المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌الاهتمام بتدوين ما صحت روايته عن رسول الله صلى الله عليه وسلم - جمهرة مقالات ورسائل الشيخ الإمام محمد الطاهر ابن عاشور - جـ ١

[ابن عاشور]

فهرس الكتاب

- ‌إهداء

- ‌فَاتِحَةُ الكِتَاب

- ‌بين يدي مقالات ابن عاشور ورسائله

- ‌تمهيد: أنا وتراث ابن عاشور:

- ‌محاولات سابقة لجمع مقالات ابن عاشور، ولكن

- ‌منهجنا في هذه الجمهرة جمعا وترتيبا:

- ‌شكر وعرفان ودعاء

- ‌ضميمة

- ‌المِحْوَرُ الأَوَّلفِي العَقِيْدَةِوَالتَفْسِيْر وَالفِكرِ وَالحِكمَةِ

- ‌الفَرْع الأَوّلالعَقيْدَة والتّفسِيْر

- ‌تنبيه ونصيحة

- ‌الرحمن على العرش استوى

- ‌[مقدمة]

- ‌[موقع الآية من المتشابه]

- ‌[طريقة السلف إزاء المتشابه]

- ‌[الخلف وتأويل المتشابه]

- ‌[رأي المصنف]

- ‌تكليم الله لموسى عليه السلام

- ‌وجهُ تسمية يوم القيامة بيوم التغابن

- ‌عصمة الأنبياء

- ‌القول الفصل - لا في الفضل - في عصمة الأنبياء من بعد النبوة ومن قبل:

- ‌قول عياض:

- ‌[الخلاصة]:

- ‌شفاعة محمد صلى الله عليه وسلم

- ‌معنى الشفاعة:

- ‌أنواع الشفاعة ومكانة الرسول عليه السلام منها:

- ‌مراجعة في تفسير قوله تعالى: {قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى}

- ‌المهدي المنتظر

- ‌[مقدمة]:

- ‌[مكانة حديث المهدي من تعاليم الإسلام]:

- ‌[مذاهب العلماء في المهدي]:

- ‌كيف نشأ القولُ بالمهدي المنتظر

- ‌[أنواع الآثار المروية في المهدي]:

- ‌الآثار المروية في المهدي:

- ‌الرأي في هذه الآثار من جهة علم الحديث:

- ‌الرأى فيها من جهة النظر:

- ‌الفَرْعَ الثَّانِيالفكْر وَالحكْمَة

- ‌من يجدد لهذه الأمة أمر دينها

- ‌[تمهيد]:

- ‌دعائم الإسلام:

- ‌معنى التجديد

- ‌مضي مائة سنة مظنة لتطرق الرثاثة والاحتياج إلى التجديد:

- ‌كيف يكون مبدأ تعيين المائة السنة

- ‌رأي ابن السبكي في نعت المجدد وزمنه:

- ‌رأي مجد الدين ابن الأثير في تعيين المجددين

- ‌التحقيق في صفات المجدد وصنفه وعدده:

- ‌التوسم في تعيين المجددين بحسب أدلة الحق المبين:

- ‌[المائة الأولى]:

- ‌[المائة الثانية]:

- ‌[المائة الثالثة]:

- ‌[المائة الرابعة]:

- ‌[المائة الخامسة]:

- ‌[المائة السادسة]:

- ‌[المائة السابعة]:

- ‌[المائة الثامنة]:

- ‌[المائة التاسعة]:

- ‌[المائة العاشرة]:

- ‌[المائة الحادية عشرة]:

- ‌[انحلال الجامعة الإسلامية وتزايد الفتن]:

- ‌[المائة الثانية عشرة]:

- ‌التقوى وحسن الخلق

- ‌شرف الكعبة

- ‌اللذة مع الحكمة

- ‌احترام الأفكار

- ‌العلم عند الله

- ‌تحصيله:

- ‌المقدم منه والمتعين:

- ‌خطته:

- ‌نعيمه والغاية القصوى منه:

