الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
التقوى وحسن الخلق
(1)
عن أبي ذر ومعاذ بن جبل رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "اتَّقِ اللهَ حَيْثُمَا كُنْت، وَأَتْبِعِ السَّيِّئَةَ الْحَسَنَةَ تَمْحُهَا، وَخَالِقِ النَّاسَ بِخُلُقٍ حَسَن". (2)
هذا الحديثُ الشريف من جوامع كلمه صلى الله عليه وسلم، فقد اشتمل على نهاية الإيجاز وما يقرب من حدِّ الإعجاز. فإنه مع قلة ألفاظه وعذوبة نظمه، جمع صلى الله عليه وسلم فيه ما يلزم الإنسانَ في دار التكليف من أداء حقوق الخالق ومعاملة المخلوق، وذلك مدارُ كلية التكليف كما لا يخفى.
والخطاب وإن كان لجزئية استعماله يقتضي قَصْرَ الحكم على المواجَه به، لكنه يعمُّ كلَّ مكلَّف صالح للخطاب عمومًا حقيقيًّا، على ما هو طريقةُ الحنابلة المنسوبة إليهم في المستصفى؛ (3) إذ كلُّ مكلَّف موجَّهٌ له الخطابُ القرآني الذي هو عنوانُ الحكم التكليفي. والمبلِّغُ الأول الرسولُ صلواتُ الله عليه، ثم المتأهِّلُ لذلك من
(1) المجلة الزيتونية، المجلد 3، الجزء 5، ربيع الأول 1358/ مايو 1939 (ص 224 - 231). وقد وردت في الحاشية العبارة الآتية بقلم محرر المجلة:"درس الحديث الذي ختم به فضيلة الشيخ في مسجد مدرسة حوانيت عاشور في رمضان".
(2)
سنن الترمذي، "كتاب البر والصلة"، الحديث 1987، ص 483. قال الترمذي:"هذا حديث حسن صحيح".
(3)
لم أجد ما ذكره المصنف في مستصفى الغزالي، ويبدو أنه سهو أو زلة قلم إن لم ينقله من بعض مصنفات حجة الإسلام الأخرى كالإحياء. وانظر مناقشة مستفيضة للمسألة في: ابن عقيل: أبو الوفاء علي بن عقيل بن محمد: الواضح في أصول الفقه، تحقيق جورج المقدسي (بيروت: مؤسسة الرسالة، 1423/ 2002، إصدار جمعية المستشرقين الألمانية)، ج 4 (القسم الأول)، ص 215 - 221.
الصحابة وعلماء الأمة الوارد فيهم: "علماءُ أمتي كأنبياء بني إسرائيل". (1)
و"اتق" أمر من الاتقاء، افتعال من الوقاية التي هي في اللغة فرطُ الصيانة وشدةُ الاحتراس من المكاره. ومنه فرس واق، إذا كان يقي أدنَى شيء يصيبه. ومن الصيغة بذلك المعنى قولُ الشاعر:
فَألْقَتْ قِنَاعًا دُونَهُ الشَّمْسُ وَاتَّقَتْ
…
بِأَحْسَنِ مَوْصُولَيْنِ: كَفٍّ وَمِعْصَمِ (2)
ومنه قولُ النابغة:
سَقَطَ النَّصِيفُ وَلَمْ تُرِدْ إسْقَاطَهُ
…
فَتَنَاوَلَتْهُ وَاتَّقَتْنَا بِالْيَدِ (3)
(1) قال المناوي: "سئل الحافظُ العراقي عما اشتهر على الألسنة من حديث "علماء أمتي كأنبياء بني إسرائيل"، فقال: لا أصلَ له، ولا إسنادَ بهذا اللفظ. ويغني عنه "العلماء ورثة الأنبياء"، وهو حديث صحيح. "فيض القدير"، الحديث 5705، ج 4، ص 384.
(2)
البيت لأبي حية النميري من قصيد طويلة طالعها:
أَلَا يَا انْعَمِي أَطْلَالُ خَنْسَاءَ وَانْعَمِي
…
صَبَاحًا وَإِمْسَاءً وَإِنْ لَمْ تَكَلَّمِي
البغدادي، أبو غالب محمد بن المبارك بن ميمون (تُوفِّيَ سنة 589 هـ): منتهى الطلب من أشعار العرب، نشرة بعناية محمد مصطفى محمود زهران (بيروت: دار الكتب العلمية، ط 1، 1429/ 2008)، ص 637 - 640.
(3)
الأصفهاني: الأغاني، ج 4/ 11، ص 248 - 249؛ ديوان النابغة الذبياني، تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم (القاهرة: دار المعارف، ط 2، 1985)، ص 93. النصيف هو اللثام. والبيت هو السابع عشر من قصيدة من بحر الكامل قالها النابغة في المتجردة زوجة النعمان بن المنذر يصف حالها إذ فاجأته في إحدى دخلاته على النعمان، فسقط نصيفها فغطت وجهها بمعصمها، كما يذكر رحيله الوشيك إذ غضب الملك عليه بسبب وشاية واش. وطالع هذه القصيدة (ص 89):
أَمِنْ آلِ مَيَّة رَائِحٌ أَمْ مُغْتَدِ
…
عَجْلَانَ ذَا زَادٍ وَغَيْرَ مُزَوَّدِ
ومما يجدر التنبيه عليه أنه مع أن المصنف أشار إلى القصيدة وذكر مناسبتها وصدرَ البيت الأول منها في موضعين، إلا إنه لم يدرج هذا البيت في أي من القصائد التي أثبتها في قافية الدال، بل أورده في الحاشية مشيرًا إلى ما بين رواة ديوان النابغة وشراحه من اختلاف في ترتيب أبيات القصيدة، وأنه اعتمد في ذلك على رواية الأصمعي في "ديوان الشعراء الستة". على أننا نلاحظ أن هناك تداخلًا =
ومواقعُ استعمال الصيغة في البيتين تقتضي إرادةَ التكلُّف والاتخاذ، كما هو أحدُ استعمالات افتعل، وهو المفهوم من كلام أهل اللغة. قال الراغب:"التقوى هي جعل النفس في وقاية مِمَّا يُخَاف". (1) وظاهرُ قول صاحب الكشاف - في تفسير المتقي أنه اسم فاعل من قولهم: وقاه فاتقى - أن الصيغة للمطاوعة، وتبعه القاضي عليه. (2) وقرره [كُتَّابُ](3) حواشيه، فتكلفوا للمطاوعة وجهًا - مع بعده في نفسه - يوجب التأويلَ في تعلق التكليف بالتقوى بصرفه إلى التكليف بتحصيل أسباب القبول. وإلا فالمطاوعة انفعالٌ، ولا تكليفَ إلا بفعل، كما قُرِّر في الأصول.
وعلى المختار فيها جاء تفسيرُها من لسان أهل الشريعة فقالوا: هي حفظ النفس عن كل ما يؤثم. (4) وسأل عمر بن الخطاب رضي الله عنه أُبيًّا عنها فقال: "هل أخذتَ طريقًا
= بين ما أثبته المصنف من أبيات هذه القصيدة وأبيات أخرى لا تبدو متوافقة معها في الغرض والسياق، وهو ما استبان لنا من المقارنة بما جاء في نشرة محمد أبي الفضل إبراهيم. ولعل خبيرًا بشعر النابغة ينهض لمعالجة هذا الأمر. انظر بخصوص ما نبهنا عليه: ديوان النابغة الذبياني، جمع وتحقيق وشرح الشيخ محمد الطاهر ابن عاشور (القاهرة: دار السلام/ تونس: دار سحنون للنشر والتوزيع، 1430/ 2009، تصوير عن طبعة الشركة التونسية للتوزيع بتونس والشركة الوطنية للنشر والتوزيع الصادرة سنة 1976)، ص 14 - 15 و 76 - 102.
