الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
مسعود وابن عمر وابن عباس وعبد الله بن عمرو بن العاص مرفوعًا بأسانيدَ ضعيفة متفاوتة الضعف.
فهذا تحصيلُ القول في أفضل أسانيده. (1)
معنى الحديث:
ظاهرُ هذا الحديث أنه عامٌّ في كل مسؤول؛ لأن قوله: "سئل" فعل في سياق الشرط فيعم؛ لأن للفعل حكمَ النكرة، فيؤول إلى معنى: كُلُّ مَنْ سئل بكل سؤال عن كل علم فكتمه ألجمه الله، إلخ. ويستتبع ذلك عمومَ الأحوال والأزمنة والأمكنة؛ لأن العامَّ في الذوات عامٌّ في الأحوال والأوقات والأماكن عند جمهور أهل الأصول، خلافًا للقرافي. (2) فظاهرُه يقتضي أن كلَّ مسؤولٍ عن كل علم إذا كتم سائلَه عُوقِبَ يوم القيامة بلجام من نار، وترتيبُ العقوبة على عدم الجواب يقتضي أن الكتمانَ كبيرة، ويقتضي أن ضده - وهو جواب السائل عن علم واجب؛ لأن النهيَ عن الشيء أمر بضده. هذا ظاهرُ الحديث.
وقد اتفق العلماءُ على أن هذا الظاهر غيرُ مراد، ووَجْهُ اتفاقِهم على ذلك أن العقوبةَ تدل على أن كون ما ترتبت عليه كبيرة. وقد دلت الأدلةُ الشرعية من المنقول والمعقول أن جوابَ العالِم عما يُسأل عنه ليس بواجب في جميع الأحوال، وأن كون الشيء ذنبًا يقتضي ترتُّبَ مفسدةٍ دينية على فعله. ولا نجد في عدم إجابة العالم مَنْ يسأله مفسدةً في كثير من الأحوال، فذلك هو الداعي لهم إلى تأويل هذا الحديث،
(1) وانظر ثلاث روايات للحديث في الحاكم النيسابوري: المستدرك على الصحيحين، "كتاب العلم"، الأحاديث 344 - 346، ج 1، ص 170 - 171. وانظر في استقصاء جميع طرقه وتمحيصها ابن الجوزي: العلل المتناهية، ج 1، ص 96 - 107.
(2)
قال الشهاب: "فائدة: صيغ العموم وإن كانت عامة في الأشخاص فهي مطلقة في الأزمنة والبقاع والأحوال والمتعلقات، فهذه الأربعة لا عمومَ فيها من جهة ثبوت العموم من غيرها حتى يوجد لفظ يقتضي العموم فيها". القرافي: شرح تنقيح الفصول، ص 201.
أي حمله على غير ظاهره، جمعًا بين الأدلة مما ورد عن الشارع وما استقرئ من قواعد الشريعة.
قال أبو بكر بن العربي في عارضة الأحوذي: هو محمولٌ على خمسة وجوه:
الأول: أن يعدم ذلك العلم إن لم يظهره (أي المسؤول). وذلك بأن يكون منفردًا بعلمه بين تلك الجهة، بحيث يعتذر أن يجيب عنه غيره إلا في أقطار بعيدة. الثاني: أن يقع السائل في أُحموقة (1) إن لم يخبره. الثالث: أن تفوت به منفعة، أي مصلحة دينية. وهذه الوجوهُ الثلاثة في معنى الشروط لحرمة الكتمان، وكلُّها مبنيةٌ على أن المراد باللعن ظاهره معنى وعمومًا، فإطلاقُ اسم المحامل عليها في كلام أبي بكر ابن العربي تسامح. الرابع: امتثال وصية رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبي سعيد الخدري (2) في قوله: "إن الناس لكم تبع، وإن رجالًا يأتونكم يتفقهون - أي يتعلمون - فإذا جاؤوكم فاستَوْصُوا بهم خيرًا"، وذلك هو التعليم، (3) يعني تعليمَ الذين جاؤوا
(1) الأُحْمُوقة: الخصلة أو الفعلة من الحمق. وفي الحديث عن يزيد بن هرمز أن نجدة بن عامر الحروري كتب إلى ابن عباس يسأله "عن العبد والمرأة يحضران المغنم، هل يقسم لهما؟ وعن قتل الولدان؟ وعن اليتيم متى ينقطع عنه اليتم؟ وعن ذوي القربى، من هم؟ فقال ليزيد: اكتب إليه. فلولا أن يقع في أحموقة ما كتبت إليه. اكتب: إنك كتبت تسألني عن المرأة والعبد يحضران المغنم، هل يقسم لهما شيء؟ وإنه ليس لهما شيء، إلا أن يحذيا. وكتبت تسألني عن قتل الولدان، وإن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يقتلهم، وأنت فلا تقتلهم. إلا أن تعلم منهم ما علم صاحب موسى من الغلام الذي قتله. وكتبت تسألني عن اليتيم، متى ينقطع عنه اسم اليتم؟ وإنه لا ينقطع عنه اسم اليتم حتى يبلغ ويؤنس منه رشد. وكتبت تسألني عن ذوي القربى، من هم؟ وإنا زعمنا أنَّا هم، فأبَى ذلك علينا قومنا". صحيح مسلم، "كتاب الجهاد والسير"، الحديث 1812/ 139، ص 725 - 726.
