الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
شهر رجب
(1)
هو من الأشهر الحرم، تقرر تحريمه في الجاهلية عند مضر كلها، دون بقية العرب من العدنانيين والقحطانيين. فالظن أن تحريمه لم يكن من عهد إبراهيم عليه السلام؛ لأنه لم تُجمع العربُ على تحريمه. والظاهر أن مضر جعلوه شهرًا حرامًا ليكونوا آمنين فيه، قصدًا لزيادة الأمن في العام. ولذلك جعلوه شهرَ العمرة، ليُكسِبوه مهابةً عند غير المُضريين من العرب، والعرب كلهم يعظِّمون القاصدين زيارةَ البيت، قال النابغة يصف حجَّه:
مُشَمِّرِينَ عَلَى خُوصٍ مُزَمَّمَةٍ
…
نَرْجُو الإلَهَ وَنَرْجُو البِرَّ وَالطُّعَمَا (2)
ومن تعظيم الحجيج أن أقسمت العربُ بالله بعنوان كونه تعالَى ربَّ الحجيج، قال العجاج:
وَرَبِّ أَسرَابِ حَجِيجٍ كَظَّمِ
…
عَنِ اللَّغَا وَرَفَثِ التَّكَلُّمِ (3)
فحصل من ذلك تعظيمُ هذا الشهر عند العرب، وقد أشار إلى ذلك النبي صلى الله عليه وسلم في خطبة حجة الوداع في ذكر الأشهر الحرم إذ قال:"ورجب مضر الذي بين جمادى وشعبان". (4) وقد لقبه العرب بالأصم، أرادوا أنه لا يسمع الناسُ فيه قعقعةَ
(1) المجلة الزيتونة، المجلد 2، الجزء 1، شعبان 1356/ أكتوبر 1937 (ص 45 - 46).
(2)
ديوان النابغة الذبياني، ص 106 (نشرة عبد السلام هارون)، وص 217 (نشرة ابن عاشور).
(3)
ديوان العجاج، برواية الأصمعي وشرحه، تحقيق عزت حسن (بيروت: مكتبة دار الشرق، بدون تاريخ)، ص 59. التيمي، أبو عبيدة مَعْمر بن المثنى: مجاز القرآن، تحقيق محمد فؤاد سزكين (القاهرة: مكتبة الخانجي، 1988)، ج 1، ص 70. (وقد استشهد بعجز البيت).
(4)
سبق تخريجه في مقال "لا صفر".
السلاح للقتال، فجعلوه أصم عن سماعها على طريقة المجاز العقلي. ولقبه المولَّدون بالأصب، بالباء، ولعله تحريف أو قلب خفيف. ولقبوه أيضًا بالفرد؛ لأنه شهرٌ حرام فرد بين أشهر حلال، بخلاف الأشهر الحرم الأخرى فهي متتابعة. فلذلك شاع إردافُ شهر رجب عند الكتاب والمؤلفين بوصفه بأحد هذه الأوصاف. وليتهم تركوا ذلك، فإنه من الفضول في الكلام والتطويل الذي لا طائلَ تحته. وما كانت العربُ تفعل ذلك، ولا هو مأثور عن السلف.