(1)
الراغب الأصفهاني: مفردات ألفاظ القرآن، تحقيق صفوان عدنان داوودي (دمشق/ بيروت: دار القلم والدار الشامية، 1418/ 1997)، ص 881؛ وقد جاء تعريفه هذا للتقوى كذلك في تفسيره لسورة البقرة، انظر في ذلك: محمد إقبال فرحات: الراغب الإصفهاني ومنهجه في التفسير مع تحقيق تفسيره سورة البقرة (أطروحة لنيل درجة الدكتوراه مقدمة إلى المعهد الأعلى لأصول الدين، جامعة الزيتونة بتونس، بدون تاريخ)، ص 130. وقد عرفها كذلك بقوله:"وحقيقةُ التقوى جعلُ النفس في وقاية من كل ما يبعد عن الله تعالى"(المصدر نفسه، ص 171)، وبأنها "جعل النفس في وقاية من سَخَط الله تعالى، وذلك بقمع الهوى"، الذريعة إلى مكارم الشريعة، ص 160.
(2)
الزمخشري: الكشاف، ج 1، ص 45؛ البيضاوي: أنوار التنزيل، ج 1، ص 99.
(3)
زيادة اقتضاها السياق.
(4)
قال المناوي في معنى التقوى عند شرح حديث: "الحلال بين والحرام بين. . .": هي "لغةً جعل النفس في وقاية مما يخاف، وشرعًا حفظ النفس عن الآثام وما يجر إليها، وهي عند الصوفية التبري مما سوى الله. وعدل إلى التقى عن ترك المرادف له، ليفيد أن تركها إنما يعتد به في استبراء في الدين والعرض، إن خلا عن نحو رياء". فيض القدير، الحديث 3856، ج 3، ص 423.
ذا شوك؟ فقال: نعم، قال: فما عملت فيه؟ قال: شمرتُ وحذرت، قال: فذلك التقوى". (1) ولقد أجاد رضي الله عنه في تمثيل معقولها بالمحسوس المفيد أنها التحذرُ والصَّوْنُ من الوقوع في المخالفات. وقد أحسن الغايةَ ابنُ المعتز (2) في عقد ذلك نظمًا حيث قال:
خَلِّ الذُّنُوبَ صَغِيرَهَا
…
وَكَبِيرَهَا ذَاكَ التُّقَى
وَاصْنَعْ كَمَاشٍ فَوْقَ أَرْ
…
ضِ الشَّوْكِ وَيَحْذَرُ مَا يَرَى
لَا تَحْقِرَنَّ صَغِيرَةً
…
إِنَّ الْجِبَالَ مِنَ الْحَصَى (3)
ثم إن نظم ابن المعتز مبنيٌّ على أن تركَ الصغائر من مفهوم التقوى في عرف الشرع، وإليه ذهب طائفةٌ من المحدثين. وأهلُ السنة متمسِّكون بأن فرطَ الصيانة الذي هو أصلُ التقوى يقتضي التخليَ عن الصغائر، وبحديث:"لا يبلغ العبدُ أن يكونَ من المتقين حتى يدعَ ما لا بأس به حذرًا مِمَّا به بأس"، أخرجه الترمذي وابن ماجه. (4)
(1) القرطبي: الجامع لأحكام القرآن، ج 1، ص 250. وقد ذكر محقق تفسير القرطبي أن ابن أبي الدنيا (في كتاب التقوى) والبيهقي (في الزهد الكبير) أخرجا نحوه من كلام أبي هريرة لرجل سأله عن التقوى.
(2)
هو أبو العباس عبد الله بن جعفر بن محمد بن هارون بن العباس بن المعتز بن المتوكل بن الرشيد بن المهدي بن المنصور، ولد عام 247/ 861 في بغداد. كان أديبًا شاعرًا، صاحب شعر بديع ونثر بليغ. أخذ علم الأدب والعربية عن المبرد وثعلب وعن مؤدبه أحمد بن سعيد الدمشقي. آلت إليه الخلافة العباسية لمدة يوم وليلة ولقب بالمرتضى بالله، وما لبث أن تغلَّب أنصار المقتدر على أنصاره فخلعوه وقتلوه، وذلك في عام 296/ 909. من مؤلفاته: طبقات الشعراء، والبديع، وفصول التماثيل.
(3)
ديوان شعر ابن المعتز، صنعة أبي بكر محمد بن يحيى الصولي، تحقيق يونس أحمد السامرائي (بيروت: عالم الكتب، 1417/ 1997)، ج 3، ص 108؛ وكذلك ديوان أشعار الأمير أبي العباس عبد الله بن محمد المعتز بالله الخليفة العبايي، تحقيق محمد بديع شريف (القاهرة: دار المعارف، 1977 - 1978)، ج 2، ص 376. وقد جاء صدرُ البيت الثاني في كلا النشرتين مختلفًا عما أورده المصنف هنا، ففيه: "كُنْ مثلَ ماشٍ فَوْقَ"، و"يحذر" بدون الواو. والأبيات من مجزوء الكامل.
(4)
سنن الترمذي، "أبواب صفة القيامة"، الحديث 2451، ص 582؛ سنن ابن ماجه، "كتاب"، الحديث 4215، ص 614، واللفظ للترمذي. قال أبو عيسى:"هذا حديثٌ حسن غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه". ذكر المناوي عند شرح الحديث نقلًا عن الطيبي: "المتقي لغة اسم فاعل من وقاه فاتقى، والوقاية فرط الصيانة. ومنه فرس واق أي يقي حافره أن يصيبه أدنى شيء من بوله. =
ومذهبُ الجمهور أنه لا يُشترط في المتَّقي شرعًا اجتنابُ الصغائر، وحجتُهم واضحة؛ فإن الصغائر قلما ينجو منها أحد. ومنهم مَنْ لا يسبق [عنده](1) إلى اسم المتقي بعد الأنبياء غيرُهم كالصحابة والتابعين ومَنْ بعدهم من السلف الصالح. والتمسك بالحقيقة اللغوية غيرُ معتبَرٍ في الحقائق العرفية لكثرة التغاير بين الاصطلاحين، بل ما كان تعدد الحقائق إلا باعتبار التغاير.
على أن الشهاب (2) في حواشي القاضي أنكر زيادةَ لفظ الفرط، وقال:"المذكور في كتب اللغة تفسيرها بالحفظ والصيانة، وما ذكره من الزيادة زيادة". و [أجاب] عن الحديث بأنه مسوقٌ لبيان الكامل في الحقيقة، بسند لزوم خروج من بيناه، وفيه نظر، وبأن حمله على ظاهره يوجب خروجَ غير المتورِّع عن التقوى؛ لأن ترك ما لا بأس به حذرًا من الوقوع فيما به بأسٌ هو الورع، ولا قائلَ بذلك من الفريقين، فوجب تأويله على كلا القولين. (3)
على أن الحديث يُحمل محملَ حديث: "من وقع في الشبهات وقع في المحرمات"، (4) المرادُ به التنبيهُ على شدة الحذر وعدم التساهل. فمعنى "حتى يدع ما
= وشرعًا من يقي نفسه تعاطي ما يستوجب العقوبةَ من فعل أو ترك والتقوى مراتب الأولى التوقي عن العذاب المخلد بالتبري من الشرك، قال الله تبارك وتعالى:{وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى} [الفتح: 26]، الثانية تجنب كل ما يؤثم من فعل أو ترك حتى الصغائر وهو المتعارف بالتقوى في الشرع". المناوي: فيض القدير، ج 6، ص 443.
(1)
زيادة اقتضاها السياق.