- ‌مسألة خفية من مباحث الفلسفة الإسلامية: وحدة الوجود

- ‌ابن سينا والحكمة المشرقية

- ‌[تمهيد]:

- ‌أصل الحكمة اليونانية المنقولة إلى العربية:

- ‌طريقة الشيخ ابن سيناء في الحكمة:

- ‌الحكمة المشرقية:

- ‌الكتاب المعنون "منطق المشرقيين

- ‌الإنسان على الأرض

- ‌عمر الإنسان: ماذا أردت

- ‌أصول التقدم والمدنية في الإسلام

- ‌[مقدمة]

- ‌ما هو الإسلام

- ‌[التأسيسات الأصلية]

- ‌[وحدة النوع الإنساني: ]

- ‌ظهور الإسلام

- ‌واجب المسلمين أن يقتنعوا بهداية الإسلام

- ‌واجب المسلمين: النصيحة

- ‌ما هو النصح والنصيحة

- ‌اضطلاع الناصح بحق النصيحة:

- ‌قبول المنصوح للنصيحة:

- ‌الرفق بالحيوان في الإسلام

- ‌تحرير مسألة في علم الهيئة

- ‌المحْوَر الثّانِيفِي فِقْهِ السُّنَّةِ

- ‌الفَرْع الأَوّلفِقْه الحَدِيْث

- ‌التعريف بكتاب الموطأ للإمام مالك بن أنس رحمه الله ونشأة علم الحديث

- ‌[تمهيد]:

- ‌الاهتمام بتدوين ما صحت روايته عن رسول الله صلى الله عليه وسلم

- ‌الغرض من تأليف الموطأ

- ‌ما المراد بالحديث الصحيح

- ‌[نسخ الموطإ]

- ‌اسم كتاب "الموطأ

- ‌تحقيق مسمى الحديث القدسي

- ‌[تقديم]:

- ‌ تعريف الحديث القدسي

- ‌صيغة رواية الحديث القدسي:

- ‌الفرق بين الحديث القدسي والقرآن وبينه وبين غيره من الأحاديث النبوية:

- ‌مراجعة ما تضمنه كتاب "فتح الملك العلي

- ‌المراجعة الإجمالية:

- ‌المراجعة التفصيلية:

- ‌درس في موطأ الإمام مالك رضي الله عنه: "جامع القضاء وكراهيته

- ‌[تمهيد: القضاء بين الترغيب والترهيب]:

- ‌[العدل أساسُ صلاح العمران]:

- ‌[شرح الحديث]:

- ‌الأسانيد المريضة الرواية: "حديث طلب العلم فريضة

- ‌أقوال الحفاظ في رجال سنده:

- ‌آراء الحفاظ في حالته:

- ‌[روايات الحديث]:

- ‌التنبيه على أحاديث ضعيفة أو موضوعة رائجة على ألسنة الناس

- ‌خلق النور المحمدي

- ‌متن هذا الحديث:

- ‌مرتبة هذا الحديث من الصحة:

- ‌نقده من جهة اللفظ:

- ‌نقده من جهة المعنى:

- ‌دفع إشكال في حديث نبوي: "سألتُ ربي

- ‌سند هذا الحديث:

- ‌[معنى الحديث]:

- ‌حديث: من سُئل عن علمٍ فكتمه

- ‌[سند الحديث]:

- ‌معنى الحديث:

- ‌[مسائل في فقه الحديث]:

- ‌حديث: من لم يهتم بأمر المسلمين فليس منهم

- ‌سند الحديث واختلاف ألفاظه

- ‌معنى الحديث:

- ‌تحقيق الخبر المأثور: "لا رهبانية في الإسلام

- ‌معنى الرهبانية:

- ‌لا صفر

- ‌شهر رجب

- ‌شهر شعبان

- ‌لا عزاء بعد ثلاث

- ‌تحقيق معنى لفظ العزاء

الفصل: ‌الاهتمام بتدوين ما صحت روايته عن رسول الله صلى الله عليه وسلم

في الذبِّ عن السنة بالتزام إخراج ما صح عن النبي صلى الله عليه وسلم، وذلك بنقد الرواة وضبط أحوالهم، وعرض مروياتهم على أصول الشريعة ومشهور السنة.