(2)
مما رواه الترمذي وابن ماجه. - المصنف. ولفظ الحديث: "إن الناس لكم تبع، وإن رجالًا يأتونكم من أقطار الأرض يتفقهون في الدين، فإذا أَتَوْكُمْ فاستوصَوْا بهم خيرا". سنن الترمذي، "أبواب العلم"، الحديث 2650، ص 624 - 625؛ سنن ابن ماجه، "كتاب السنة - المقدمة"، الحديث 249، ص 38 (واللفظ للترمذي).
(3)
أورد المصنف كلام ابن العربي مع زيادة شرح وتفصيل. عارضة الأحوذي، ج 5/ 10، ص 85 - 86.
لقصد التصدي للتعلُّم والتفقه في الدين؛ لأنهم إنما جاؤوا ممتثلين أمرَ الله تعالى في قوله: {فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ} [التوبة: 122]. وحيث كان قوله: "طائفة" يدل على أن طلبَ العلم في الدين فرضُ كفاية، فكذلك تعليمُ طالبه هو فرضُ كفاية.
وهذا الوجهُ من محمل الحديث مخالفٌ للمحمل الأول، وهو مبنِيٌّ على أن المراد بالسؤال بعضُ معانيه، وهو طلب التعلم، وذلك يقتضي وجوبَ جواب السائل. ولهم في أحكام التعليم تفصيلٌ مذكور في تفسير قوله تعالى:{إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى} [البقرة: 159]. (1)
والخامس: أنه الشهادة، وهذا محملٌ مخالِفٌ للمحملين السابقين، فيكون المرادُ بالعلم هنا خصوصَ العلم بما بين الناس من الحقوق. وقد نسبه ابنُ العربي في الأحكام والقرطبي في التفسير لسحنون. (2) ويجري حينئذ على حكم أداء الشهادة المذكورة في تفسير قوله تعالى:{وَلَا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ} [البقرة: 283]، وفيه تفصيل. (3)
(1) للإمام الفخر الرازي في المسألة الثالثة من مسائل هذه الآية تقرير جيد من المناسب جلبُه هنا: "واعلم أن الكتاب لمَّا دل على أن خبرَ الواحد والإجماع والقياس حجة، فكل ما يدل عليه أحدُ هذه الأمور فقد دل عليه الكتاب، فكان كتمانُه داخلًا تحت هذه الآية. فثبت أنه تعالى توعَّد على كتمان الدلائل السمعية والعقلية، وجمع بين الأمرين في الوعيد. فهذه الآية تدل على أن مَنْ أمكنه بيانُ أصول الدين بالدلائل العقلية لمن كان محتاجًا إليها، ثم تركها أو كتم شيئًا من أحكام الشرع مع شدة الحاجة إليه، فقد لحقه الوعيدُ العظيم". التفسير الكبير، ج 2/ 4، ص 148.