(2)
هو أحمد بن محمد بن عمر، شهاب الدين الخفاجي المصري، قاضي القضاة وصاحب التصانيف في الأدب واللغة. نسبته إلى قبيلة خفاجة، ولد ونشأ بمصر، ورحل إلى بلاد الروم، واتصل بالسلطان مراد العثماني فولاه قضاء سلانيك ثم قضاء مصر. من أشهر كتبه حاشية على تفسير البيضاوي في ثماني مجلدات، وريحانة الألبا، وشفاء العليل فيما في كلام العرب من الدخيل. توُفِّيَ بمصر 1069 هـ.
(3)
انظر كلام الشهاب الخفاجي في: حاشية الشهاب على تفسير البيضاوي المسماة عناية القاضي وكفاية الراضي (بيروت: دار صادر، بدون تاريخ)، ج 1، 197 - 198.
(4)
المقصود بذلك ما رواه النعمان بن بشير قال: "سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الحلالُ بَيِّن، والحرامُ بَيِّن، وبينهما مشبهات لا يعلمها كثيرٌ من الناس، فمَنْ اتقى المشبهاتِ استبرأ لدينه وعرضه، ومَنْ وقع =
لا بأس به إلخ"، حتى يكون على غاية الحذر من الوقوع في المحرمات، بأن يكونَ متيقظًا حازمًا غير متساهل بالأمور.
ونحن نقول: إن ذلك معتبَرٌ في مفهوم التقوى، كما لا يخفى. ويؤيده أن التهاونَ بالصغائر والتساهلَ فيها يُصَيِّرانِها كبيرة، كما صرحوا به، وإليه أشار ابنُ المعتز في ثالث أبياته. ولك باعتباره هذا أن ترجع بالخلاف إلى الوفاق، والله أعلم.
ثم الواجبُ من التقوى المأمورُ به في غير ما آية صونُ العبد نفسَه عن وعيد مخالفة الخالق بفعل المستطاع من المأمورات، واجتناب المنهيات. وذلك هو مقامُ عبوديته، وهو المراد بالحق في قوله جل اسمه:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ} [آل عمران: 102]. قال القاضي: " (أي) حق تقواه وما يجب منها، وهو استفراغ الوسع في القيام بالواجب والاجتناب عن المحارم، كقوله: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [التغابن: 16] ". (1)
ومن البيِّن أن فعلَ المأمور به وتركَ المنهِيِّ عنه لا يكون تقوى إلا بملاحظة الأمر والنهي، وخوف الوعيد. يدل لذلك قوله صلى الله عليه وسلم في حديث مسلم عن أبي هريرة:"التقوى ها هنا"، (2) ويشير إلى صدره ثلاثًا، أي عمادها الذي هو الخوف في القلب. [وقد]
= في الشبهات: كراع يرعى حول الحمى يوشك أن يواقعه. ألا وإن لكل ملك حمًى، ألا وإن حمى الله في أرضه محارمُه، ألا وإن في الجسد مضغةً إذا صلحت صلح الجسدُ كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب"". صحيح البخاري، "كتاب الإيمان"، الحديث 52، ص 12؛ صحيح مسلم، "كتاب المساقاة"، الحديث 1599، ص 620؛ سنن الترمذي، "كتاب البيوع"، الحديث 1205، ص 315.
(1)
البيضاوي: أنوار التنزيل، ج 2، ص 72. (وما بين قوسين ليس من كلام البيضاوي، وإنما هو زيادة من المصنف).
(2)
جزء من حديث عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: "قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تحاسدوا، ولا تناجشوا، ولا تباغضوا، ولا تدابروا، ولا يَبِعْ بعضُكم على بيع بعض، وكونوا - عباد الله - إخوانا. المُسْلِمُ أخُو المُسْلِم، لا يَظلمه، وَلا يَخْذُلُه، ولا يَحقره. التقوى ها هنا"، ويشير إلى صدره ثلاث مرات، "بِحسْبِ امْرِئٍ مِنَ الشرّ أنْ يَحْقِرَ أخاهُ المُسْلم. كُلّ المُسْلِمِ على المُسْلِمِ حَرَام: دَمُهُ، ومَالُهُ، وعرْضُه"". صحيح مسلم، "كتاب البر والصلة والآداب"، الحديث 2564، ص 995. وانظر كذلك سنن الترمذي، "كتابُ البرِّ والصلةِ"، الحديث 1927، ص 472.
أخذه علي رضي الله عنه فقال حين سُئل عن التقوى: "هي الخوفُ من الجليل، والعملُ بالتنزيل، والقناعةُ بالقليل، والاستعدادُ ليوم الرحيل". (1) ومن حيث إن التقوى اتقاء وعيد المخالفة، تعددت أنواعُها بتعدد المأمورات والمنهيات، وقبلت التفاوت في نفسها. وفي التنزيل:{وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى (17)} [الليل: 17]، بصيغة التفضيل أي الذي اتقى الشرك والمعاصي، وكأن التقوى في كل شيء التزام العبودية الخاصة به من أمر ونهي.
قال أكثر المفسرين: إن عوف بن مالك الأشجعي أسر المشركون ابنًا له، فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم وشكى الفاقة، وقال: إن العدو أسر ابني وجزعت الأم فما تأمرنا؟ فقال عليه الصلاة والسلام: "اتق الله واصبر، وآمرك وإياها أن تستكثرَا من قول لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم". فعاد إلى بيته وقال لامرأته ما قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالت: نِعْم ما أمرنا به، فجعلا يقولان، وغفل العدوُّ عن ابنه فساق غنمهم وكانت أربعة آلاف شاة، وجاء بها إلى أبيه، فنزل قوله تعالى:{وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا (2) وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ} [الطلاق: 2، 3]. (2)
وقوله في الحديث: "حيثما كنت" لإفادة تعميم الأمكنة، أي في كل مكان كنت فيه، المراد من ذلك التنبيه على ملازمة التقوى على كل حال. واختار عنوان المكان لما أن الغالب على الإنسان التستر بمكان الانفراد حال التلبس بالمخالفة، لغلبة الجهالة عليه إذاك حتى يغفل عن إحاطة علمه تعالى بكل مكان. ولله در بعضهم حيث يقول:"إذا أردت أن تعصي الله فاعصه حيث لا يراك". ومن ثم عظُم شأنُ الخلوة، وكانت خاتمة خصال السبعة الذين يظلهم الله بظله معبَّرًا عنه بقوله عليه السلام:"ورجل ذكر الله خاليًا ففاضت عيناه". (3)
(1) الصالحي الشامي، محمد بن يوسف: سبل الهدى والرشاد في سيرة خير العباد، تحقيق مصطفى عبد الواحد (القاهرة: المجلس الأعلى للشؤون الإسلامية، 1972 - 1975)، ج 1، ص 421.
(2)
انظر في ذلك: الطبري: جامع البيان، ج 23، ص 45 - 46؛ النيسابوري: أسباب النزول، ص 435 - 436؛ ابن عطية: المحرر الوجيز، ج 5، ص 324.
(3)
صحيح البخاري، "كتاب الزكاة"، الحديث 1423، ص 230.
قوله صلى الله عليه وسلم: "وأَتْبِعِ السَّيِّئَةَ الحسنةَ تَمحُها"(بفتح همزة أتبع)، بمعنى أن تفعل بعدها بقرب كما هو ظاهر الاتباع. و"أل" في السيئة والحسنة جنسية. وظاهرُ ذلك إرادةُ السيئة بما يشمل الصغيرةَ والكبيرة، ويراد من الحسنة ما يشمل التوبةَ وغيرها من أفعال البر. فالثاني يكفر الأول من السيئات، والأول يكفر الثاني منها. وظاهرُ لفظ المحو كلفظ الإذهاب في قوله جل اسمه:{إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ} [هود: 114]، أنها تُزال من صحف الكاتبين. وهو مدلول قوله جل اسمه:{يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ (39)} [الرعد: 39].