‌الاهتمام بتدوين ما صحت روايته عن رسول الله صلى الله عليه وسلم

-:

أولُ مَنْ ألف كتابًا عن شرط صحة السند هو الإمام مالك بن أنس رحمه الله، ألف كتاب الموطأ، فالموطأ أولُ تأليفٍ ظهر في الإسلام. وقد قيل إن عبد الملك بن جريج المكي أولُ من ألف، ولعل كتاب ابن جريج لم يتم أو لم يظهر. وليس البحثُ عن تحقيق كون كتاب ابن جريج أولَ كتاب أُلف، أو كون الموطأ أولَ كتاب ألف، بكبيرِ الجدوى.

وقال بعضُ العلماء: ألف مالك الموطأ بالمدينة، وألف ابنُ جريج بمكة، والأوزاعي بالشام، وسفيان الثوري بالكوفة، وحماد بن سلمة بالبصرة، وهُشيم [ابن بشير] بواسط، ومعمر بن راشد باليمن، وعبد الله بن المبارك بخراسان، وجرير بن عبد الحميد بالري. وكان هؤلاء في عصر واحد، فلا يُدْرَى أيُّهم سبق.

وأيًّا ما كان ذلك، فإن أول كتاب هو الآن موجودٌ ومرويٌّ عند أهل العلم هو كتابُ الموطأ. وقد اختلفت الأمصارُ في طريقة تدوين الأثر قوة وضعفًا، وكان أهلُ المدينة أوثقَ أهل الأمصار طريقة وأعلمهم بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأنها دارُ الإسلام ومهبط الوحي، وبها كان أعيانُ الصحابة الذين لم يشغلهم عن العلم شاغل. فكانت المدينةُ مرجعَ علماء الأمصار الإسلامية في تلقِّي السنة، وكانت سمعةُ الواحد من أهل الحديث تزيد وعلمُه ينضج بمقدار ما يحصله من الأخذ عن علماء المدينة. ومرجعُ شروط الصحة عند أهل الحديث ثلاثةُ شروط:

الأول: تحقيق أمانة الراوي فيما رواه، وتندرج تحت هذا شروط عدالة الراوي وسلامته من الابتداع.

الثاني: تحقيق عدم الالتباس والاشتباه عليه، وإلى هذا ترجع شروطُ قوة تمييز الرواة ليعلم تباعدهم عن التدليس ويقظتهم من الغفلة.

ص: 352

الثالث: تحقق مطابقة ما يروونه للثابت من أمر النبي صلى الله عليه وسلم، وإلى هذا ترجع شروطُ الترجيح عند التعارض.

والشرطان الأولان يتعلقان بصحة السند، والثالث يتعلق بصحة المتن. (1) وقد نظروا في الأسباب الحاملة على وضع الحديث فوجدوا أنها افتراء، أو نسيان، أو غلط، أو ترويج، أو تفاخر، فبنوا أصولَ الضبط على منع هاته الأسباب.

فأما الكذب، فهو شرُّ الأسباب وأسخفها؛ لأنه يُؤْذِنُ بالاستخفاف بالشريعة، ولا سيما العلم بالحديث الصحيح، وهو قولُ النبي صلى الله عليه وسلم:"مَنْ كذب علي متعمدًا فليتبوَّأْ مقعدَه من النار". (2) ودَفْعُ هذا السبب بتوخي أحوال الرواة والفحص عن عدالتهم وديانتهم، ونقد ظواهرهم وبواطنهم، فلا يُقبل مجهولُ العدالة باطنًا وهو المستور على الأصح، ولا يُقبل المجهول باطنًا وظاهرًا بإجماع.

