الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بين يدي مقالات ابن عاشور ورسائله
تمهيد: أنا وتراث ابن عاشور:
الحمد لله حقَّ حمده، والصلاة والسلام على صفوته من خلقه محمد خاتم أنبيائه ورسله، ثم الرضوانُ على من سلك سبيله وسار على نهجه واهتدى بهديه، أما بعد:
ففي منتصف عام 1419 (أواخر 1998) وصفتُ حالَ مصنَّفاتِ الشيخ محمد الطاهر ابن عاشور عليه رحمة الله فقلتُ ما يلي: "إن آثاره العلمية لم يتح لها من الانتشار والتداول ما يجعلها في متناول الدارسين والباحثين، فضلًا عن سواهم من طلاب المعرفة والمثقفين. فكثيرٌ مِمَّا طُبِع منها قد تطاول عليه العهد ونفد من المكتبات، ولم يجد من أهل العزم من المحققين والناشرين من يتولَّى نفضَ الغبار عنه وإخراجه للناس إخراجًا جديدًا. أما ما لَمْ يُطبع - وهو غزير - فلا يزال طيَّ النسيان والإهمال، يقبع مخطوطًا على رفوف المكتبة العاشورية بالمرسى في تونس، ويتراكم عليه غبارُ السنين وتتهدده آفاتُها بالإتلاف، وكأنما تواطأت صروفُ الزمان وتدبيرُ الإنسان على تغييب مَعْلَمٍ مهم من معالمِ الحياة الفكرية والعلميّة للمسلمين بها القرن العشرين! "(1)
حين كتبتُ هذا الكلام كان في خاطري - بصورة خاصة - العددُ الكبير من المقالات التي نشرها ابن عاشور في مجلات وصحف شتى، ينضاف إليها غير قليل من الرسائل، وقد تناءى بجميعها المكان بين تونس والقاهرة ودمشق (وربما غيرها)، وتمادى بها الزمانُ خلال ما لا يقل عن عقود ستة، ومن تلك المجلات والصحف ما لم يُمدَّ في عمره إلا برهة قصيرة فكان حاله كبارق صيف مثل مجلة
(1) الشيخ محمد الطاهر ابن عاشور: مقاصد الشريعة الإسلامية، تحقيق محمد الطاهر الميساوي (عمان: دار النفائس، 1421/ 2001)، ص 18.
"السعادة العظمى" التي أنشأها زميلُه وصديقُه الشيخ محمد الخضر حسين في تونس، ومنها ما عُمر لسنوات عدة شبَّ فيها وما اكتهل مثل مجلة "الهداية الإِسلامية" التي أسسها كذلك الشيخ الخضر في القاهرة و"المجلة الزيتونية" التي أسسها بعضُ تلاميذ ابن عاشور في تونس، ومنها ما عُمر طويلًا واكتهل وما زال يصدر حتى يوم الناس هذا مثل مجلتي مجمع دمشق ومجمع القاهرة.
إلا أنه لم يكن في خاطري حينذاك أن أنتهض يومًا لجمع تلك المقالات والرسائل وأن أنشغل بها قراءة وضبطًا وتوثيقًا و"تحقيقًا"، بل لم يكن من "خارطة طريقي" عندها أن أجعل الفكرَ المقاصدي الاجتماعي عند ابن عاشور موضوعًا لأطروحتي في الدكتوراه. ولكن يبدو أن جاذبًا خفيًّا ودافعًا قويًّا كانا يتملكانني فلا أملك منهما فكاكًا، فكما عكفتُ من قبلُ على أعمال المفكر الجزائري اللامع مالك بن نبي دراسة وتأليفًا وترجمة، ألفيتني منغمسًا في تراث علامة تونس الزيتونة الشيخ محمد الطاهر ابن عاشور بالقدر ذاته إن لم يكن على نحو أكبر. على أن لي مع ابن عاشور صلةً أقدم من تلك التي تربطني بمالك بن نبي (1)، أرى من المناسب الكشفَ عنها هنا لما فيها من بعض الغرابة، ولعلها تفيد مَنْ يروم التبصر بالأبعاد النفسية
(1) كان أول تعرفي على مالك بن نبي حوالي منتصف العقد السابع من القرن العشرين الميلادي - أو بعده بقليل - قبل مرحلة الدراسة الجامعية، وذلك من خلال مقال كتبه عنه الشيخ راشد الغنوشي ونُشر في أحد أعداد مجلة "المعرفة" لا أتذكر الآن تاريخه، ثم تجددت صلتي به خلال السنة الأولى (1977/ 1978) من دراستي الجامعية بدار المعلمين العليا بمدينة تونس عندما اقتنيتُ نسخةً من الطبعة الفرنسية لكتابه "الظاهرة القرآنية" الذي لا يبدو أني فهمت وقتها كثيرٌ من مضمونه الفكري أو أدركت شيئًا مهمًّا من مغزاه المنهجي، ولكني أذكر جيّدًا أني قرأت طرفًا منه على بعض زملاء الدراسة والسكنى - منهم الأساتذة زهير بن يوسف ومصباح الباشا وتوفيق عبد الكافي حفظهم الله - وجرى بيننا بعضُ النقاش حول ذلك، وخاصة الفصل الخاص بالظاهرة الدينية الذي تكلم فيه ابن نبي على "المذهب المادي" و"المذهب الغيبي" اللذين يتنازعان تفسير علاقة الإنسان بالدين.