وحاصلُ معنى هذه الجملة الشريفة أن السيئة إذا أُتبِعت بِحسنة مُحِيت. وتفصيلُه - كما أشرنا إليه - أن السيئة إذا كانت صغيرةً مَحتها الحسنةُ التابعة كيفما كانت، وإذا كانت كبيرة كان مَحوُها بحسنة مخصوصة هي التوبة. والمرادُ السيئاتُ التي هي من غير حقوق العباد، فلا تُكفَّر إلا بالاستحلال. (1)
واعلم أن تقسيمَ الذنوب إلى كبائر وصغائر مذهبُ جمهور المتكلمين، وعليه تدل آياتُ الكتاب المجيد، كقوله تعالى:{إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ} [النساء: 31]، وقوله:{وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ} [الحجرات: 7]. فالفسوق الكبائر والعصيان الصغائر، وإلا لزم التكرار. ومناطُ التقسيم ذات الفعلة وما فيها من المفسدة، دون الالتفات إلى مخالفة الله؛ فإنها بالنظر إلى ذلك على حد واحد، وهي شُبهةُ مَنْ نفي الصغائر.
وعلى مذهب الجمهور اختُلف في تمييز الكبائر من الصغائر اختلافًا أفضى إلى عدم الاعتماد فيه على محصَّل: فمنهم مَنْ سلك طريقَ العد على اختلاف في القلة والكثرة، ومنهم مَنْ سلك طريقَ الضبط بما ورد فيه الوعيدُ بالنار أو ترتب عليه حدٌّ فهو الكبيرة. وكل ذلك لا يفيد تمييزًا، كما يُعلم بمراجعة ما للعلماء في ذلك من
(1) المعنى أن يقترفَ المرءُ هذه السيئات مستحلًّا إياها مع العلم بتحريم الشرع لها.
الأقاويل. وجنح شهاب الدين القرافي إلى التمييز بعظم المفسدة وحقارتها، فقال في التاسع والعشرين والمائتين من قواعده:
"الصغيرة في المعاصي ليس من جهة من عصي، بل من جهة المفسدة الكائنة في ذلك الفعل. فالكبيرة ما عظمت مفسدتُها، ورُتَبُ المفاسد مختلفة، وأدنى رتب المفاسد يترتب عليها الكراهة. ثم كلما عظمت المفسدةُ ارتفعت الكراهة حتى تكون أعلى رتب الصغائر يليه أدنى الكبائر، ثم تترقَّى رتبُ الكبائر بعظم المفسدة حتى تكون أعلى رتب الكبائر يليها الكفر". (1)
وقدح فيه ابنُ الشاط (2) بأن النظرَ إلى مقادير المفاسد في ضبط الصغائر والكبائر لا يصح؛ لأنه بناءٌ على قواعد المعتزلة، ثم إنه رجوعٌ إلى عدم التمييز لجهلنا بمقادير المفاسد وعدم وصولنا إلى العلم بحقيقته. (3)
قلت: أما الأول فبَيِّنُ الفساد؛ فإن بناءَ الشريعة المطهرة على اعتبار المصالح والمفاسد أمرٌ معلوم أثبته الاستقراء لها، كما وقع التصريحُ به في أول كتاب المقاصد من الموافقات. (4) والخلاف بين أهل السنة والمعتزلة إنما هو في الوجوب وعدمه، وكونِ العقل يتوصل إلى المصلحة فيعلم الأمر وإلى المفسدة فيعلم النهي، أو لا يدرك ذلك إلا بعد ورود الأمر والنهي. بالأولين قال المعتزلة، وبالثانيين قال أهلُ السنة.
(1) القرافي، شهاب الدين أحمد بن إدريس: كتاب الفروق: أنوار البروق في أنواء الفروق، تحقيق محمد أحمد سَرَّاج وعلي جمعة محمد (القاهرة: دار السلام، 1421/ 2001)، ج 4، ص 1199.
(2)
هو سراج الدين أبو القاسم القاسم بن عبد الله بن محمد الشاط الأنصاري الإشبيلي، الأندلسي، الفقيه المالكي المعروف بابن الشاط، نزيل سبتة، ولد سنة 643 هـ وتوفي سنة 723 هـ. من تصانيفه "إدرار الشروق على أنواء الفروق" في الأصول (وهو حواشي على كتاب "الفروق" لشهاب الدين القرافي)، "أنوار البروق في تعقيب مسائل القواعد والفروق"، "تحرير الجواب في توفي الثواب"، "غنية الرائض في علم الفرائض".
(3)
كتاب الفروق، ج 4، ص 1201، الحاشية رقم 1.
(4)
الشاطبي، أبو إسحاق إبراهيم بن موسى: الموافقات في أصول الشريعة، تحقيق عبد الله دراز (بيروت: دار المعرفة، 1416/ 1996)، ج 1، ص 322 - 323.
وأما الثاني فهو وإن كان متجهًا ظاهرًا، إذ يقال لا يُعلم من النهي إلا وجودُ المفسدة، وأما اعتبار مقدارها فقد لا يُدرك كونُه عظيمًا أو حقيرًا، لكنه مدفوعٌ بالالتفات إلى مقصد الشرائع وحفظ كلياتها. فإذا تبين ما قصدَ الشارع حفظَه، تبينت رُتبُ المفاسد ومقاديرُها بالنسبة إلى الخلل اللاحق لذلك المحفوظ. وقد شرح ذلك بما لا مطمعَ للنفس وراءه حَبْرُ هذه الأمة أبو حامد الغزالي، فقال في كتاب التوبة من الإحياء:
"لنا سبيلٌ كلِّيٌّ يمكننا أن نعرف به أجناسَ الكبائر وأنواعها بالتحقيق، وأما أعيانها فنعرفه بالظن والتقريب. ونعرف أيضًا أكبر الكبائر، فأما أصغر الصغائر فلا سبيلَ إلى معرفته. وبيانه أنا نعلم بشواهد الشرع وأنوار البصائر جميعًا أن مقصودَ الشرائع كلها سياق الخلق إلى جوار الله تعالى وسعادة لقائه، وأنه لا وصولَ لهم إلى ذلك إلا بمعرفة الله تعالى ومعرفة صفاته وكتبه ورسله، وإليه الإشارةُ بقوله تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ (56)} [الذاريات: 56]، أي ليكونوا عبيدًا لي. ولا يكون العبد عبدًا ما لم يعرف ربَّه بالربوبية ونفسه بالعبودية، ولا بد أن يعرف نفسه وربه. فهذا هو المقصد الأقصى ببعثة الأنبياء، ولكن لا يتم هذا إلا في الحياة الدنيا، وهو المعني بقوله صلى الله عليه وسلم: "الدنيا مزرعة الآخرة"، فصار حفظُ الدنيا مقصودًا تابعًا للدين؛ لأنه وسيلة إليه. والمتعلق من الدنيا بالآخرة شيئان: النفوس والأموال، فكل ما يسد بابَ معرفة الله فهو أكبر الكبائر، ويليه ما يسد حياةَ النفوس، ويليه بابُ ما يسد التي بها حياة النفوس، ويليه باب ما يسد المعايش التي بها حياة الناس. فهذه ثلاث مراتب، [فحفظ المعرفة على القلوب، والحياة على الأبدان، والأموال على الأشخاص ضروري في مقصود الشرائع كلها، وهذه ثلاثة أمور لا يُتصور أن تختلف فيها الملل، فلا يجوز أن الله تعالَى يبعث نبيًّا يريد ببعثه إصلاحَ الخلق في دينهم ثم يأمرهم بما يمنعهم عن معرفته ومعرفة رسله، أو يأمرهم بإهلاك النفوس وإهلاك الأموال] ". (1)
(1) الغزالي، أبو حامد محمد بن محمد: إحياء علوم الدين (بيروت: دار الكتب العلمية، 1423/ 2002)، ج 4، ص 26. وما بين الحاصرتين من كلام الغزالي لم يورده المصنف، ورأينا إثباته =
وهو الضابطُ الذي لا يشذُّ عنه فردٌ عند إعمال النظر، ومراعاة تلك المقاصد، ومعرفة ما يوجب الإخلالَ بها من غيره الذي هو مناطُ أنظار الجهابذة النقاد. ولا مِريةَ في تطرق الخلاف إلى بعض منها؛ فإن ذلك شأن الاجتهاديات المشروعة رحمةً للأمة.