وأما النسيانُ والغلط فهما يعرضان للراوي، وهما متقاربان: فالنسيان كأن يشتبه عليه المعلوم، فينسى أن يكون روى عن غير ثقة فينسبه إلى ثقة. والغلط أن يغير اللفظ، أو نحو ذلك. ويتفاوت الناسُ فيهما بتفاوت قوة الذهن، ودفعهما بتوخي أهل الضبط من الرواة الذين جُربوا المرة بعد المرة، وأعيدت عليهم الأحاديثُ وقُلِبت لهم، فثبتوا فيها وأتوا بها على وجوهها، مع تجربة حفظهم ويقظتهم.

ومن هذا النوع أن يرويَ الراوي الحديثَ بالمعنى، فيغير المعنى بتغير اللفظ. وهذا القسم أشدُّ الأقسام خَطَرًا؛ لأن الناسَ عرضةٌ للنسيان والغلط، ولأنه وقع من

(1) انظر في هذا ما ذكره المصنف في كتابه كشف المغطَّى من المعاني والألفاظ الواقعة في الموطأ، تحقيق د. طه علي بوسريح التوني (تونس/ القاهرة: دار سحنون ودار السلام، 1427/ 2006)، ص 22.

(2)

أخرج البخاري عن عامر بن عبد الله بن الزبير، عن أبيه قال:"قلت للزبير: إني لا أسمعك تحدث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم كما يحدث فلان وفلان؟ قال: أما إني لم أفارقه، ولكن سمعته يقول: "من كذب علي فليتبوأ مقعده من النار"". صحيح البخاري، "كتاب العلم"، الحديث 107، ص 24؛ "كتاب الجنائز"، الحديث 1291، ص 206؛ صحيح مسلم، "المقدمة"، الحديث 3، ص 12؛ سنن الترمذي، "أبواب العلم"، الحديث 2658، ص 626؛ سنن ابن ماجه، "كتاب السنة - المقدمة"، الأحاديث 30 و 32 - 37، ص 5 - 6.

ص: 353

أهل العجالة وتلقته الناسُ عنهم فشاع بينهم. فلذلك كانت العنايةُ بصرف الهمة إلى تمحيص هذا النوع أوكدَ وأولَى، ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم:"نضَّر الله امرَأً سمع مقالتي فأداها كما سمعها، فرُبَّ حاملِ فقهٍ إلى مَنْ هو أفقه منه، ورُبَّ حاملِ فقهٍ ليس بفقيه". (1)

وأما الترويج، فهو متابعة ما يرغب فيه الطالبون مما ليس بمفيدٍ كمالًا في الرواية. فالترويج يكون لترويج المذهب والنحلة، أو لترويج المقصد. وإنما كان الترويجُ سببًا للوضع؛ لأن المروِّجَ قد يقتنع بوقوع الحديث على وَفْق مطلبه، فتصرفه موافقتُه لمراده عن نقده وتمحيصه. فإذا انضم إلى الترويج شيءٌ من التساهل في الرواية ومن ضعف العدالة كان خطرًا.

ومن الترويج ما يُسمَّى بالتدليس، مثل تدليس الأسماء بأن يعطي شخصًا اسم آخر تشبيهًا، كأن يقول حدثني مالك بن أنس، ويريد البصري الخارجي. (2)

(1) بقريب من هذا اللفظ أخرج الشافعي بسنده عن عبد الله بن مسعود أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "نضر الله عبدًا سمع مقالتي فحفظها ووعاها، وأداها، فرب حامل فقه غير فقيه، ورب حامل فقه إلى مَن هو أفقه منه. ثلاث لا يغل عليهن قلب مسلم: إخلاص العمل لله، ونصيحة المسلمين، ولزوم جماعة المسلمين، فإن دعوتهم تحيط من ورائهم". الشافعي، محمد بن إدريس: الأم، تحقيق رفعت فوزي عبد المطلب (المنصورة/ مصر: دار الوفاء، 1425/ 2004)، ج 1: الرسالة، ص 182 و 220. انظر عدة روايات في هذا المعنى جاءت فيها كلمة "مقالتي" كما جاء فيها لفظ "حديث" مع اختلاف يسير في اللفظ وتفاوت من حيث الطول والقصر عند الترمذي في ابن العربي: عارضة الأحوذي، "كتاب العلم"، الحديثان 2665 - 2666، ج 5، ص 326 - 328 (قال الترمذي:"حسن صحيح")، وكذا الحديث 2667؛ ابن عبد البر: جامع بيان العلم وفضله، الأحاديث 169 - 182، ص 58 - 61. وقريب منها حديث عائشة:"نضر الله عبدًا سمع مقالتي هذه فحفظها، ثم وعاها فبلغها عني". الخطيب البغدادي، أبو بكر أحمد بن علي: كتاب المتفق والمفترق، تحقيق محمد صادق آيدن الحامدي (دمشق: دار القادري، 1417/ 1997)، الحديث 758، ج 2، ص 1214. وانظر كذلك روايتين باختلاف يسير في الحاكم النيسابوري: المستدرك، "كتاب العلم"، الحديثان 295 - 296، ج 1، ص 152 - 153.