فلما جاء الإسلام، أقرَّ تحريم هذا الشهر في جملة ما أقر من المنافع، كما أشار إليه قولُ النبي صلى الله عليه وسلم يوم فتح مكة:"والله لا يسألونني خطةً يعظِّمون فيها حرمات الله إلا أجبتُهم إليها"، (1) فورد اعتبارُه من الشهر الحرم في قوله تعالى:{إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ} [التوبة: 36]، إذ فسره النبي صلى الله عليه وسلم في خطبة الوداع بقوله:"وإن عدة الشهور عند الله اثنى عشر شهرًا في كتاب الله يوم خلق السماوات والأرض، منها أربعة حرم: ذو القعدة وذو الحجة والمحرم ورجب مضر الذي بين جمادى وشعبان". (2)
وإن تحريم الأشهر الحرم في الإسلام لم يبق له حكم بعد عموم الإسلام بلادَ العرب في نظر جمهور العلماء؛ لأن القتالَ في الإسلام قد انقسم إلى مأذونٍ فيه ومحرم. فالقتالُ المأذونُ فيه لا يتعطل إذا وجد سببه، والقتالُ الحرامُ في الإسلام ممنوع في كل وقت. فلم يبق للأشهر الحرم مزيةٌ في الإسلام غيرُ الفضيلة التي
(1) وأخرج البخاري عن المسور بن مخرمة ومروان بن الحكم، من حديث طويل أنه عليه السلام قال:"والذي نفسي بيده، لا يسألونني خطةً يعظمون فيها حرمات الله إلا أعطيتهم إياها". صحيح البخاري، "كتاب الشروط"، الحديث 2731 - 2732، ص 449؛ ابن هشام: السيرة النبوية، ج 2/ 3، ص 242؛ السهيلي: الروض الأنف، ج 4، ص 42 - 43. وجاء بلفظ قريب مما ذكره المصنف:"والله لا يدعونني إلى خطة يعظمون فيها حرمةً ولا يدعون فيها إلى صلة إلا أجبتُهم إليها". عند المتقي الهندي: كنز العمال، "غزوة الحديبية" الحديث 30154، ج 10، ص 490.
(2)
سبق تخريجه.
تَقَرَّرْت لها من سالف الأيام، فهي معدودة من الأوقات الفاضلة، ولذلك يرغب الناس في الصوم فيها.
قال علماؤنا إن جميع أيام الأشهر الحرم أوقاتٌ للصوم المرغَّبِ فيه، ويزداد الترغيبُ بالنسبة للتسعة الأيام الأول من ذي الحجة، وللعشرة الأيام الأول من المحرم وخاصة التاسع والعاشر. ولم يثبت في الدين تفضيلٌ لصومِ أيامٍ معينة من الأشهر الحرم غير ما ذكرنا، وأما ما رُوِيَ عن أنس يرفعه:"رجب شهر الله، وشعبان شهري، ورمضان شهر أمتي"، فهو حديثٌ موضوع أو ضعيف. (1) ولم يرد في تخصيص يوم من أيام رجب بصوم أو صلاة حديث، والأحاديثُ المروية في ذلك لا تخرج عن الموضوع والضعيف.
أما ما ورد في "سنن ابن ماجه" من أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن صوم رجب كله، (2) فمعناه عند العلماء الكراهة لئلا يظن الناسُ وجوبَ صومه كوجوب صوم رمضان. ولم يقل أحدٌ من أئمة مذاهب أهل السنة باستحباب صوم يوم معيَّن من
(1) ابن الجوزي، أبو الفرج عبد الرحمن بن علي بن محمد بن جعفر: كتاب الموضوعات من الأحاديث المرفوعات، تحقيق نور الدين بن شكري بن علي بويا جيلار (الرياض: أضواء السلف، ط 1، 1418/ 1997)، الحديث 1147، ج 2، ص 576. وقال الشوكاني بعد أن ساق عدة روايات للحديث:"هو موضوع، ورجاله مجهولون. وهذه هي صلاة الرغائب المشهورة، وقد اتفق الحفاظ على أنها موضوعة، وألفوا فيها مؤلفات، وغلطوا الخطيب في كلامه فيها. وأول من رد عليه من المعاصرين له ابن عبد السلام. وليس كون هذه الصلاة موضوعة مما يخفى على مثل الخطيب، والله أعلم ما حمله على ذلك، وإنما أطال الحفاظ المقال في هذه الصلاة المكذوبة بسبب كلام الخطيب، وهي أقل من أن يشتغل بها ويتكلم عليها، فوضعها لا يمتري فيه مَنْ له إلمام بفن الحديث". الشوكاني، محمد بن علي: الفوائد المجموعة والأحاديث الموضوعة، تحقيق عبد الرحمن المعلِّمي (بيروت: المكتب الإسلامي، ط 2، 1407/ 1987)، الحديث 146، ص 61 - 62. ونلاحظ أن ورود اسم الخطيب في كلام الشوكاني خطأ أو تحريف؛ لأن الخطيب البغدادي المتوفَّى سنة 463 هـ لا شأن له بأمر هذه الصلاة، وإنماِ الذي انتصر لها هو ابن الصلاح المتوفَّى سنة 643 هـ. ويعضد ما قلنا ذكره للعز بن عبد السلام المتوفَّى عام 660 هـ بحسبانه أول من رد جمليه من معاصريه.
