسمياه. المرزوقي: شرح ديوان الحماسة، ج 1، ص 207 (الحماسية رقم 46)؛ الأصبهاني، أبو بكر محمد بن داود: الزهرة، تحقيق إبراهيم السامرائي ونوري حمودي القيسي (الزرقاء/ الأردن: مكتبة المنار، ط 2، 1985)، ج 2، ص 550. وهناك اختلافٌ في بعض الألفاظ بين الروايتين.

ص: 440

المسلمين في المشرق سنين طويلة أهلكت الحرث والنسل إلى أن اعتنقوا الإسلام وصاروا إخوةً لِمَنْ كانوا أعداءَهم. وكتسلط القرامطة على بلاد العرب، وتسلط النصارى على المسلمين في مصر والشام أواخر القرن السادس وأوائل السابع، وتسلط الجلالقة على المسلمين في المغرب ببلاد الأندلس حتى انجلى عنها المسلمون وأصبحت أرضَ كفر، ولكن المسلمين الذين كانوا بها حلُّوا في ديار أخرى وانضموا إلى جامعتهم فلم يكن ذلك استئصالًا لهم، بله أن يكون استئصالًا لسائر الأمة وتمزيقًا لجامعتها وسلطانها.

وقد اقتتلت فرقُ المسلمين غير مرة قتالًا معتادًا أو أشدَّ من المعتاد، وحسبك منه قتالُ الخوارج الذي دام سنين طويلة، ولم يفض إلى تفانيهم واستئصال بعضهم بعضًا. وعلى هذا [يكون] (1) قولُه في حكاية جواب الله تعالى:"حتى يكون بعضهم يهلك بعضًا ويسبي بعضهم بعضًا" غايةً لانتفاء تسليط بعضهم على بعض ليست من جنس تسليط العدو عليهم، وشرط المعطوف بحتى أن يكون بعضًا من المعطوف عليه.

فتعين أن يكونَ في الكلام إيجازُ حذفٍ دل على عِظَمِ فضل الله تعالى على رسوله؛ إذ استجاب له بأكثر مِمَّا سأله: فإنه سأله أن لا يسلطَ عليهم عدوًّا من غيرهم يستبيح بيضتَهم فاستجاب له بذلك، وبأن لا يسلط عليهم من أنفسهم أيضًا مسلَّطًا في كون من الأكوان وحال من الأحوال إلى الغاية التي يكون بعضُهم فيها يهلك بعضًا ويسبي بعضُهم بعضًا.

وهذا الأسلوب يشبه أن يكون من تأكيد الشيء بما يشبه ضدَّه؛ إذ يوهم بظاهره أن تلك الغاية نهايةٌ لقوله: "أن لا يسلط عليهم عدوًّا من سوى أنفسهم"، وهي في الحقيقة ليست غايةً لذلك، فإن ذلك منتفٍ أبدًا إلى غير غاية، وإنما هو غايةٌ لمحذوف، وهو ما أشرت إليه آنفًا.

(1) زيادة اقتضاها السياق.

ص: 441

ويجوز أن يكون المراد من قوله: "حتى يكون بعضهم يهلك بعضًا" إلخ، غايةً لنفي تسليط العدو من غير تقييد كون العدو من غير أنفسهم، أي تسليط بعض المسلمين على بعض تسليطًا يستبيح بيضتَهم ويفني جماعتَهم. فيكون ذلك إخبارًا عن غاية من الزمان تحصل فيه فتنٌ عظيمة، فيرتد فريقٌ من المسلمين عن الإسلام ويكون مساويًا للفريق الباقين على الإسلام في العدد، وتزول منهم حرمةُ أحكامه فيقتل بعضهم بعضًا قتلَ استئصال حتى لا يبقى من يقول: الله، الله، كما ورد في الحديث:"لا تقوم الساعة إلا على شرار الخلق"، (1) وذلك بأن يسلط بعضَ المسلمين على بعض، ويسلب الغالبين رشدَهم فيهلكوا البقية، نظيرَ ما سلب الله نيرون سلطان الرومان من العقل حتى صار يَلَذُّ له إزهاقُ نفوس قومه وإحراقُ عاصمة سلطانه. فيكون هؤلاء قد {بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللَّهِ كُفْرًا وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ (28)} [إبراهيم: 28]، وهي غاية بعيدة المدى، ما بقيت في المسلمين مِسكةٌ من هدى، نسأل الله أن يعيذ الأمة من هذه الحالة ببركة رسولها عليه السلام.

(1) صحيح مسلم، "كتاب الفتن وأشراط الساعة"، الحديث 2949، ص 1130، ولفظه عن مَعْقِل بن يسار:"لا تقوم الساعة إلا على شرار الناس". أما باللفظ الذي أورده المصنف فهو من كلام عبد الله ابن عمرو بن العاص كما خرجه مسلم ("كتاب الإمارة"، الحديث 1924، ص 765): "حدثني أحمد بن عبد الرحمن بن وهب، حدثنا عمي عبد الله بن وهب، حدثنا عمرو بن الحارث، حدثني يزيد بن أبي حبيب، حدثني عبد الرحمن بن شماسة المهري، قال: كنت عند مسلمة بن مخلد، وعنده عبد الله بن عمرو بن العاص، فقال عبد الله: لا تقوم الساعة إلا على شرار الخلق، هم شر من أهل الجاهلية، لا يدعون الله بشيء إلا رده عليهم. فبينما هم على ذلك أقبل عقبة بن عامر، فقال له مسلمة: يا عقبة! اسمع ما يقول عبد الله. فقال عقبة: هو أعلم. وأما أنا فسمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "لا تزال عصابة من أمتي يقاتلون على أمر الله، قاهرين لعدوهم، لا يضرهم مَنْ خالفهم، حتى تأتيَهم الساعةُ وهم على ذلك". فقال عبد الله: أجل، ثم يبعث الله ريحًا كريح المسك، مسُّها مسُّ الحرير، فلا تترك نفسًا في قلبه مثقالُ حبةٍ من الإيمان إلا قبضتْه، ثم يبقى شرارُ الناس، عليهم تقوم الساعة".

ص: 442