(2)

قول المصنف: "البصري الخارجي"، خطأ. والصواب: مالك بن أنس النخعي الكوفي. قال الخطيب: "يروى عنه حديث واحد عن هانئ بن حِرام، وقيل: حَرام، رواه سفيان الثوري عن مغيرة بن النعمان النخعي، عن مالك. وقد وهم بعضُ أهل العلم فأدخل حديثه في حديث =

ص: 354

وسمع سحنون رجلًا يحدث عن ابن نافع فقال له: أنتَ أدركت ابن نافع؟ فقال: أردتُ الزبيري ولم أرد الصائغ، فوبَّخه سحنون وقال:"ماذا يظهر بعدي من العقارب! "(1)

ومنه ما قاله الحافظ أبو عمر في "التمهيد": أن يحدث الرجل عن الرجل قد لقيه وأخذ عنه بما لم يسمعه منه، وإنما سمعه بالواسطة مِمَّنْ تُرضى حالُه أو لا ترضى. (2) فهذا مؤذِنٌ بأنه ما حَذَف الواسطةَ إلا لنقص تَخَّيله فيه، غير أنه إذا كان من أهل الضبط اغتُفِرَ له ذلك. فدَفْعُ هذا هو ضبطُ تاريخ الرواة ومَنْ لقيَ منهم غيرُه ومَنْ لم يلقه، ومقابلة ذلك بروايات أقرانه، مع التوخِّي في ألفاظ التحديث مثل الفرق بين سمعت فلانًا وبين عن فلان.

وأما التفاخر، فهو اعتناء الراوي بإشهار مروياته، حبًّا للمحمدة. ويكون بأمور: منها الإكثارُ من الرواية، ومنها الاعتناءُ بتخريج الغريب، أي الذي لا يُعرَف، ومنها الولعُ بمحسِّنات الحديث. وكلُّ ذلك وإن كان لا يقتضي كذبًا، إلا أنه قد يَجُرُّ إلى التساهل

= مالك ابن أنس الفقيه". الخطيب البغدادي، أبو بكر أحمد بن علي بن ثابت: كتاب المتفق والمفترق، تحقيق ودراسة محمد صادق آيدن الحامدي (دمشق: دار القادري، ط 1، 1417/ 1997)، ج 3، ص 1992. وانظر كذلك: ابن حجر العسقلاني، شهاب الدين أبو الفضل أحمد بن علي: تهذيب التهذيب (حيدر آباد الدكن: دائرة المعارف النظامية، ط 1، 1325 - 1327)، ج 10، ص 9 - 10.

(1)

قال عياض عند التنبيه على غلط الكتاب في ضبط الأسماء والتحذير من التصحيف فيها: "فأما تمييز المشتبه منها فمما لا يقف عليه إلا النحرير، ولا يعرفه إلا الفطن بهذا الباب البصير. ولقد بُعث لسحنون في محمد بن رزين، وقد بلغه أنه يروي عن عبد الله بن نافع، فقال له: أنت سمعت ابن نافع؟ فقال: أصلحك الله، إنما هو الزبيري، وليس بالصائغ. فقال له: ولم دلست؟ ثم قال سحنون: ما يخرج بعدي من العقارب. فقد رأى سحنون وجوب بيانها". اليحصبي: ترتيب المدارك، ج 1، ص 47.

