الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الإنسان على الأرض
(1)
جرى بين التلاميذ في خلال زمان قريب كلامٌ في تقدير عمر نوح عليه السلام فحدا بقلم بعض العلماء المحققين (2) إلى تبيان الحق، ذلك البحث الذي نشرته مجلة "السعادة العظمى" في عددها الرابع، ولقد أجاد في دفعه وأقنع.
ولكن أرى بقيةَ تبيانٍ لهذه المسألة وتعضيدًا للكاتب الأول (3) بالتحقيق النظري، والسنة الطبيعية، عادلًا عن توجيه إمكانه بفلتات الطبيعة؛ فإن الطبيعة إذا
(1) السعادة العظمى، المجلد 1، العدد 6، 16 ربيع الأنور 1322 هـ (ص 87 - 91)، وقد كتبها ولما يتجاوز عمره الخامسة والعشرين.
(2)
هو الشيخ محمد النخلي القيرواني أستاذ المصنف وصديقه، أحد علماء الزيتونة الذين حملوا راية الإصلاح ومشعل النهضة الفكرية والثقافية في تونس. ولد سنة 1286/ 1869 بمدينة القيروان حيث تلقى تعليمه الأولي وحفظ القرآن الكريم وأتى على أهم متون العلوم من لغة ومنطق وعروض وبيان، وتفتقت قريحته فبدأ يقول الشعر في سن مبكرة. وفي عام 1304/ 1886 انتقل إلى حاضرة تونس والتحق بجامع الزيتونة الذي تخرج فيه بعد أربع سنوات. كان من أبرز أساتذته الشيوخ سالم بوحاجب وعمر بن الشيخ وصالح الشريف وأحمد بن مراد ومحمد بن يوسف الذين أخذ عنهم علوم التفسير والحديث والفقه والأصول والبلاغة والمنطق. بدأ التدريس بجامع الزيتونة فدرس لمدة تزيد عن الثلاثين سنة، فأقرأ وأفاد في علوم شتى، وكان واسع النشاط ذا حضور كبير في كل المنابر الثقافية والإعلامية التي كانت متاحة في تونس. وتخرج عليه أجيال من الدارسين ممن أصبحوا ذوي إسهام مقدر في حركة الإصلاح والنهضة، ومنهم الشيوخ محمد الطاهر ابن عاشور وعبد الحميد بن باديس ومحمد البشير النيفر ومحمد الصادق النيفر ومعاوية التميمي. توفي الشيخ النخلي سنة 1342/ 1924.
(3)
يعني أستاذه الشيخ النخلي. ومن الغريب أن يصدر كتاب بعنوان "آثار الشيخ محمد النخلي"(دار الغرب الإسلامي ببيروت 1995) من إعداد نجله الأستاذ عبد المنعم النخلي والأستاذ حمادي الساحلي ولا يتضمن المقال المشار إليه هنا!
فلتت في عام أو عامين أو قرن أو قرنين، لا تذهب في فلتتها إلى حدّ ألف (1) سنة، ثم إن الآية تقتضي أنه لبث في قومه تلك المدة، والقوم هم هم بحسب ما يعرف من بقاء قوم الرجل معه، وأنهم الذين استأصلهم الله بالطوفان، كما داموا على كفرهم والسخرية بشرعة ربهم. ومن المحال أن تكون هاته كلُّها فلتاتٍ من الطبيعة، ونشر هاته المسائل بعد طيِّها هو الذي قضى علينا أن لا نتركها تلوح وما تلوح، وتناجي بسرها وما تبوح. ستكون خطة بحثنا هنا في التحقيق:
1 -
هل منح الإنسان بمائة وعشرين سنة من العمر موهبة طبيعية أم جعلية؟
2 -
وهل هي هبة قديمة تقارن نشأته أم طارئة على ذلك بحدثان؟
يُثبِتُ علمُ الجيولوجيا - وإن اختلفت آراء أصحابه في طرق الإثبات - أن الأرض التي نحن عليها قد مرَّت عليها تقلباتٌ مهولة معجبة في أحقاب طويلة جرَّأَ طولها العلامة هتون (2) الجيولجي البركاني الشهير أن يقول: "إني لم أجد في بنية العالم أثرًا للبداية ولا أملًا بالنهاية". (3) وأثبت أن الأرض ما كانت في ابتداء نشأتها
(1) في الأصل آلاف، والراجح أنه تصحيف.
