الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الجن ليس في جانب واحد بل في جوانب متعددة فكلاهما يخدم محورا واحدا، كما أنهما من مجموعة واحدة.
الفوائد:
1 -
بمناسبة قوله تعالى: قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ قال الألوسي: (والآية ظاهرة في أنه صلى الله تعالى عليه وسلم علم استماعهم له بالوحي لا بالمشاهدة، وقد وقع في الأحاديث أنه عليه الصلاة والسلام رآهم، وجمع ذلك بتعدد القصة قال في (آكام المرجان) ما محصله: في الصحيحين في حديث ابن عباس ما قرأ رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم على الجن ولا رآهم وإنما انطلق بطائفة من الصحابة لسوق عكاظ، وقد حيل بين الجن والسماء بالشهب، فقالوا: ما ذاك إلا لشئ حدث فاضربوا مشارق الأرض ومغاربها، فمر من ذهب لتهامة منهم به عليه الصلاة والسلام وهو يصلي الفجر بأصحابه بنخلة، فلما استمعوا له قالوا: هذا الذي حال بيننا وبين السماء، ورجعوا إلى قومهم وقالوا: يا قومنا الخ، فأنزل الله تعالى عليه قُلْ أُوحِيَ الخ، ثم قال: ونفي ابن عباس إنما هو في هذه القصة، واستماعهم تلاوته صلى الله تعالى عليه وسلم في الفجر في هذه القصة لا مطلقا، ويدل عليه قوله تعالى: وَإِذْ صَرَفْنا إِلَيْكَ نَفَراً مِنَ الْجِنِّ الخ، فإنها تدل على أنه عليه الصلاة والسلام كلمهم ودعاهم وجعلهم رسلا لمن عداهم كما قاله البيهقي، وروى أبو داود عن علقمة عن ابن مسعود عن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم قال:«أتاني داعي الجن فذهبت معه وقرأت عليهم القرآن، قال: وانطلق بنا وأرانا آثارهم وآثار نيرانهم» الخ.
وقد دلت الأحاديث على أن وفادة الجن كانت ست مرات، وقال ابن تيمية: إن ابن عباس علم ما دل عليه القرآن، ولم يعلم ما علمه ابن مسعود وأبو هريرة من إتيان الجن له صلى الله تعالى عليه وسلم ومكالمتهم إياه عليه الصلاة والسلام، وقصة الجن كانت قبل الهجرة بثلاث سنين، وقال الواقدي: كانت سنة إحدى عشرة من النبوة، وابن عباس ناهز الحلم في حجة الوداع، فقد علمت أن قصة الجن وقعت ست مرات، وفي شرح البيهقي من طرق شتى عن ابن مسعود أن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم صلى العشاء ثم انصرف فأخذ بيدي حتى أتينا مكان كذا، فأجلسني وخط علي خطا ثم قال: لا تبرحن خطك، فبينما أنا جالس إذ أتاني رجال منهم كأنهم الزط، فذكر حديثا طويلا، وأنه صلى الله تعالى عليه وسلم ما جاءه إلى السحر، قال: وجعلت أسمع
الأصوات، ثم جاء عليه الصلاة والسلام فقلت: أين كنت يا رسول الله؟ فقال:
«أرسلت إلى الجن» فقلت: ما هذه الأصوات التي سمعت؟ قال: «هي أصواتهم حين ودعوني وسلموا علي» . وقد يجمع الاختلاف في القلة والكثرة بأن ذلك لتعدد القصة
أيضا والله تعالى أعلم، واختلف فيما استمعوه فقال عكرمة: اقرأ باسم ربك، وقيل: سورة الرحمن).
2 -
بمناسبة قوله تعالى: وَأَنَّهُ كانَ رِجالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزادُوهُمْ رَهَقاً قال ابن كثير: (أي: كنا نرى أن لنا فضلا على الإنس لأنهم كانوا يعوذون بنا إذا نزلوا واديا أو مكانا موحشا من البراري وغيرها، كما كانت عادة العرب في جاهليتها يعوذون بعظيم ذلك المكان من الجان أن يصيبهم بشيء يسوؤهم، كما كان أحدهم يدخل بلاد أعدائه في جوار رجل كبير، وذمامه وخفارته، فلما رأت الجن أن الإنس يعوذون بهم من خوفهم منهم زادوهم رهقا، أي: خوفا وإرهابا وذعرا، حتى بقوا أشد منهم مخافة وأكثر تعوذا بهم كما قال قتادة فَزادُوهُمْ رَهَقاً:
أي: إثما وازدادت الجن عليهم بذلك جراءة، وقال الثوري عن منصور عن إبراهيم:
فَزادُوهُمْ رَهَقاً: أي: ازدادت الجن عليهم جرأة. وقال السدي: كان الرجل يخرج بأهله فيأتي الأرض فينزلها فيقول: أعوذ بسيد هذا الوادي من الجن أن أضر أنا فيه، أو مالي أو ولدي أو ماشيتي، قال قتادة: فإذا عاذ بهم من دون الله رهقتهم الجن الأذى عند ذلك، وروى ابن أبي حاتم عن عكرمة قال: كان الجن يفرقون من الإنس كما يفرق الإنس منهم أو أشد، فكان الإنس إذا نزلوا واديا هرب الجن فيقول سيد القوم: نعوذ بسيد أهل هذا الوادي، فقال الجن: نراهم يفرقون منا كما نفرق منهم، فدنوا من الإنس فأصابوهم بالخبل والجنون، فذلك قول الله عز وجل: وَأَنَّهُ كانَ رِجالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزادُوهُمْ رَهَقاً أي: إثما. وقال أبو العالية والربيع وزيد بن أسلم: (رهقا) أي: خوفا. وقال العوفي عن ابن عباس:
فَزادُوهُمْ رَهَقاً أي: إثما، وكذا قال قتادة. وقال مجاهد: زاد الكفار طغيانا).