وبهذا البيان الذي هو من غزل أبي حامد الرقيق، اتجه كلامُ الشهاب، واندفع عنه ذلك الإشكال. ومَنْ كان ذا نباهة وتفطن وغُذِّيَ بلبان التحرير يتيقن أن ذلك الضابط لحجة الإسلام مستنبَطٌ من جملة حديث المجلس. (1) فإن مضمونَ الجملة الأولَى القيامُ بحق الربوبية وواجب العبودية الذي هو المقصدُ الأول من التشريع كما قرره، ومضمونُ الجملة الثانية إفادةُ كيفية جبر ما تقتضيه البشريةُ غير المعصومة من بعض الخلل في القيام بواجب الأولى، فهما جملتان لتحقيق القيام بالواجب الأول أصالةً وجبرا.
وبقي القيامُ بالواجبِ الثاني المتعلِّق بالحياة الدنيا، وإليه الإشارةُ بقوله صلى الله عليه وسلم:"وخالِقِ الناسَ بِخُلُقٍ حسن". خالق الناس: عاشرْهم بالخلق الحسن، كذا في القاموس، وعليه فذكرُ المتعلَّق لزيادة البيان والإيضاح. والناس عام للمؤمن والكافر، فإن للكافر حقوقًا في المعاملات معروفةً في الشرع بسطها الشهابُ القرافي في الفرق التاسع عشر والمائة من قواعده. وخلاصتُها منعُ الموالاة والتودد بالمودة، ومنع كلِّ ما يفضي إلى إظهار سلطانه على المسلمين وتعظيم رتبته عليهم. أما برُّهم بغير ذلك: من الرفق بهم، ولين القول لهم من غير مذلة، وكل حق يحسن من الأعلى مع الأسفل أن يفعله ومن العدو مع عدوه إذا قصد مكارمَ الأخلاق، فهذا لا مانعَ فيه، بل هو من المطلوب، كما دلت عليه نصوصُ الشريعة. وكفى بقوله تعالى:
= استكمالًا لتأصيل المعنى. قال الحافظ العراقي: حديث "الدنيا مزرعة الآخرة" لم أجده بهذا اللفظ مرفوعًا، وروى العقيلي في الضعفاء وأبو بكر بن لال في مكارم الأخلاق من حديث طارق بن أشيم:"نعمت الدار الدنيا لمن تزود منها لآخرته"، الحديث، وإسناده ضعيف.
(1)
إشارة إلى أن شرح الحديث جرى في الأصل في مجلس من مجالس العلم التي كان المصنف عليه رحمة الله يعقدها، وقد كان ذلك خلال شهر رمضان بمسجد حوانيت عاشور كما ذكر محرر المجلة.
{لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (8)} [الممتحنة: 8]. (انتهى ملخَّصُ كلام الشهاب). (1)
وفي الجامع الصغير من طرق عديدة: "إذا أتاكم كريمُ قوم فأكرموه"، وفي شرحه للمناوي تعميمُ الحكم في الكافر والفاسق إذا كان كريمَ قومه، مستدلًّا على ذلك بعنوان الحديث والعدول عن عنوان العلم أو الدين، وبأن معاملته بغير ما آتاه الله من الرتبة ابتلاءً منه يَجُرُّ إلى مفاسد منهي عنها. قال:"وغلط في هذا الباب كثيرٌ غفلةً عن تدبير الله في خلقه، وجمودًا على ظاهر قوله تعالى: {وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ} [الحج: 18]، وما دَرَوْا أن السنة شرحت ذلك وبينته أحسنَ بيان، فموضعُ طلبِ إهانة الكافر والفاسق الأمنُ من حصول مفسدة ذلك، وقد كان صلى الله عليه وسلم يتواضع لأكابر كفار قريش ويكرمهم ويرفع منزلتهم". (2)
وههنا بحثٌ من تتمة هذا يجب التنبهُ له، وهو ما حدث في معاشرة الناس ومكارمتهم من الآداب المستحدثة. فربما أنكر ذلك مَنْ لا تضلعَ له في أصول الشريعة بسبب أنها لم تكن في زمنه صلى الله عليه وسلم ولا في زمن السلف الصالح بعده، ويراها لذلك بدعةً مذمومةً لما فيها من مخالفة السلف. وتحرير ذلك ما ذكره الشهاب في الفرق التاسع والستين والمائتين من قواعده حيث قال:
"اعلم أن الذي يباح من إكرام الناس قسمان: القسم الأول: ما وردت به نصوصُ الشريعة من إفشاء السلام، وإطعام الطعام، وتشميت العاطس، والمصافحة عند اللقاء. . . وغير ذلك مما هو مبسوطٌ في كتب الفقه. القسم الثاني: ما لم يرد في النصوص ولا كان في السلف؛ لأنه لم تكن أسبابُ اعتباره موجودةً حينئذ وتجددت في عصرنا، فتعين فعلُه لتجدد أسبابه لا لأنه شرعٌ مستأنَف. بل عُلم من
(1) القرافي: كتاب الفروق، ح 2، ص 701 - 702.
(2)
المناوي: فيض القدير، الحديث 345، ج 1، ص 241 - 242.
القواعد الشرعية أن هذه الأسباب لو وُجدت في زمن الصحابة رضوان الله عليهم، لكانت هذه المسببات من فعلهم وصنعهم، وتأخر الحكم لتأخر سببه ووقوعه عند وقوع سببه لا يقتضي ذلك تجديدَ شرع ولا عدمه. . . وهذا القسم هو ما في زماننا من القيام للداخل من الأعيان وإحناء الرأس له، والمخاطبة بجمال الدين ونور الدين وغير ذلك من النعوت (المؤذنة بالرفعة). . . والتعبير عن المكتوب إليه بالمجلس العالي والسامي والجناب (المرفع) ونحو ذلك من الأوصاف. . . فهذا كلُّه ونحوه من الأمور العادية لم تكن في السلف، ونحن اليوم نفعله في المكارمات والمودات، وهو جائز مأمور به مع كونه بدعة. ولقد حضرت يومًا عند الشيخ عز الدين بن عبد السلام رحمه الله، وكان من أعيان العلماء وأولي الجد في الدين، والقيام بمصالح المسلمين خاصة وعامة، والثبات على الكتاب والسنة، غير مكترث بالملوك فضلًا عن غيرهم، لا تأخذه في الله لومةُ لائم فقدمت إليه فتيا فيها: ما تقول السادة أئمة الدين وفقهم الله تعالى في القيام الذي أحدثه أهلُ زماننا مع أنه لم يكن في السلف، هل يجوز أم لا يجوز ويحرم؟ فكتب رضي الله عنه إليه في الفتيا: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تباغضوا، ولا تحاسدوا، ولا تدابروا، ولا تقاطعوا، وكونوا - عباد الله - إخوانًا". (1) وترك القيام في هذا الوقت يُفضي للمقاطعة والمدابرة، فلو قيل بوجوبه ما كان بعيدًا. هذا نصُّ ما كتب من غير زيادة ولا نقصان".