(2)
جيمس هتون James Hutton عالم جيولوجيا اسكتلندي ولد سنة 1726 وتوفي سنة 1797. درس القانون والطب في جامعة إدنبره، لكنه انجذب بصورة خاصة إلى علم طبقات الأرض الذي كان ما يزال علما ناشئًا في وقته، واهتم بصورة خاصة بدراسة تكَوُّن الصخور التي حوله حينما كان يعمل فلاحًا في يورفيكشاير. يعتبره الكثيرون رائدًا لعلم طبقات الأرض الحديث. يعد هتون من رموز مدرسة التنوير في إسكتلندا، وكان من أبرز أصدقائه الفيلسوف دايفيد هيوم والاقتصادي آدم سميث. نشر أفكارَه بخصوص التطورات الجيولوجية للأرض سنة 1795 في كتاب من جزءين بعنوان "نظرية الأرض"(Theory of the Earth). ولا ندري على وجه التحقيق ما إذا كان المصنف قد اعتمد في نقل هذا الاستشهاد من كلام هتون على ترجمة عربية أم فرنسية لكتابه المذكور.
(3)
فيما يلي نصُّ عبارة هتون التي استشهد بها المصنف (وقد أبرزناه بخط مائل غليظ) مع ما سبقها من كلام:
" But if the succession of worlds is established in the system of nature، it is in vain to look for any thing higher in the origin of the earth. The result، therefore، of our present enquiry is that we find no vestige of a beginning، no prospect of an end." James Hutton، Theory of the Earth or An Investigation of the Laws Observable in the Composition، Dissolution، and Restoration of Land upon the Globe (First=
في الزمن الأول من الأزمان الكبرى التي تبدلت فيها أطوارها كما هي اليوم، ولا كانت في الزمن الثالث الذي خلقت فيه الحيوانات والإنسان كما كانت أولًا، (1) ولا تكون غدًا كما تكون اليوم، بل هي كأبنائها يَعْتَورُها طفولةٌ وشباب، وفتوةٌ وهرم.
والذي أنبأهم بذلك ما وجدوا في البحث عن أعضاء الحيوان من جثث كائنات عضوية لا تعرف في كائنات العصر الذي دون فيه تاريخ العلوم، والذي ابتدأ البشر فيه كتابة مشاهداتهم، لا نقول قبل أن يكتب أرسطو كتاب نعت الحيوان، بل قبل أن ينقش سكان وادي النيل على مسلاتهم ونواويسهم صورَ حيواناتهم المعروفة، وقبل أن يرسمها مصورو قرطاجنة على الفسيفساء. (2)
ما أشبه الليلة بالبارحة! لم يزل التاريخ يعضد بعضه بعضًا، قد أثبت العلماء اليوم أن الكركدن (3) قد أخذ ينقطع تناسلُه منذ مدة، ولا يلبث معنا على الأرض
= published in Volume I of the Transactions of the Royal Society of Edinburgh، 1788، and posted on the web in 1998)، p. 71.
(1)
هذا شيء اصطلحوا عليه أنتجته الفلسفةُ الجيولوجية والنظرُ في تكوين الأرض بآثارها وطبقاتها، قسموا أزمان الأرض باعتبار أطوار عظيمة مرَّت على خلقتها إلى أربعة أقسام: الأول زمن تكوين الأرضين الأصلية، وهي الصخور العرية عن الحفريات؛ أي المسام التي يمكن أن تبرز نباتا. الثاني زمن رسوب الأرضين الثانوية المركبة من طفل وفحم وحجارة جيرية ورملية. الثالث الذي خلق فيه الحيوان والكائنات العضوية. الرابع ما نشأ بعد الاختلاط الطوفاني من نقل الماء أتربة المواضع بعضها إلى بعض وتسمى الأرضين الطوفانية. - المصنف.
