الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بين يدي سورة الحاقة:
قال الألوسي ذاكرا وجه المناسبة بين سورة الحاقة ونون: (ولما وقع في نون ذكر يوم القيامة مجملا شرح سبحانه في هذه السورة الكريمة نبأ ذلك اليوم وشأنه العظيم، وضمنه عز وجل ذكر أحوال أمم كذبوا الرسل عليهم السلام، وما جرى عليهم؛ ليزدجر المكذبون المعاصرون له عليه الصلاة والسلام.
وقال صاحب الظلال عن سورة الحاقة: (هذه سورة هائلة رهيبة؛ قل أن يتلقاها الحس إلا بهزة عميقة؛ وهي منذ افتتاحها إلى ختامها تقرع هذا الحس، وتطالعه بالهول القاصم، والجد الصارم، والمشهد تلو المشهد، كله إيقاع ملح على الحس، بالهول آنا وبالجلال آنا، وبالعذاب آنا، وبالحركة القوية في كل آن!
والسورة بجملتها تلقي في الحس- بكل قوة وعمق- إحساسا واحدا بمعنى واحد
…
أن هذا الأمر- أمر الدين والعقيدة- جد خالص حازم جازم. جد كله لا هزل فيه. ولا مجال فيه للهزل. جد في الدنيا وجد في الآخرة، وجد في ميزان الله وحسابه. جد لا يحتمل التلفت عنه هنا أو هناك كثيرا ولا قليلا. وأي تلفت عنه من أي أحد يستنزل غضب الله الصارم، وأخذه الحاسم).
(إنها سورة هائلة رهيبة. قل أن يتلقاها الحس إلا بهزة عميقة. وهي بذاتها أقوى من كل استعراض ومن كل تحليل، ومن كل تعليق!).
(ذلك المعنى الذي تتمحض السورة لإلقائه في الحس، يتكفل أسلوبها وإيقاعها ومشاهدها وصورها وظلالها بإلقائه وتقريره وتعميقه بشكل مؤثر حي عجيب:
إن أسلوب السورة يحاصر الحس بالمشاهد الحية، المتناهية الحيوية، بحيث لا يملك منها فكاكا، ولا يتصور إلا أنها حية واقعة حاضرة، تطالعه بحيويتها وقوتها وفاعليتها بصورة عجيبة!).
كلمة في سورة الحاقة ومحورها:
جاءت سورة الحاقة بعد سورة (ن) التي ذكرنا أنها نهاية مجموعة، وهذا يجعلنا نستأنس أن سورة الحاقة بداية مجموعة، وإذا كانت سورة الحاقة بداية مجموعة فهي تفصل في مقدمة سورة البقرة، ولذلك فإنها تبدأ بالكلام عن اليوم الآخر، وصلة ذلك
بقوله تعالى في الآيات الأولى من سورة البقرة: وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ واضحة، ثم هي تتحدث عن مآل المسلمين ومآل الكافرين، وصلة ذلك بالكلام عن المتقين والكافرين في أوائل سورة البقرة واضحة، كما هي تتحدث عن سبب تعذيب الكافرين إِنَّهُ كانَ لا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ* وَلا يَحُضُّ عَلى طَعامِ الْمِسْكِينِ وصلة ذلك بقوله تعالى: الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ واضحة، وتتحدث عن القرآن: إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ* وَما هُوَ بِقَوْلِ شاعِرٍ قَلِيلًا ما تُؤْمِنُونَ* وَلا بِقَوْلِ كاهِنٍ قَلِيلًا ما تَذَكَّرُونَ* تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ
…
وَإِنَّهُ لَتَذْكِرَةٌ لِلْمُتَّقِينَ
…
وَإِنَّهُ لَحَسْرَةٌ عَلَى الْكافِرِينَ* وَإِنَّهُ لَحَقُّ الْيَقِينِ وصلة ذلك بقوله تعالى في مقدمة سورة البقرة: الم* ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ واضحة، وهذا كله يؤكد أن سورة الحاقة بداية مجموعة.
يبقى أن نتساءل عن سر التشابه بين سورة الحاقة وسورة الواقعة؟ أقول: إن اليوم الآخر يدفع للعمل كما يدفع للإيمان، وقد جاءت سورة الواقعة تفصل في ما بعد مقدمة سورة البقرة، وجاءت سورة الحاقة تفصل في مقدمة سورة البقرة وبين المقامين تداخل، فالكلام عن اليوم الآخر دافع للتحلي، كما هو دافع للتخلي، ودافع للإيمان كما أنه دافع للعمل، ومن ثم تقدم الحديث عن اليوم الآخر في السورتين للوصول إلى ما ينبغي أن يبنى عليه، على أن كلا من السورتين تخدم محورها بشكل رئيسي.
ومع أن هناك تشابها في السورتين فإن لكل سورة روحها وسياقها الخاص بها، ومعانيها وألفاظها، وطريقة عرضها، وكل من السورتين على غاية من الكمال والبيان، مما يدلك على أن هذا القرآن من عند الله، فإن نرى معنى واحدا يعرض بعشرات الطرق، وفي كل مرة تجد عرضا على غاية من الكمال والعلو في موضوع لم يطرقه العرب أصلا فذلك شأن غير مستطاع للبشر.
إن سورة الواقعة وسورة الحاقة نموذجان على السور التي تعرض اليوم الآخر، ثم تبني على ذلك ما ينبغي أن يبنى عليه من بناء، إن في مجال الإيمان، أو في مجال العمل.
وسنرى سورا أخرى تشبههما في هذا المجال، ولعل في هذا الذي ذكرناه سر التشابه بين هذه السور وإن اختلفت المحاور.
لقد رأينا سورا تعرفنا على الله، ثم تنطلق من خلال التعريف عليه جل جلاله، إلى البناء على ذلك ما ينبغي أن يبنى من إيمان وعمل.
ولقد رأينا سورا تذكرنا بإعجاز القرآن، ثم تنطلق لتبني على كون هذا القرآن من عند الله ما ينبغي أن يبنى من إيمان وعمل.
ورأينا سورا تعرفنا على رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم تنطلق لتبني على ذلك ما ينبغي أن يبنى من إيمان وعمل، وكل ذلك يأتي أحيانا بشكل دوري، وأحيانا بشكل متباعد، والإنسان أعجز من أن يحيط بأسرار هذا القرآن، فلو أن عقول الأولين والآخرين اجتمعت لتحيط بكل أسرار هذا القرآن لما كان لها إلى ذلك سبيل، فكما أن الله حدثنا عن ذاته فقال: وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً فإن كتابه كذلك، لقد سمى الله كتابه روحا فقال: وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا وقال عن الروح الإنسانية:
وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا وما يقال عن روح الإنسان يقال عن القرآن، مع ملاحظة أن كون القرآن روحا هو إحدى خصائصه التي بسببها مع غيره يعجز الإنسان عن أن يأتي بمثل هذا القرآن.
فلنبدأ بعرض سورة الحاقة ولنعرضها على فقرتين:
الفقرة الأولى تستمر حتى نهاية الآية (37).
الفقرة الثانية تستمر حتى نهاية الآية (52).
وتتألف الفقرة الأولى من مقدمة ومجموعتين.