الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المراجعة الإجمالية:
هذا وإنِّي أرى أن للاختلاف بيننا في قبول هذا الحديث مرجعًا نرجع إليه، وهو أصلُ الاختلاف في أصل عام يجري في هذا الحديث وأمثاله، ألا وهو أصلُ تغليب جانب التهمة والحذر في قبول الرواة، أو جانب حسن الظن والتسامح. وهما مقامان معلومان من قديم لأئمة الحديث، وبهما كان التفاوتُ في مراتب ضبط المحدثين وتمحيصهم ونقدهم. فقد كان عمر بن الخطاب يقول:"المسلمون عدولٌ بعضهم على بعض"، (1) ثُم لَمَّا حدثت شهادةُ الزور قال عمر:"لا يؤمّر أحدٌ في الإسلام بغير عدول"(2).
نشأ عن ذلك اختلافُهم في هل الأصلُ في الناس هو الجرح أو العدالة. ومذهبُ المحققين - وفي مقدمتهم مالك بن أنس - أن الأصلَ في الناس هو الجرح، فلذلك قال: لا يُقبل مجهولُ الباطن، وإن كان مستورَ الظاهر. وعلى هذا القول درج جمهورُ التحقيق والضبط. (3)
(1) جاء ذلك في كتاب عمر إلى أبي موسى الأشعري الذي بين فيه ما ينبغي على القاضي من الالتزام به من القواعد، فانظره كاملًا في: الدارقطني، علي بن عمر: سنن الدارقطني، تحقيق عادل أحمد عبد الموجود وعلي محمد معوض (بيروت: دار المعرفة، ط 1، 1422/ 2001)، "كتاب الأقضية والأحكام"، الحديث 4391، ج 3، ص 447 - 448. قال العجلوني:"أورده الديلمي عن ابن عمرو بلا سند مرفوعًا [ولكن لم أجده في فردوسه]، وابن أبي شيبة بسند إلى ابن عمرو، ويروى عن عمر من قوله". العجلوني، أبو الفداء إسماعيل بن محمد بن عبد الهادى: كشف الخفاء ومزيل الإلباس عما اشتهر من الأحاديث على ألسنة الناس (القاهرة: مكتبة القدسي، 1351 هـ)، الحديث 2301، ج 2، ص 208 - 209.
(2)
عن ربيعة بن أبي عبد الرحمن أنه قال: "قدم على عمر بن الخطاب رجلٌ من أهل العراق فقال: لقد جئتك بأمرٍ ما له رأسٌ ولا ذنب، فقال عمر: "ما هو؟ " قال: شهاداتُ الزور ظهرت بأرضنا. فقال عمر: "أَوَقَدْ كان ذلك؟ " قال نعم. قال عمر: "والله لا يؤمر رجلٌ في الإسلام بغير العدول"". الموطأ برواياته الثمانية، "كتاب الأقضية"، الحديث 1528، ج 3، ص 527 - 528.
(3)
انظر في ذلك مثلًا الخطيب البغدادي: الكفاية في علم الرواية، ص 99 - 100، السيوطي: تدريب الراوي، ص 273.
ومن الناس مَنْ قال: الأصلُ في الناس العدالة، وقبلوا مستورَ الظاهر وإن جُهل باطنُه. وإلى هذا ذهب الأقلُّ، منهم أبو حنيفة، وابن فورك ومسلم الرازي من الشافعية. ولكن إذا ظهر موجِبُ الجرح بطل الخلاف. (1)
وفي الناس متساهلون يظنون الخير، ويتلقون الأخبار عن كل مسلم، إلى أن بلغ الحالُ ببعضهم أن عد تمحيصَ الرواة من قبيل الغيبة فأنكره على ابن معين قائلُهم:
وَلابْنِ مَعِينٍ فِي الرِّجَالِ مقالةٌ
…
سَيُسْأَلُ عَنْهَا وَالإلَهُ شَهِيدُ
إِنْ كَانَ حَقًّا قَوْلُهُ فَهْوُ غِيبَةٌ .... وَإِنْ كَانَ زُورًا فَالْعِقَابُ شَدِيدُ (2)
وطريقةُ إمامنا مالك ونظرائه - أئمة النقد - هي الطريقةُ المثلى، وعليها كانت سنتُه في تهذيب كتاب الموطأ عامًا فعامًا. وقد قال ابن أبي حاتم:"قلت ليحيى بن معين: لماذا مالك قل حديثُه؟ فقال: لكثرة تمييزه". (3) وقد كان يأتي في ذلك بتشديد
(1) انظر تفصيل القول في ذلك في: الشهرزوري: علوم الحديث، ص 105 - 109.