ثم قال الشهاب:
"فعلى هذا القانون يجري هذا القسم، بشرط أن لا يُبيح محرمًا ولا يترك واجبًا، فلو كان الملكُ لا يرضى منه إلا بشرب الخمر أو غيره من المعاصي، لم يحل لنا
(1) جاء الحديث عن أبي هريرة وأنس بن مالك بروايات مختلفة ومتفاوتة قصرًا وطولًا، وزيادة ونقصًا، وتقديمًا وتأخيرًا، فانظر بشأنها على سبيل صحيح البخاري، "كتاب الأدب"، الحديثان 6064 و 6066، ص 1059؛ "كتاب الفرائض"، الحديث 6724، ص 1161؛ صحيح مسلم، "كتاب البر والصلة والآداب"، الحديث 2559، ص 993؛ سنن الترمذي، "كتاب البرِّ والصلةِ"، الحديث 1935، ص 474.
أن نواده بذلك، وكذلك غيره من الناس، "ولا طاعة في معصية الخالق"". (1) والْخُلُق - بضمتين - هو في الأصل مَلَكَةٌ نفسية تصدر عنها الأفعالُ بسهولة، فإذا صدرت عنها الأفعالُ الحميدة فهي الخلق الحسن، وإلا فضدُّ ذلك. ثم إن هذه الملكة لَمَّا كانت هيئةً للنفس لا يتعلق بها التكليفُ لذاتها، إذ ليست من الفعل في شيء. نعم! يتعلق التكليفُ بالأسباب المحصِّلة لها، الراجعة إلى التبصر، وحمل النفس على تحمل الضيم، ومكابدة الأذى، والعفو، وغير ذلك. فبتمرن النفس على الصفات الجميلة والآداب الممدوحة وبتعودها ذلك تحصل تلك الملكة، فتنشأ عنها تلك الصفاتُ بعد بسهولة بعد أن كانت شاقة في تحصيلها، ويرجع السببُ مُسَبَّبًا، وهو مناطُ التكليف والمدح والذم.
وبما بَيَّنَّا عُلِم أن الْخُلُقَ الحسن الذي هو مناطُ المدح والثناء مكتَسَبٌ من رياضة النفس والتأديب، ومن ثم كان خلقُه صلى الله عليه وسلم أشرفَ خلق حسن، كما شهد له بذلك الله تعالى في قوله:{وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ (4)} [القلم: 4]، حيث كان تأديبه إلهيًّا ورياضته قرآنية، كما قالت الصديقة بنت الصديق رضي الله عنهما:"كان خلقه القرآن". (2) قال الإمام السهروردي في عوارف المعارف:
"وفي كلامها رضي الله عنها سرٌّ غامض؛ وذلك أن النفوسَ البشرية مجبولةٌ على طباع غضبية وبهيمية وسبعية. والله بعظيم عنايته نزع حظَّ الشيطان منه الذي هو شر الأولى فبقيت نفسه الزكية مبقاةً فيه أمهاتُ تلك الصفات فتتنزل الآيات لقمعها عند تحركها واضطرابها تأديبًا له صلى الله عليه وسلم، وهو قوله تعالى:{كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ} [الفرقان: 32]. فعند كل اضطراب تنزل آية لمصالح سنية يسكن بها، كما وقع
(1) القرافي: كتاب الفروق، ج 4، ص 1388 - 1390.
(2)
الألباني، محمد ناصر الدين: صحيح الأدب المفرد (الجبيل الصناعية: مكتبة الدليل، 1418/ 1997)، الحديث 234، ص 129. وأخرجه مسلم بلفظ:"فإن خلق نبي الله صلى الله عليه وسلم كان القرآن". صحيح مسلم، "صلاة المسافرين وقصرها"، الحديث 746، ص 270.
في أحد إذ شج صلى الله عليه وسلم فقال: "كيف يُفلح قومٌ خضبوا وجهَ نبيهم بالدم وهو يدعوهم إلى ربهم؟ " فأنزل الله تعالى قوله: {لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ} [آل عمران: 128]، فلبس في قلبه لباس الاصطبار، ورجع بعد الاضطراب إلى القرار. فلما توزعت الآياتُ بحسب الأوقات، صفت الأخلاقُ النبوية بالقرآن". انتهى كلامه النفيس. (1)
فأخلاقُه صلى الله عليه وسلم ربانيةٌ بالتأديب الرباني والعناية الأحدية، لا برياضة نفسانية وتكسُّب طبيعي كما يكون لغيره. ولذلك لا يُدْرَكُ شَأْوُ خُلُقِهِ صلى الله عليه وسلم، فافْهَمْه.
وفي المفهم: "الخلق المحمود إجمالًا أن تكونَ مع غيرك على نفسك فتنصف منها ولا تنتصف لها، وتفصيلًا العفو، والحلم، والجود، والصبر، والرحمة، ولين الجانب، وتحمل الأذى". (2) وجماع ذلك في قوله جل اسمه: {الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (134)} [آل عمران: 134].
(1) ساق المصنف كلام السهروردي بتصرف واختصار كبيرين بما يناسب مقام الاستشهاد، فانظره بتمامه في "عوارف المعارف" ملحقًا بإحياء علوم الدين للغزالي، ج 5، ص 194 - 195. وصاحب "العوارف" هو أبو حفص شهاب الدين عمر بن محمد بن عبد الله بن عمويه، القرشي، التيمي، البكري، السهروردي، ينتهي نسبه إلى أبي بكر الصديق. فقيه شافعي، وواعظ من كبار رجال الصوفية في بغداد، ولد في سهرورد سنة 539 هـ وتُوُفِّي سنة 632 هـ ببغداد. وهو غير شهاب الدين يحيى بن حبش السهروردي الحلبي، صاحب "حكمة الإشراق" و"هياكل النور".
(2)
أورد المصنف كلامَ القرطبي باختصار مع تقديم وتأخير، وعبارته:"الأخلاق جمع خلق، وهي عبارة عن أوصاف الإنسان التي يعامل بها غيره ويخالطه. وهي منقسمة إلى محمود ومذموم. فالمحمود منها صفات الأنبياء والأولياء والفضلاء، كالصبر عند المكاره، والحلم عند الجفاء، وتحمل الأذى، والإحسان للناس، والتودد لهم، والمسارعة في حوائجهم، والرحمة، والشفقة، واللطف في المجادلة، والتثبت في الأمور، ومجانبة المفاسد والشرور. وعلى الجملة فاعتدالها أن تكون مع غيرك على نفسك، فتنتصف منها، ولا تنتصف لها، فتعفو عَمَّنْ ظلمك، وتعطي مَن حرمك. والمذموم نقيض ذلك كله". القرطبي، أبو العباس أحمد بن عمر بن إبراهيم: المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم، تحقيق محيي الدين ديب مستو وآخرين (دمشق/ بيروت: دار ابن كثير ودار الكلم الطيب، ط 1، 1417/ 1996)، ج 6، ص 116 - 117.