والاجتماعية لحركة الأفكار وتحليل مساقات نشأتها وتطورها وانتشارها وحلها وترحالها عبر الأشخاص والأجيال.
عندما كنتُ في الفصل الرابع أو الخامس من الدراسة الابتدائية (على ما أذكر، وكان ذلك في منتصف الستينيات من القرن العشرين)، كان والدي حفظه الله - البالغ الآن السابعة والتسعين من عمره - (1) عندما أعود من المدرسة، ويكون هو قد فرغ من عمله، يجلس ويُجْلِسني أمامه لأقرأ له إما من القرآن الكريم (وغالبًا ما كان ذلك من جزء عم) أو من كتاب لا أذكر الآن عنوانه، ولكنه كان كتابًا يحكي قصّة أصحاب الكهف وما جرى لهم مع الإمبراطور الروماني دقيوس أو دوقيانوس، وكان ذلك الكتاب مطبوعًا على ورق أصفر مثل غيره من الكتب ذات المضمون الديني التي كان الكثيرُ منها مما يعتمد عليه المتعلمون في الكتاتيب القرآنية أو حتى في جامع الزيتونة وفروعه عندما كان هو المؤسسة التعليمية الأولى في البلاد. وفي تلك الجلسات المتكررة - التي كنتُ أتضايق منها لِمَا كانت تحبسني عن اللعب ومطاردة أو صيد بعض أنواع الطيور أو اليرابيع التي توشك الآن أن تنقرض بسبب ما حصل من تحول في البيئة الطبيعية والبشرية في الريف الذي كنا نعيش فيه - طنَّ على سمعي اسمَا كلٍّ من محمد الطاهر ابن عاشور وجده لأمه محمد العزيز بوعَتُّور، إذ كان والدي كثيرًا ما يردد هذين الاسمين، ولم أكن عندها أدري مَن هما هذان الشخصان ولا أدرك نوع العلاقة التي بينهما.
ومن الأمور العجيبة أو الغريبة التي لا أزال أذكرها جيدًا أن والدي ذكر في بعض تلك الجلسات أنه سماني "محمد الطاهر" تيمنًا بالشيخ ابن عاشور! لا أستطيع
(1) عندما انتهيت من تحرير هذا التقديم كان والدي ما يزال حيًّا يعاني من بعض التوعك من حين لآخر، وقد توفي فجر يوم السبت بتاريخ 15 مارس 2014 على الساعة الرابعة والنصف صباحًا بتوقيت تونس، وأنا بمطار الدوحة أنتظر موعد الطائرة التي تقلني منها في الجزء الثاني من رحلة طويلة بين ماليزيا وتونس. فرحمه الله رحمةً واسعة، وأسكنه فسيح جناته، وجازاه بأحسن ما يجازي به والدًا عن ولده، وإنا لله وإنا إليه راجعون.
أن أدعيَ معرفةَ السبب في ذلك، ولا أتذكر أني سألتُه عنه، وخاصة أنه لم يكن درس في الزيتونة أو في فرع من فروعها ولا في غيرها من المدارس القليلة التي كانت موجودةً بتونس خلال الثلث الأول من القرن العشرين، ولا يبدو أن ذلك أثار في نفسي شيئًا في ذلك الطور من حياتي. وغايةُ ما يمكنني قولُه أنَّ والدي بلقاسم - الذي تعلم القراءة والكتابة بسعيه الشخصي ومعاونة بعض زملائه عندما كان مُجنَّدًا في الجيش الفرنسي في منطقة ليون بفرنسا التي كانت تخيم عليها نذرُ الحرب العالمية الثانية - كان كثيرًا ما يتحسَّر على ما فرط والدُه في جنبه بعدم إرساله إلى "المؤدب" ليتعلم، وخاصة أن بعضَ أبناء جيله من أقاربه قد فعل أهلُوهم ذلك حينما جلب الحاج الباشا - أحد أعيان المنطقة - في نهاية العشرينيات أو بداية الثلاثينيات من القرن العشرين مؤدبًا لتعليم ابنيه. وقد تكون معرفته بابن عاشور وجده حصلت عن طريق نجلي الحاج الباشا المذكور (صالح وعلي، وهما ابنا خالته)، أو بواسطة بعض رفاقه أثناء الخدمة العسكرية، أو أثناء حضوره دروسًا في بعض المساجد التي ارتادها في بعض مدن البلاد.