(2)
ابن العربي: أحكام القرآن، تحقيق عبد الرزاق المهدي (بيروت: دار الكتاب العربي، 1421/ 2000)، ج 1، ص 79؛ القرطبي: الجامع لأحكام القرآن، ج 1، ص 481.
(3)
قال الإمام الرازي في المسألة الثانية في تفسير هذه الآية: "من الناس مَنْ قال: هذه الآية ناسخةٌ للآيات المتقدمة الدالة على وجوب الكتابة والإشهاد وأخذ الرهن. واعلم أن التزام وقوع النسخ من غير دليل يُلجئ إليه خطأ، بل تلك الأوامر محمولةٌ على الإرشاد ورعاية الاحتياط. وهذه =
وحاصلُ كلام ابن العربي راجع إما إلى تقييد في العموم ببعض الشروط، وإما إلى تخصيص عموم السؤال أو عموم العلم.
وقال الخطابي في شرح هذا الحديث من تعليقه على سنن أبي داود: "هذا في العلم الذي يلزمه تعليمه إياه ويتعين فرضه، كمن رأى كافرًا يريد الإسلام يقول: علموني ما الإسلام وما الدين، وكمن يرى رجلًا حديث العهد بالإسلام لا يحسن الصلاة وقد حضر وقتها يقول: علمونِي كيف أصلي، وكمَنْ جاء مستفتِيًا في حلال
= الآية محمولةٌ على الرخصة، وعن ابن عباس عنهما أنه قال: ليس في آية المداينة نسخ، ثم قال:{وَلَا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ} . وفي التأويل وجوه: الوجه الأول: قال القفال رحمه الله إنه تعالى أباح تركَ الكتابة والإشهاد والرهن عند اعتقاد كون المديون أمينًا، ثم كان من الجائز في هذا المديون أن يخلف هذا الظن، وأن يخرج خائنًا جاحدًا للحق. إلا أنه من الجائز أن يكون بعضُ الناس مطلعًا على أحوالهم، فههنا ندب الله تعالى ذلك الإنسان إلى أن يسعى في إحياء ذلك الحق، وأن يشهد لصاحب الحق بحقه، ومنعه من كتمان تلك الشهادة سواءً عرف صاحب الحق تلك الشهادة أو لم يعرف، وشدد فيه بأن جعله آثم القلب لو تركها. وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم خبر يدل على صحة هذا التأويل، وهو قوله:"خير الشهود من شهد قبل أن يُستَشْهَد". الوجه الثاني: في تأويل أن يكون المراد من كتمان الشهادة أن يُنكر العلمَ بتلك الواقعة. ونظيره قوله تعالى: {أَمْ تَقُولُونَ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطَ كَانُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى قُلْ أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهَادَةً عِنْدَهُ مِنَ اللَّهِ} [البقرة: 140]، والمراد الجحود وإنكار العلم. الوجه الثالث: في كتمان الشهادة والامتناع من أدائها عند الحاجة إلى إقامتها، وقد تقدم ذلك في قوله:{وَلَا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا} [البقرة: 282]، وذلك لأنه متى امتنع عن إقامة الشهادة فقد بطل حقه، وكان بهذا الامتناع من الشهادة كالمبطل لحقه، وحرمةُ مال المسلم كحرمة دمه، فهذا بالغ في الوعيد". الرازي: التفسير الكبير، ج 4/ 7، ص 106 - 107. وما أشار إليه الرازي من بيان لمعنى الآية 282 من السورة فهو قوله:"في هذه الآية وجوه، الأول - وهو الأصح - أنه نهى الشاهدَ عن الامتناع عن أداء الشهادة عند احتياج صاحب الحق إليها. والثاني أن المراد تحملُ الشهادة على الإطلاق، وهو قولُ قتادة واختيار القفال، قال: كما أمر الكاتبَ أن لا يأبَى الكتابة، كذلك أمر الشاهدَ أن لا يأبَى عن تحمل الشهادة؛ لأن كل واحد منهما يتعلق بالآخر، وفي عدمهما ضياعُ الحقوق. الثالث أن المراد تحمل الشهادِة إذا لم يوجد غيره. الرابع - وهو قول الزجاج - أن المراد بمجموع الأمرين التحمل أولًا، والأداء ثانيًا". المرجع نفسه، ص 100.