والْخُلُقُ الحْسنُ محمودٌ في كل أمة، يشهد لذلك قولُه صلى الله عليه وسلم:"إنما بُعثتُ لأتمم مكارمَ الأخلاق"، (1) إنه صريحٌ في سبقيتها في الأمم السابقة، غير أن الشريعة المطهرة جمعت ما تفرق منها وأحكمته على وجهٍ لا مطمعَ فيه من غيرها. ولقد كانت الأمةُ الأمية من العرب يتسابقون إلى نيل تلك الصفات، ويناضلون عنها، وكفى أحدَهم شرفًا أن يُعَدَّ من أصحاب تلك الخلال، حتى قال السموأل بن عاديا (2) حكيم شعرائهم:
(1) أخرجه بهذا اللفظ البيهقي: السنن الكبرى، "كتاب الشهادات"، الحديث 20782، ج 10، ص 323 (عن أبي هريرة). ورواه مالك في الموطأ بلاغًا بلفظ:"بعثت لأتمم حسن الأخلاق". الموطأ برواياته الثمانية، "كتاب حسن الخلق"، الحديث 1789، ج 4، ص 296. وقد وصله البخاري في الأدب المفرد وعن أبي هريرة بلفظ:"إنما بعثت لأتمم صالِحَ الأخلاق". الألباني، محمد ناصر الدين: صحيح الأدب المفرد للإمام البخاري (الجبيل الصناعية: مكتبة الدليل، ط 4، 1418/ 1997)، الحديث 207/ 273، ص 118. وقال ابن عبد البر:"وهذا الحديث متصل الإسناد من طرق صحاح عن أبي هريرة وغيره عن النبي صلى الله عليه وسلم". ثم استقصى الروايات المختلفة للحديث. موسوعة شروح الموطأ (تشتمل على التمهيد والاستذكار لابن عبد البر والقبس لابن العربي)، تحقيق عبد الله بن عبد المحسن التركي (القاهرة: مركز البحوث والدراسات العربية الإسلامية، 1426/ 2005)، ج 22، ص 36 - 38. ولا بد من الإشارة إلى ما يبدو من تناقض وقع فيه المصنف عليه رحمة الله حيث حكم بتضعيف هذا الحديث في مقال "التنبيه على أحاديث ضعيفة. . ." المنشور في "المجلة الزيتونية" سنة 1356/ 1937 (انظره في القسم الثالث من هذا المجموع). ثم هو قد استشهد به في المقال الحالي، كما استشهد به في مقال "حكمة التشريع الإسلامي وأثره في الأخلاق" المنشور سنة 1358 في مجلة "الهداية الإسلامية". وليس واضحًا إن كان ذلك عن سهو أم لأنه ثبتت له صحتُه بعد أن أصدر ذلك الحكم بتضعيفه.
(2)
هو السموأل بن عاديا، أو عادياء، اليهودي، أحد أشهر أوفياء العرب قبل الإسلام وحاكم تيماء، من شعراء القرن الخامس الميلادي. يروى أنه كان صديقًا لامرئ القيس، وتروى له معه قصةٌ تجسد ما كان يتصف به من وفاء. وملخص تلك القصة أن امرؤ القيس أودع السموألَ أدراعًا مما كان يتوارثه ملوكُ كندة، فأتاه الحارث بن ظالم - وقيل الحارث بن أبي شمر الغساني - ليأخذها منه فتحصّن منه السموأل. فأخذ الحارثُ ابنًا له غلامًا رهينة، وهدد بقتله إن هو لم يسلّم الأدراع، فأبَى السموأل أن يسلِّم الأدرعَ إليه، فضرب الحارثُ وسط الغلام بالسيف فقطعه اثنين. وصارت تلك القصةُ مضربَ الأمثال، فقيل: أَوْفَى من السموأل. وقد رُوِيت أشعارٌ منسوبة إلى الأعشى =
إِذَا المَرْءُ لَم يَدْنَسْ مِنَ اللُّؤْمِ عِرْضُهُ
…
فَكُلُّ رِدَاءٍ يَرْتَدِيهِ جَمِيلُ
وَإِنْ هُوَ لَمْ يَحْمِلْ عَلَى النَّفْسِ ضَيْمَهَا
…
فَلَيْسَ إِلَى حُسْنِ الثَّنَاءِ سَبيلُ (1)
ومن كلام حكماء اليونان قولُ سقراط الحكيم: " [رأس] الحكمة حسن الخلق". (2) وقال أرسطو: "بلين الكلام تدوم المودةُ في الصدور، وبخفض الجناح
= يمدح فيها السموأل، كا رويت لهذا الأخير أشعارٌ فيها اعتزازٌ بقيم الشجاعة والوفاء والأنفة والعزة. ومع شهرة قصة السموأل مع امرئ القيس، وشيوع ما نُسب إليه من شعر ورواج تناقله بين رواة الأدب كأبي الفرج الأصفهاني، فقد كان هناك مَنْ شكك في صحة نسبة ذلك الشعر إليه، وخاصة القصيدة التي طالعها ما ذكره المصنف. ومن الذين وقفوا هذا الموقف ابن الأعرابي (ت 231 هـ) وأبو الحسن ابن طباطَبَا العلوي (ت 322 هـ) وأبو بكر الصولِي (ت 335 هـ) والمرزوقي (ت 421 هـ) شارح ديوان الحماسة، فقد ذكروا أنها لعبد الملك بن الحارثي، ونبهوا على أنها تُنسب خطأ إلى السموأل. والحارثي هو عبد الملك بن عبد الرحيم الحارثي من اليمن، من بني الحارث بن كعب، وهم بطنٌ من بطون مذحج، من عرب الجنوب، ومن هؤلاء بنو عبد المدان الذين يسكنون الفَلَجَة من أرض الشام، وهي اليوم في شرقي الأردن. وقد كتب الدكتور بكري شيخ أمين مقالًا في هذا الشأن بعنوان:"الكذبة التاريخية بين السموأل والحارثي"، نشر في المجلة الإلكترونية الموسومة:"أسواق المربد: مجلة الأديب العربي"، فراجعه للمزيد من التفاصيل. وقد عده ابن سلام (المتوفَّى سنة 231 هـ) من شعراء اليهود بالمدينة، وذكر شعرًا للأعشى يصف وفاء السموأل. الجمحي، محمد بن سلام: طبقات الشعراء، تحقيق جوزف هل وتقديم طه أحمد إبراهيم (بيروت: دار الكتب العلمية، 1422/ 2001)، ص 106. ومما قاله السموأل في شأن أدرع أمرئ القيس:
وَفَيْتُ بِأَدْرُعِ الكِنْدِيِّ إِنِّي
…
إِذَا مَا ذُمَّ أَقْوَامٌ وَفَيْتُ
وَأَوْصَى عَادِيَا يَوْمًا بِأَلَّا
…
تَهْدِمَ يَا سَمَوْأَلُ مَا بَنَيْتُ
بَنَا لِي عَادِيَا حِصْنًا حَصِينًا
…
وَمَاءً كُلَّمَا شِئْتُ اسْتَقَيْتُ
الأصفهاني: الأغاني، ج 8/ 22، ص 76؛ ديوان السموأل مطبوع مع ديوان عروة بن الورد، نشرة بعناية عيسى سابا (بيروت: دار صادر، بدون تاريخ)، ص 79 - 80.
(1)
ديوان السموأل، ص 90؛ البغدادي: منتهى الطلب من أشعار العرب، ص 738.
(2)
ابن أبي أصيبعة: عيون الأنباء في طبقات الأطباء (بيروت: دار الثقافة، 1398 - 1399/ 1978 - 1979)، ج 1، ص 76.
تتم الأمور، وبسعة الأخلاق يطيب العيشُ ويكمل السرور". (1) وكتب إلى الإسكندر:"الأراذل ينقادون بالخوف، والأخيار بالحياء، فاستعمل في الأولَى البطشَ وفي الثانية الإحسان. ولْيكنْ غضبُك لا شديدًا ولا ضعيفًا؛ فإن ذلك من أخلاق السباع، وهذا من أخلاق الصبيان. وإذا أعطاك الله ما تُحبه من الظَّفَر، فافعلْ ما أحب الله من العفو". (2)
واعلمْ أن مدارَ اعتبار تمام الصفات أن تكون منبعثةً من صفاء الباطن وإخلاص الطوية، كما يقتضيه اعتبارُ الملكة فيها. أما إذا كانت بحسب الظاهر فقط، فهو التخلق المذموم، وإياه يعني من يقول:
يَا أَيُّهَا المُتَحَلِّي غَيْرَ شيمَتِهِ
…
إِنَّ التَّخَلُّقَ يَأْتِي دُونَهُ الْخُلُقُ (3)
(1) جزءٌ من كلام طويل قيل إنه خطبة ألقاها أرسطو بين يدي الملك روفسطانيس. المصدر نفسه، ص 96.