(2)
هي المسماة اليوم "موزاييك"[Mosaique Mosaic،]، وهي قطعٌ صغيرة من الحجارة المنحوتة يحصل من التئامها صورٌ وأشكال من تلوين أجزائها اللطيفة. - المصنف.
(3)
وربما قيل الكركند حيوان يسميه العرب الحريش أخذًا من الأحرش، لخشن الظاهر من الحيوان وغيره؛ لأن جلده شديد، وحسبه أنه لا تعمل فيه طعنة ناب الفيل إذا احتدم الخصام. ذكره صاحب القاموس وشدَّد داله، ونسب تشديدَ نونه إلى العامة، وذكره في (ح ر ش) من الصحاح. ويُسمَّى الحمار الهندي، وهو عدو الفيل، له قرن على رأسه يفتك به فتكًا شديدًا، وله شبه بالفيل في جلده وبعض خرطومه، ولكن له شبه بالحمار. من أجل ذلك، قيل في الخرافات إنه متولد بين الفيل والفرس، قضى ثقل قرنه عليه أن يكون مطأطئ الرأس لا عن حياء بل عن مكر ودهاء، ويقول البعض إن الحرش غيره، وهو غلط. ويقول البعض إنه ضرب منه. - المصنف. الفيروزآبادي، =
غيرَ زمن قليل حتى يبارحنا ملتحقًا بإخوانه من أصناف الحيوان التي أخنَى عليها مرُّ الزمان. فإذا كان [هناك] اليوم مَنْ يتنافس في قرنه يضع الإناء المنحوت منه في مواضع التباهي والفخر، فما نحن ببعيد أن نصير نتنافس في اقتناء عظامه من طبقات الأرض ومصارع الهلاك؛ لنضعها بالمشاهد العمومية والمكاتب الزوولوجية، (1) تعليمًا لِخَلفنا، وتصديقًا لسلفنا.
هذه الأطوارُ التي لحقت كرتنا، فصرعت أصنافًا من الحيوان شديدة القوى، ورمتها رميَ الملتقف أيدي الزيال والنوي، (2) ما نالت من الإنسان ما نالت من غيره، كأن حيلة البشر قد أنجته من حيث لا يجد حيلة، وكأن هذا الضعف الذي كان قرينه - وإن أضرَّ به عند ملاقاة الضواري - فقد نفعه يوم تركه يتعظ بمصارعها، ويربع في مراتعها، كما ينفع اللينُ الصوفةَ حين تدقها المطارق، وأضرَّها حين ترمي بها الرياح فجاج المخارق، لكنها نالت منه شيئًا واحدًا، هو عدم نسبي، وهو الأخذ من العدم؛ فقد كان البشر في أول العالم يبلغ بعيشه إلى ألف من السنين، دام على ذلك يبسط لها يدًا ثم ينْفَضُّ عنها، وما يبعد أحدًا، حتى رمى الله هذا العالَمَ بالطوفان الكبير في آخر حياة نوح عليه السلام.
فذلك كان الطورَ الرابع للأرض: أنهك من قواها ما أنهك، وأبرد من حرارتها ما أبرد، يومئذٍ كتب الله على البشر - كما تقول التوراة - أن لا يعيش أكثر من مائة وعشرين سنة، ولكن التوراة أثبتت أن إبراهيم وإسحاق ويعقوب ومَنْ عاصرهما من ذوي الأسماء التاريخية قد جاوزوا بآجالهم هذا العمر المكتوب على
= مجد الدين محمد بن يعقوب: القاموس المحيط، قدم له ووضع حواشيه الشيخ أبو الوفا نصر الهوريني المصري الشافعي (بيروت: دار الكتب العلمية، ط 2، 1428/ 2007). ج 2، ص 368.