(2)

أورد المصنف كلام ابن عبد البر بتصرف غير يسير، وأصله:"وأما التدليس، فمعناه عند جماعة أهل العلم بالحديث أن يكون الرجلُ قد لقي شيخًا من شيوخه فسمع منه أحاديثَ لم يسمع غيرَها منه، ثم أخبره بعضُ أصحابه مِمَّن يثق به باحاديثَ غيرِ تلك التي سمع منه، فيحدث بها عن الشيخ دون أن يذكر صاحبه الذي حدثه بها، فيقول: عن فلان، يعني ذلك الشيخ". موسوعة شروح الموطأ، ج 1، 318 - 319.

ص: 355

في الرواية لتكميل ما به المفاخرة؛ لأن الولَعَ بذلك يصير هوًى ومحبة. فكان مالك رحمه الله شديدَ النقد في هذه الأنواع كلها، ونافذَ البصر بسد مواقع الخلل والتهمة فيها.

فأما نحو السبب الأول - وهو الكذب - فقد بالغ في نقد الرجال من ثلاث جهات: جهة العدالة، وجهة أصالة الرأي وتمييز المرويات، وجهة اتباع السنة. قال سفيان بن عيينة:"رحم الله مالكًا، ما كان أشدَّ انتقادُه للرجال والعلماء". (1) وقال ابن المديني: "لا أعلم أحدًا يقوم مقامَ مالك في ذلك". (2) وقال أحمد بن صالح: "ما أعلم مالكًا رَوَى عن أحد فيه شيء". (3)

والمحدثون وإن قبلوا روايةَ أهل البدع في الاعتقادات إذ كانوا يحرمون الكذب، إلا أن مالكًا اشترط في ذلك أن لا يكون ذلك الراوي داعيةً لمذهبه؛ لأن ذلك يوجب له تهمة. (4)

(1) اليحصبي: ترتيب المدارك، ج 1، ص 124؛ الرازي، ابن أبي حاتم: الجرح والتعديل (بيروت: دار إحياء التراث العربي، ط 1، 1952)، ج 1 (بعنوان: تقدمة المعرفة لكتاب الجرح والتعديل)، ص 23. وهو بلفظ:"ما كان أشدَّ انتقاد مالك للرجال وأعلمه بشأنهم". وعند ابن عدي بلفظ "انتقاء" بدل "انتقاد". المقريزي: مختصر الكامل، ص 72.

(2)

اليحصبي: ترتيب المدارك، ج 1، ص 123.

(3)

وتمامه: "ما أعلم أحدًا أشدَّ تنقيبًا للرجال والعلماء من مالك، ما أعلمه روى عن أحد فيه شيء". اليحصبي: ترتيب المدارك، ج 1، ص 124. ومثله ما أورده ابن عدي أن علي بن المديني قال:"لا أعلم مالكًا ترك إنسانًا إلا إنسانًا في حديثه شيء". المقريزي: مختصر الكامل، ص 73. وروى مسلم في "باب بيان أن الإسناد من الدين وأن الرواية لا تكون إلا عن الثقات. . ." من مقدمة صحيحه قال:"وحدثنا أبو جعفر الدارمي. حدثنا بشر بن عمر. قال: سألت مالك بن أنس، عن محمد بن عبد الرحمن الذي يروي عن سعيد بن المسيب؟ فقال: ليس بثقة. وسألته عن صالح مولى التوأمة؟ فقال: ليس بثقة. وسألته عن أبي الحويرث؟ فقال: ليس بثقة. وسألته عن شعبة الذي روي عنه ابن أبي ذئب؟ فقال: ليس بثقة. وسألته عن حرام بن عثمان؟ فقال: ليس بثقة. وسألت مالكًا عن هؤلاء الخمسة؟ فقال: ليسوا بثقة في حديثهم. وسألته عن رجل آخر نسيت اسمه؟ فقال: هل رأيته في كتبي؟ قلت: لا. قال: لو كان ثقة لرأيته في كتبي". صحيح مسلم، ص 20.