(2)
روى الخطيب البغدادي عن "عبد العزيز بن أبي الحسن قال: أنشدنا أبو بكر محمد بن أحمد المفيد قال: أنشدني الحسن بن علي الباغاني من أهل المغرب قال: أنشدنِي بكر بن حماد الشاعر المغربي لنفسه:
أَرَى الْخَيْرَ فِي الدُّنْيَا يَقِلُّ كَثِيرُهُ
…
وَيَنْقُصُ نَقْصًا وَالْحَدِيثُ يَزِيدُ
فَلَوْ كَانَ خَيْرًا كَانَ كَالْخَيْرِ كُلِّهِ
…
وَلَكِنَّ شَيْطَانَ الْحَدِيثِ مُرِيدُ
وَلابْنِ مَعِينٍ فِي الرِّجَالِ مقالةٌ
…
سَيُسْأَلُ عَنْهَا وَالمَلِيكُ شَهِيدُ
فَإِنْ تَكُ حَقًّا فَهْيَ فِي الْحُكْمِ غِيبَةٌ
…
وَإِنْ تَكُ زُورًا فَالْقِصَاصُ شَدِيدُ".
الكفاية في علم الرواية، ص 38. وأورد الفخر الرازي البيتين الأخيرين بلفظ مختلف قليلًا ودون نسبة إلى مُعَيَّن، وساق في ذلك حكايةً مدارها طعن ابن معين في الشافعي واتهامه بالتشيع بسبب ما كتبه في قتال أهل البغي معوِّلًا في الاحتجاج له على كلام علي بن أبي طالب، الأمر الذي حدا ببعض مؤيدي الشافعي - كما تقول الحكاية - إلى إنشاد البيتين المذكورين. الرازي، فخر الدين محمد بن عمر: مناقب الإمام الشافعي، تحقيق أحمد حجازي السقا (بيروت: دار الجيل، ط 1، 1413/ 1993)، ص 133.
(3)
الزركشي: النكت على مقدمة ابن الصلاح، ج 3، ص 367.
عمر بن الخطاب في قبول الرواية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، كما وقع في حديث أبي موسى الأشعري معه في كتاب الاستئذان في الموطأ وصحيح البخاري وأن عمر قال لأبي موسى:"أما إني لا أتهمك، ولكني أردتُ أن لا يتجرأ الناسُ على الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم". (1)
وروينا عن ابن عباس أنه قال: "إنا كنا إذا سمعنا رجلًا يقول: قال رسول الله، ابتدرنا وأصغينا إليه بآذاننا. فلما ركب الناسُ الصعبَ والذلول، لم نأخذ من الناس إلا ما نعرف". (2) وروى مسلم عن ابن سيرين أنه قال: "إن هذا العلم [يعني الحديث] دين، فانظروا عمن تأخذون دينكم". (3) وروى أبو عمر ابن عبد البر في التمهيد أن أبا هريرة قال: "إن هذا العلم (يعني الحديث) دين فانظروا عمن تأخذونه". (4)
(1) وكلام عمر كما رواه مالك: "أما إنِّي لم أتهمك، ولكن خشيت أن لا يتقول الناسُ على رسول الله صلى الله عليه وسلم"، ولم يورده البخاري في روايته لما جرى بين أبي موسى وعمر في مسألة الاستئذان. الموطأ برواياته الثمانية، "كتاب الاستئذان"، الحديث 1536، ج 4، ص 442؛ صحيح البخاري، "كتاب البيوع"، الحديث 2062، ص 331؛ "كتاب الاستئذان"، الحديث 6245، ص 1087؛ "كتاب الاعتصام بالسنة"، الحديث 7553، ص 1264.
(2)
صحيح مسلم، "المقدمة - باب النهي عن الرواية عن الضعفاء والاحتياط في تحملها"(الحديث 7، ص 13 - 14). وتمام الحديث: "وحدثني محمد بن عباد وسعيد بن عمرو الأشعثي جميعًا، عن ابن عيينة. قال سعيد: أخبرنا سفيان عن هشام بن حجير، عن طاووس؛ قال: جاء هذا إلى ابن عباس (يعني بُشير بن كعب). فجعل يحدثه. . ." وفي رواية أخرى عنده: "وحدثني أبو أيوب سليمان بن عبيد الله الغيلاني، حدثنا أبو عامر، يعني العقدي، حدثنا رباح، عن قيس بن سعد، عن مجاهد؛ قال: جاء بُشير العدوي إلى ابن عباس. فجعل يحدث ويقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم. فجعل ابن عباس لا يأذن لحديثه ولا ينظر إليه. فقال يا ابن عباس! مالِي لا أراك تسمع لحديثي؟ أحدثك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا تسمع. فقال ابن عباس: إنا كنا مرة إذا سمعنا رجلًا يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، ابتدرته أبصارُنا، وأصغينا إليه بآذاننا. فلما ركب الناسُ الصعبَ والذلول، لم نأخذ من الناس إلا ما نعرف".
(3)
صحيح مسلم، "المقدمة"، ص 14.
(4)
موسوعة شروح الموطأ، ج 1، ص 339.