(1)
نسبة إلى علم الزوولوجيا [Zoology، Zoologie] وهو علم أعضاء الحيوان. - المصنف. في الأصل كتبت لفظتا "الزوولوجية" و"الزوولوجيا" بواو واحدة بعد الزاي، وقد فضلنا حسب نطقها في اللغتين الفرنسية والإنجليزية.
(2)
الزِّيال: التحول وعدم الاستقرار، وكذلك النوى، ومنه قولهم: أنوى الرجل، إذا كثرت أسفاره.
البشر، ودام ذلك إلى زمن موسى. (1)
وفي الحقيقة ما كان الطوفان إلا حائلًا للبشر دون العيش المديد، ولكنه ترك بقية تزيد على المائة والعشرين، وإن كانت هي الغاية المقصودة غبًّا (2) على ما تذكر التوراة. ولكن الوصول إلى الغايات في ناموس الكون الذي سَنَّه الله تعالى، لا يكون إلَّا على درج التدلي هبوطًا والارتقاء صعودًا:{وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا (62)} [الأحزاب: 62].
ولقد أفضى ضعفُ الأرض بالإنسان إلى أن صيَّر عيشَه إلى الأجل الموهوب له بعد النجاة من أهوال الطوفان شيئًا نادرًا هو المعدود من فلتات الطبيعة، وما عيش مائة وعشرين سنة اليوم ومائة وثلاثين إلَّا شيءٌ واحدٌ في الوقوع من الندرة والتعجب الموقع المتطرف. (3) وقد يعد كثيرٌ من العلماء العمر الطبيعي اليوم مائة سنة فقط، وهو المعضود بالتجربة التي هي آخر ملجأ نريد أن نثوب إليه في تحقيق العمر الطبيعي في كل عصر. قد رأيت أن المائة والعشرين من السنين ما كانت إلا موهبة طبيعية باعتبار زمن معلوم ومبتدأ طور أخير من أطوار الأرض، هو خاتمة الأطوار المزعجة، والانتقالات المهولة.
وأما انتقالها بعد ذلك في مراتب الضعف ومتابعة كل من عليها لها في هذا الانتقال فشيء تدريجي خفي، كما ينتقل الرجل كل يوم إلى وهدة من وهدات السقوط بعد اكتهال، أو انتقال اليافع إلى ربوة من النهوض قبل الفتوة. واستقراء أحوال عيش الأمم في كل عصر هو معدل العمر الطبيعي فيه.
(1) انظر في ذلك الكتب المقدسة: كتب العهد العتيق، سفر التكوين، الفصل (الإصحاح) السادس، ص 8 والفصلان: 11 و 12، ص 11 - 16 والفصل: 35، ص 52، وسفر الخروج، الفصل: 6، ص 84.
(2)
كذا في الأصل، ولم يتبين وجه الدلالة في هذه الكلمة، ويبدو أنها زائدة.
(3)
كذا في الأصل، ولم يتبين لي الوجه في تتالي هذه الكلمات الثلاث (والتعجب الموقع المتطرف).
لا شك أن وراءنا من أخبار العالم أعجب مما رأينا، وقد قال تعالى:{وَقُرُونًا بَيْنَ ذَلِكَ كَثِيرًا (38)} [الفرقان: 38]. وكتابٌ آنسنا صدقه في غير موضع، وآمنّا به في كل عظيم، وبعد أن رأيناه والزمان ينصره في كل آونة، ويصدِّق وعد الله تعالى الذي وعد بقوله:{سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (53)} [فصلت: 53]، ما كان ينبغي لنا أن نسرع إلى منابذته لنعق ناعق، أو نخنع فيه إلى سوق سائق، بل نجعله الشهيد وإن تمالأت على غيره الخلائق، وسنجد من معونة الله تعالى وَعِدتِه ما يصوّب أعمالنا إن كنا شبح اليوم أو هامة غد، والله يفتح بصائر المؤمنين إلى مقدرة قدر أمور أدركها منكروها، وعُذِر فيها بعد الخبرة واشوها.