(2)
المصدر نفسه، ص 99.
(3)
رواه الجاحظ بلفظ مختلف ضمن مقطوعة من ستة أبيات منسوبة لسالِم بن وابصة، يقول فيها:
يَا أَيُّهَا الْمُتَحَلِّي غَيْرَ شِيمَتهِ
…
وَمَنْ سَجِيَتُهُ الإِكْثَارُ وَالْمَلَقُ
اعْمِدْ إِلَى الْقَصْدِ فِيمَا أَنْتَ رَاكِبُهُ
…
إِنَّ التَّخَلُّقَ يَأْتِي دُونَهُ الْخُلُقُ
صَدَّتْ هُنيدَةُ لمَّا جِئْتُ زَائِرَهَا
…
عَنِّي بِمَطْرُوفَةٍ إِنْسَانُهَا غَرِقُ
وَرَاعَهَا الشَّيْبُ فِي رَأْسِي فَقُلْتُ لَهَا
…
كَذَاكَ يَصْفَرُّ بَعْدَ الْخُضْرَةِ الْوَرَقُ
بَلْ مَوْقِفٍ مِثْلِ حَدِّ السَّيْفِ قُمْتُ بِهِ
…
أَحْمِي الذِّمَارَ وَتَرْمِينِي بِهِ الحدَقُ
فَمَا زَلَلْتُ وَلَا أُلْفِيتُ ذَا خَطَلٍ
…
إِذَا الرِّجَالُ عَلَى أَمْثَالِهَا زَلِقُوا
البيان والتبيين، نشرة بعناية موفق شهاب الدين (بيروت: دار الكتب العلمية، ط 2، 1424/ 2003)، ج 1/ 1، ص 161 - 162. ورواه ابن قتيبة مع بيتين آخرين - ليسا مما أورده الجاحظ - باللفظ نفسه الذي جاء عنده، ونسبه للعرجي عبد الله بن عمر. الدينوري، أبو محمد عبد الله بن مسلم بن قتيبة: الشعر والشعراء أو طبقات الشعراء، تحقيق مفيد قميحة ومحمد أمين الضناوي (بيروت: دار الكتب العلمية، ط 2، 1426/ 2005)، ص 352 - 353. وأورده المبرد عن أبي زيد القرشي دون نسبة، مع بيت آخر غير ما ذكره الجاحظ وابن قتيبة، وهو: =
وقال محمد بن هانئ مادحًا:
غَنِيٌّ بِمَا فِي الطَّبْعِ عَنْ مُسْتَفَادِهِ
…
لَهُ كَرَمُ الأَخْلَاقِ دُونَ التَّكَرُّمِ (1)
وعنوانُ الحقيقة ظهورُ السرور والبشر عند التلبس بتلك الصفات؛ فإن الظواهرَ عنوانُ البواطن. ومن هنا لمَّا سئل سَلّام بن أبي مطيع (2) عن حسن الخلق أنشأ يقول:
تَرَاهُ إِذَا مَا جِئْتَهُ مُتَهَلِّلًا
…
كَأَنَّك تُعْطِيهِ الَّذِي أَنْتَ سَائِلُهْ (3)
فلم يعتبر الإحسانَ من حسن الخلق إلا مع التهلل والبشرى الدالين على طيب الباطن. وقد أجاد ابنُ الرومي مفصِحًا بطريقة سَلّام (4) مع بيان الدليل، فقال:
= وَلَا يُؤَاتِيكَ فِيمَا نَابَ مِنْ حَدَثٍ
…
إِلَّا أَخُو ثِقَةٍ فَانْظُرْ بِمَنْ تَثِقُ
المبرد، أبو العباس محمد بن يزيد: الكامل في اللغة والأدب، تحقيق عبد الحميد هنداوي (بيروت: دار الكتب العلمية، 1424/ 2003)، ج 1، ص 44.
(1)
الأندلسي، محمد بن هاني الأزدي: ديوان ابن هانئ الأندلسي، تحقيق كرم البستاني (بيروت: دار بيروت، 1400/ 1980)، ص 316. والبيت من قصيدة يمدح فيها ابنُ هانئ المعز لدين الله الفاطمي، وهي آخرُ قصيدة بعث بها من إفريقية إليه بالقاهرة.
(2)
هو سلام بن أبي مُطيع، أبو سعيد الخزاعي، مولاهم البصري. إمام، ثقة، قدوة. حدث عن قتادة، وشعيب بن الحبحاب، وأيوب السختياني، وعثمان بن عبد الله بن موهب، وهشام بن عروة، وأبي عمران الجوني، وأسماء بن عبيد، وآخرين. وحدث عنه عبد الله بن المبارك، وعبد الرحمن بن مهدي، وسعيد بن عامر الضبعي، ويونس بن محمد، وسليمان بن حرب، وعلي بن الجعد، وموسى بن إسماعيل، وغيرهم كثير. وثقه أحمد بن حنبل وأبو حاتم الرازي، واحتج به البخاري ومسلم. مات وهو مقبل من مكة سنة أربع وستين ومائة، وقيل سنة ثلاث وسبعين وهو الراجح.
(3)
ديوان زهير بن أبي سلمى، نشرة بعناية علي حسن فاعور (بيروت: دار الكتب العلمية، 1408/ 1988)، ص 92. والبيت من قصيدة طالعها:"صَحَا القَلْبُ عَنْ سَلْمَى وَأَقْصَرَ بَاطِلُهْ"، وهي من بحر الطويل، قالها زهير في التواعد بالحرب بين عمرو بن هند وحصن بن حذيفة، ثم عدول عمرو عن ذلك وقد أوشك الطرفان على اللقاء.
(4)
الإشارة هنا إلى طريقة سلام بن أبي مطيع بإنشاد شعر زهير في الجواب عن السؤال عن حسن الخلق.
وَقَلَّ مَنْ ضَمِنَتْ خَيْرًا طَوِيَّتُهُ
…
إِلَّا وَفِي وجْهِهِ لِلْبِشْرِ عُنْوَانُ
تَلْقاه وهْوَ مَعَ الإحْسَانِ مُعْتَذِرٌ
…
وقَدْ يُسِيءُ مُسيءٌ وهوَ منَّانُ
إِذَا تَيَمَّمَكَ العَافِي فكَوْكَبُهُ
…
سَعْدٌ وَمَرْعَاهُ فِي وَادِيكَ سَعْدَانُ
أحْيَى بِكَ اللهُ هَذَا الخْلْقَ كلَّهُمُ
…
فَأَنْتَ رُوحٌ وَهَذَا الْخَلْقُ جثمانُ (1)
والله أعلم.
(1) الأبيات من قصيدة طويلة (من البحر البسيط)، قالها ابن الرومي في مدح إسماعيل بن بلبل. وهي ليست متوالية، باستثناء البيتين الأول والثاني. وقد جاء في البيت الأول في طبعة الديوان التي رجعنا إليها لفظ "للخير" بدل "للبشر"، وفي الثاني لفظ "يلقاك" بدل "تلقاه". ديوان ابن الرومي، شرح أحمد حسن بسج (بيروت: دار الكتب العلمية، 1423/ 2004)، ج 3، ص 375 و 378.