تلك كانت البداية البعيدة وغير الواعية لصلتي بابن عاشور. وعندما كنتُ في السنة الثانية من الدراسة الثانوية بمدينة سيدي بوزيد (التي توقدت فيها شرارة الثورة في ديسمبر 2010)، أذكر أن الأستاذ الذي كان يتولى الإشراف علينا أثناء ما كان يعرف بحصص المراجعة (classes d'etudes) قادنا في أحد أيام عام 1972 إلى المكتبة العامة الوحيدة التي كان يأويها مبنى ما كان يُعرف بلجنة التنسيق الحزبي (للحزب الاشتراكي الدستوري الذي كان يحكم البلادَ بقيادة الحبيب بورقيبة). كان الغرضُ من زيارة تلك المكتبة أن نستعير كتبًا للمطالعة، وكانت مدةُ الاستعارة أسبوعين أو ثلاثة. المهم أنه كان علي، شأني في ذلك شأن بقية التلاميذ في الفصل، أن أستعير كتابًا، وفعلًا تناولت أحدَ الكتب المصفوفة على الرفوف، ولست أدري على أي أساس أخذته، وكان ذلك الكتاب يحتوي على مقدمات تفسير التحرير والتنوير لابن عاشور في طبعة ذات غلاف ورقي بلون أخضر فاتر. وعدتُ بالكتاب
وحاولت أن أقرأ فيه، ولكني لا أذكر أني فقهتُ منه شيئًا ألبتة؛ لأني في الحقيقة لم أستطع مواصلةَ القراءة فيه فضلًا عن إكماله، إذ كانت لغتُه وأسلوبه ومضمونه فوق إدراكي بمقام بعيد. وعندما انتهت مدةُ الاستعارة قادنا الأستاذ مرة أخرى إلى المكتبة، وأعدتُ الكتابَ في حالة جيدة لم يصب بسوء!
ومرت الأيامُ وتصرمت السنون، ومرَّ عليَّ اسمُ الشيخ محمد الطاهر ابن عاشور كطيف حلم، أو كما يمر أيُّ حدثٍ عاديٍّ عابر على وعْيِ يافعٍ حَدَث، وانخرطتُ في ضروب من الدراسة والقراءة النظامية وغير النظامية لم يكن أيٌّ من مؤلفات ابن عاشور من بينها، فانقطعتْ صلتي به انقطاعًا طويلًا. حتى إذا كان العام 1988 وقد تمكنت في نفسي فكرةُ التجديد والبحث في لوازمها ومتعلقاتها - مسالك وقضايا ومجالات ومآلات - بفضل المناقشات التي كنتُ أحضرها في بعض المنتديات الفكرية بجامعة الخرطوم وجامعة أم درمان الإسلامية وغيرهما من المواقع، وبفضل ما كان يعتمل في أوساط الحركة الإسلامية في السودان بقيادة الدكتور حسن الترابي من زخم فكري، سعيتُ إلى الحصول على نسخةٍ من كتاب "مقاصد الشريعة الإسلامية" لابن عاشور. وإذ كنتُ منقطعًا عن الأهل وعن تونس مذ غادرتها قهرًا أواخر عام 1981، وكان الكتابُ نادرَ الوجود في المكتبات العامة والخاصة بالخرطوم، رجوتُ من الأخ الأستاذ الفاضل البلدي حفظه الله مساعدتي في ذلك فما تأخر عن تلبية بغيتي. وعلى الرغم من أني قرأت الكتاب بنهم ودون انقطاع حتى آخره، إلا أني لم أعْدُ ذلك إلى أيِّ نوعٍ من المدارسة العميقة لمباحثه والنظر في مسائله وقضاياه.
وانقضت أعوامٌ عِشْتُ فيها أصنافًا أخرى من التجارب تركت آثارًا متفاوتة في وعيي الفكري ونموِّي العقلي وفي رؤيتي للأمور، وإذا بي أُراني في العام 1997 مسوقًا، مع انشراح صدر ومن دون سابق تخطيط، إلى العناية بذلك الكتاب وبصنوه "أصول النظام الاجتماعي في الإسلام"، دراسةً وتوثيقًا وتحقيقًا، على الرغم من أن ذلك كان على حساب دراستي في مرحلة الدكتوراه التي تخليتُ عنها وانخرطت في