3 -
بمناسبة قوله تعالى: وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّماءَ فَوَجَدْناها مُلِئَتْ حَرَساً شَدِيداً وَشُهُباً* وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْها مَقاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهاباً رَصَداً قال ابن كثير: (وقد كانت الكواكب يرمى بها قبل ذلك، ولكن ليس بكثير، بل في الأحيان بعد الأحيان كما في حديث العباس: بينما نحن جلوس مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ
رمي بنجم فاستنار، فقال:«ما كنتم تقولون في هذا؟» فقلنا: كنا نقول يولد عظيم يموت عظيم فقال: «ليس كذلك، ولكن الله إذا قضى الأمر في السماء» وذكر تمام الحديث وقد أوردناه في سورة سبأ بتمامه، وهذا هو السبب الذي حملهم على تطلب السبب في ذلك فأخذوا يضربون مشارق الأرض ومغاربها فوجدوا رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم يقرأ بأصحابه في الصلاة؛ فعرفوا أن هذا هو الذي حفظت من أجله السماء، فآمن من آمن منهم، وتمرد في طغيانه من بقى، كما تقدم في حديث ابن عباس في ذلك عند قوله في سورة الأحقاف: وَإِذْ صَرَفْنا إِلَيْكَ نَفَراً مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ الآية).
وبمناسبة النص نفسه قال صاحب الظلال: (وهذه الوقائع التي حكاها القرآن عن الجن من قولهم، توحي بأنهم قبل هذه الرسالة الأخيرة كانوا يحاولون الاتصال بالملإ الأعلى، واستراق شئ مما يدور فيه، بين الملائكة، عن شئون الخلائق في الأرض، مما يكلفون قضاءه تنفيذا لمشيئة الله وقدره. ثم يوحون بما التقطوه لأوليائهم من الكهان والعرافين، ليقوم هؤلاء بفتنة الناس وفق خطة إبليس! على أيدي هؤلاء الكهان والعرافين الذين يستغلون القليل من الحق فيمزجونه بالكثير من الباطل، ويروجونه بين جماهير الناس في الفترة بين الرسالتين، وخلو الأرض من رسول
…
أما كيفية هذا وصورته فلم يقل لنا عنها شيئا، ولا ضرورة لتقصيها. إنما هذه هي جملة هذه الحقيقة وفحواها.
وهذا النفر من الجن يقول: إن استراق السمع لم يعد ممكنا، وإنهم حين حاولوه الآن- وهو ما يعبرون عنه بلمس السماء- وجدوا الطريق إليه محروسا بحرس شديد، يرجمهم بالشهب، فتنقض عليهم وتقتل من توجه إليه منهم. ويعلنون أنهم لا يدرون شيئا عن الغيب المقدر للبشر: وَأَنَّا لا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَمْ أَرادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَداً فهذا الغيب موكول لعلم الله لا يعلمه سواه. فأما نحن فلا نعلم ماذا قدر الله لعباده في الأرض: قدر أن ينزل بهم الشر. فهم متروكون للضلال. أم قدر لهم الرشد- وهو الهداية- وقد جعلوها مقابلة للشر. فهي الخير، وعاقبتها هي الخير.
وإذا كان المصدر الذي يزعم الكهان أنهم يستقون منه معلوماتهم عن الغيب، يقرر أنه هو لا يدري عن ذلك شيئا، فقد انقطع كل قول، وبطل كل زعم، وانتهى أمر الكهانة والعرافة. وتمحض الغيب لله، لا يجترئ أحد على القول بمعرفته، ولا على
التنبؤ به. وأعلن القرآن تحرير العقل البشري من كل وهم وكل زعم من هذا القبيل! وأعلن رشد البشرية منذ ذلك اليوم وتحررها من الخرافات والأساطير!).
