الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
نفوس السامعين حتى يستحضرَ كلُّ ذي لُبٍّ مقدارًا من مدلولها على مقدار تفاوت القرائح والأفهام، مع الاعتماد على إيمان المخاطَبين بها أن لا يَحملوها على ما يظهر بادئَ الرأي من معانٍ لا تليق بجلال الله تعالى.
[طريقة السلف إزاء المتشابه]
وهذه الآية ونحوها - كقوله تعالى في سورة الأعراف: {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} [الأعراف: 54](1) - لكونها من المتشابه، كانت طرائقُ علماء الإسلام في الكلام عليها مختلفةً متفاوتة. فأما السلف من الصحابة فلم يخض منهم فيه سائلٌ ولا مسول، ولا تطلَّبوا بيانَه من الرسول، وتلك سنتُهم في أمثالها حين كانت عقائدُ الأمة سليمةً من الدَّخَل، وحين كان معظمُ انصرافها إلى حسن العمل.
ثم حدث التشوُّف إلى الغوص على المعاني في عصر التابعين، وربما طنت بأذهانهم أسئلةُ السائلين، فأخذوا يسدون بابَ الخوض في مثل هذا ويبعدون عنه لواذًا، وألْحقوه بالمتشابه، فقضَوْا بالإمساك عن تأويله، ويقولون: آمنا به، ويتأولون لطريقتهم بقوله تعالى:{وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ} ، ثم بقوله:{وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا} [آل عمران: 7]. ولذلك نُقل عن جماعة منهم أنهم قالوا في آيات المتشابه: "نُمِرُّها إمرارًا كما جاءت، بلا كيف، ولا تعطيل، ولا تشبيه، ولا تمثيل". (2)
(1) وتمام الآية: {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ (54)} [الأعراف: 54]، والعبارة نفسها جاءت في سياقات أخرى في سور يونس: 3، والرعد: 2، وطه: 5، والفرقان: 59، والسجدة: 4، والحديد:4.
(2)
قال البيهقي: "فأما الاستواء فالمتقدمون من أصحابنا رضي الله عنهم كانوا لا يفسرونه ولا يتكلمون فيه، كنحو مذهبهم في أمثال ذلك. أخبرنا أبو عبد الله الحافظ قال: أخبرني أبو عبد الله محمد بن علي الجوهري ببغداد، ثنا إبراهيم بن الهيثم، ثنا محمد بن كثير المصيصي، قال: سمعت الأوزاعي يقول: كنا - والتابعون متوافرون - نقول: إن الله تعالى ذكره فوق عرشه، ونؤمن بما وردت به السنة من صفاته جل وعلا". ثم قال بعد أن ذكر الحكاية المأثورة عن الإمام مالك التي أوردها المصنف: =
ودرج على ذلك معظمُ أئمة العصر الذي بعد عصر التابعين، مثل مالك وأبي حنيفة والأوزاعي وسفيان الثوري والليث بن سعد وسفيان بن عيينة، ومَنْ تبع طريقتَهم من أصحابهم، والطبقةُ التي تليهم مثل الشافعي وعبد الله بن المبارك وإسحاق بن راهويه ونعيم بن حماد شيخ البخاري وأحمد بن حنبل والبخاري. وقد سُئل مالك رحمه الله عن هذا الآية فقال للسائل: "الاستواء معلوم، والكيف مجهول، (وفي رواية: والكيف غير معقول)، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة، وأظنك
= "والآثار عن السلف في مثل هذا كثيرة، وعلى هذه الطريقة يدل مذهب الشافعي رضي الله عنه، وإليها ذهب أحمد بن حنبل والحسين بن الفضل البجلي، ومن المتأخرين أبو سليمان الخطابي. وذهب أبو الحسن علي بن إسماعيل الأشعري إلى أن الله تعالى جل ثناؤه فعل في العرش فعلًا سماه استواءً، كما فعل في غيره فعلًا سماه رزقًا ونعمة أو غيرهما من أفعاله. ثم لم يكيف الاستواء، إلا أنه جعله من صفات الفعل لقوله: {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} ". البيهقي، أبو بكر أحمد بن الحسين بن علي: كتاب الأسماء والصفات، قدم له وعلق عليه محمد زاهد الكوثري (القاهرة: المكتبة الأزهرية للتراث، بدون تاريخ)، ص 378 و 380. وقال كذلك:"ولم يتكلم أحد من الصحابة والتابعين في تأويله [يعني ما جاء من آيات وأحاديث في الصفات]، ثم إنهم على قسمين: منهم من قبله وآمن به ولم يؤوله، ووكل علمه إلى الله الكيفية والتشبيه عنه. ومنهم من قبله وآمن به وحمله على وجه يصح استعماله في اللغة، ولا يناقض التوحيد. وقد ذكرنا هاتين الطريقتين في كتاب الأسماء والصفات في المسائل التي تكلموا فيها من هذا الباب". البيهقي، أبو بكر أحمد بن الحسين: الاعتقاد والهداية إلى سبيل الرشاد (بيروت: دار ابن حزم، ط 1، 1424/ 2003)، ص 55 - 56. وقال ابن تيمية في هذا الصدد:"ولهذا كان مذهبُ سلف الأمة وأئمتها أنهم يصفون الله سبحانه وتعالى بما وصف به نفسه وبما وصفه به رسوله، من غير تحريف ولا تعطيل، ومن غير تكييف ولا تمثيل. يثبتون له الأسماء والصفات، وينفون عنه مماثلة المخلوقات: إثبات بلا تمثيل، وتنزيه بلا تعطيل، كما قال تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (11)} [الشورى: 11]؛ فقوله: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} ردٌّ على أهل التمثيل، وقوله: {وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} ردٌّ على أهل التعطيل". ابن تيمية، شيخ الإسلام أحمد بن عبد الحليم: الرسالة الصفدية: قاعدة في تحقيق الرسالة وإبطال قول أهل الزيغ والضلالة، تحقيق أبي عبد الله سيد عباس الحليمي وأبي معاذ أيمن عارف الدمشقي (بيروت: دار ابن حزم/ الرياض: مكتبة أضواء السلف، 1423/ 2002)، ص 133.