(4)

انظر استقصاءَ الأقوال في هذا الشأن في: الخطيب البغدادي: الكفاية في علم الرواية، ص 112 - 122. وقال مالك: "لا تأخذ العلم من أربعة وخذ ممن سوى ذلك: لا تَأْخُذْ من سفيهٍ معلن =

ص: 356

أما نحو السببين الثاني والثالث - وهما النسيان والغلط - فقد اشترط مالك رحمه الله في الرواية أن يكون الراوي من أهل العلم والمعرفة. قال ابن وهب: "ما كنا نأخذ الحديث إلا من فقهاء". (1) وشدد في نقل الحديث بالمعنى، فقال:"لا ينبغي للمرء أن ينقل لفظ النبي صلى الله عليه وسلم إلا كما جاء، وأما لفظ غيره فلا بأس بنقله بالمعنى"، (2) نعم رخص في زيادة مثل الواو والألف في الحديث والمعنى واحد.

وأما نحوُ السببين الرابع والخامس - وهما الترويج والتفاخر - فإن مالكًا رحمه الله أخذ الحيطة لذلك بأمرين: بتزييف ما كانوا يصنعون، والحذر مما يدعون. ففي المقام الأول لم يهتم بشيء من التصنع والتحسن في طرق الرواية، فكان يكرر ما يقوله لهم أبو عبيدة بن محمد بن عمار بن ياسر:"إذا أخذتُم في الساذج تكلمنا معكم، وإذا أخذتم في المنقوش قمنا عنكم". (3) وقيل له: "إن فلانًا يحدثنا بغرائب، فقال (مالك): من الغريب نَفِرّ". (4) وقال له بعضُهم: "ليس في كتابك حديثٌ غريب. فقال: سررتني". (5)

= بالسفه وإن كان أروى الناس، ولا تأخذ من كذاب يكذب في أحاديث الناس إذا جرب ذلك عليه وإن كان لا يُتهم أن يكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا من صاحب هوى يدعو الناس إلى هواه، ولا من شيخ له فضلٌ وعبادة إذا كان لا يعرف ما يحدث". المرجع نفسه، ص 108 و 147. وانظر كذلك ابن رشد: البيان والتحصيل، "كتاب الجامع السابع"، ج 18، ص 241.

(1)

اليحصبي: ترتيب المدارك، ج 1، ص 125.

(2)

ذكر القاضي عياض أن مالكًا سئل "عن الأحاديث يُقدَّم فيها ويؤخر والمعنى واحد، فقال: أما ما كان من لفظ النبي صلى الله عليه وسلم، فلا ينبغي أن يقوله إلا كما جاء. وأما لفظ غيره فإذا كان المعنى واحدًا، فلا بأس به. قيل: فحديث النبي صلى الله عليه وسلم مزادٌ فيه الواو والألف والمعنى واحد، قال: أرجو أن يكون خفيفًا". ترتيب المدارك، ج 1، ص 148. وقد سبق الخطيب البغدادي عياضًا في رواية ذلك بسنده عن أشهب قال:"سألت مالكًا عن الأحاديث يقدم فيها ويؤخر والمعنى واحد، فقال: أما ما كان منها من قول رسول الله صلى الله عليه وسلم فإني أكره ذلك، وأكره أن يُزادَ فيها وينقص، وما كان من قول غير رسول الله صلى الله عليه وسلم فلا أرى بأسًا إذا كان العنى واحدًا". الكفاية في علم الرواية، ص 171. وقارن بما جاء عن غير مالك في رواية الحديث بالمعنى: المرجع نفسه، ص 156 - 158، وص 184 - 190.

(3)

اليحصبي: ترتيب المدارك، ج 1، ص 123.

(4)

المرجع نفسه، ص 150.

(5)

المرجع نفسه، ص 196.

ص: 357