(2)
سنن ابن ماجه، "كتاب الصيام"، الحديث 1743، ص 248 (عن ابن عباس).
رجب، بَلْه سُنِّيَتِه. ويومُ الجمعة الأول من رجب يسميه الناس جمعة الرغائب، ولا وجهَ لهذه التسمية. وإنما ورد في حديث عن أنس مرفوعًا أن الملائكة تسمي أول ليلةٍ من رجب ليلةَ الرغائب، وهو حديثٌ ذكره ابنُ الجوزي في الموضوعات، وقال:"إنه موضوع، ورجاله مجهولون". (1) ولم يتعقبه السيوطي في "اللآلئ المصنوعة".
هذا وقد قيل: إن شهر رجب كان فيه الإسراء برسول الله صلى الله عليه وسلم، وذلك أحد أقوال. فقيل: كان الإسراء في ربيع الأول سبعة عشرة، وقيل: سبع وعشرين، وقيل: كان ليلة تسع وعشرين من رمضان، وقيل: ليلة سبع وعشرين من ربيع الآخر، وقيل: ليلة سبع وعشرين من رجب، واختار هذا الحافظ عبد الغني المقدسي. (2) وقيل: كان الإسراء في شوال، وقيل: في ذي الحجة. وقد جرى عملُ المسلمين على متابعة ما اختاره الحافظ عبد الغني المقدسي، فجعلوا ليلة سبع وعشرين من رجب ليلة ذكرى الإسراء، ولعل الله قد وفقهم في هذا العمل فيكون ترجيحًا لذلك الاختيار.
(1) قال ابن الجوزي: "وسمعت شيخنا عبد الوهاب الحافظ يقول: رجاله مجهولون، وقد فتشت عنهم جميع الكتب فما وجدتهم". كتاب الموضوعات، ج 2، ص 438. ثم قال هو:"هذا حديثٌ موضوع على رسول الله صلى الله عليه وسلم". المرجع نفسه، ص 577.
(2)
هو الإمام الحافظ تقي الدين أبو محمد عبد الغني بن عبد الواحد بن علي بن سرور بن رافع بن حسن بن جعفر، المقدسي، الجمَّاعيلي، ثم الدمشقي، الصالحي الحنبلي. وُلِدَ بجمَّاعيل من أرض نابلس سنة 541 هـ، ونُسِب لبيت المقدس لقُرب جمَّاعيل منه ولأن نابلس وأعمالها جميعًا من توابع بيت المقدس. اتَّجه الحافظ عبد الغني إلى طلب العلم في سن مبكرة، فتتلْمَذ في صغره على عميد أسرته الشيخ محمد بن أحمد بن قدامة المقدسي، ثم تتلمذ على شيوخ دمشق وعلمائها، فأخذ عنهم الفقه وغيره من العلوم. كانت له رحلاتٌ علمية جابَ خلالها كثِيرًا من البلدان، وسمع خلالها بدمشق والإسكندرية وبيت المقدس والقاهرة وبغداد وحرَّان والموصل وأصبهان وهمذان وغيرها. رحل إلى بغداد سنة 561 هـ مع ابن خاله الشيخ الموفق (وكان ميلُ الموفق إلى الفقه، والحافظ عبد الغني إلى الحديث)، فأقاما بها أربع سنين ونزلا على الشيخ عبد القادر الجيلاني الذي كان يراعيهما ويحسن إليهما، وقرآ عليه شيئًا من الحديث والفقه. ثم رحل الحافظ المقدسي سنة 566 هـ إلى القاهرة والإسكندرية وأقام هناك مدة سمع فيها من الحافظ أبي الطاهر السِّلْفي وغيره. ولم يزل كثير الإقراء والإفادة والتصنيف، معروفًا بالتبتل والعبادة إلى أن توفاه الله على ذلك سنة 600 هـ.