4 -
بمناسبة قوله تعالى: وَأَنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَ وَمِنَّا دُونَ ذلِكَ قال ابن كثير: (وروى أحمد بن سليمان النجاد في أماليه:
…
عن أبي معاوية قال: سمعت الأعمش يقول: تروح إلينا جني فقلت له: ما أحب الطعام إليكم؟ فقال: الأرز، قال: فأتيناهم به فجعلت أرى اللقم ترفع ولا أرى أحدا، فقلت: فيكم من هذه الأهواء التي فينا؟ قال: نعم، فقلت: فما الرافضة فيكم؟ قال: شرنا. عرضت هذا الإسناد على شيخنا الحافظ أبي الحجاج المزي فقال: هذا إسناد صحيح إلى الأعمش).
أقول: لم يزل عدول في هذه الأمة جيلا بعد جيل يخبروننا عن صلة للجن المؤمنين بهم، وما أكثر الوقائع التي يحسها الناس في أمر الجن، فإن تجد بعد النصوص، وبعد الوقائع من يتأول النصوص الواردة في هذا الشأن فذلك علامة على انطماس البصيرة.
5 -
بمناسبة قوله تعالى: وَأَنْ لَوِ اسْتَقامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْناهُمْ ماءً غَدَقاً لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ ذكر صاحب الظلال بعض الحقائق التي يدلنا عليها النص فقال:
(والحقيقة الأولى: هي الارتباط بين استقامة الأمم والجماعات على الطريقة الواحدة الواصلة إلى الله، وبين إغداق الرخاء وأسبابه؛ وأول أسبابه توافر الماء واغدوداقه.
وما تزال الحياة تجري على خطوات الماء في كل بقعة. وما يزال الرخاء يتبع هذه الخطوات المباركة حتى هذا العصر الذي انتشرت فيه الصناعة، ولم تعد الزراعة هي
المصدر الوحيد للرزق والرخاء. ولكن الماء هو الماء في أهميته العمرانية.
وهذا الارتباط بين الاستقامة على الطريقة وبين الرخاء والتمكين في الأرض حقيقة قائمة. وقد كان العرب في جوف الصحراء يعيشون في شظف، حتى استقاموا على الطريقة، ففتحت لهم الأرض التي يغدودق فيها الماء، وتتدفق فيها الأرزاق. ثم حادوا عن الطريقة فاستلبت منهم خيراتهم استلابا. وما يزالون في نكد وشظف، حتى يفيئوا إلى الطريقة، فيتحقق فيهم وعد الله.
وإذا كانت هناك أمم لا تستقيم على طريقة الله، ثم تنال الوفر والغنى، فإنها تعذب بآفات أخرى في إنسانيتها أو أمنها أو قيمة الإنسان وكرامته فيها، تسلب عن ذلك الغنى والوفر معنى الرخاء. وتحيل الحياة فيها لعنة مشئومة على إنسانية الإنسان وخلقه وكرامته وأمنه وطمأنينته.
والحقيقة الثانية التي تنبثق من نص هذه الآية: هي أن الرخاء ابتلاء من الله للعباد وفتنة وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً، والصبر على الرخاء والقيام بواجب الشكر عليه والإحسان فيه أشق وأندر من الصبر على الشدة! على عكس ما يلوح للنظرة العجلى
…
فكثيرون هم الذين يصبرون على الشدة ويتماسكون لها، بحكم ما تثيره في النفس من تجمع ويقظة ومقاومة؛ ومن ذكر لله والتجاء إليه واستعانة به، حين تسقط الأسناد في الشدة فلا يبقى إلا ستره. فأما الرخاء فينسي ويلهي، ويرخي الأعضاء وينيم عناصر المقاومة في النفس، ويهيئ الفرصة للغرور بالنعمة والاستنامة للشيطان!
إن الابتلاء بالنعمة في حاجة ملحة إلى يقظة دائمة تعصم من الفتنة
…
نعمة المال والرزق كثيرا ما تقود إلى فتنة البطر وقلة الشكر، مع السرف أو مع البخل، وكلاهما آفة للنفس والحياة
…
ونعمة القوة كثيرا ما تقود إلى فتنة البطر وقلة الشكر مع الطغيان والجور، والتطاول بالقوة على الحق وعلى الناس والتهجم على حرمات الله، ونعمة الجمال كثيرا ما تقود إلى فتنة الخيلاء والتيه وتتردى في مدارك الإثم والغواية
…
ونعمة الذكاء كثيرا ما تقود إلى فتنة الغرور والاستخفاف بالآخرين وبالقيم والموازين
…
وما تكاد تخلو نعمة من الفتنة إلا من ذكر الله فعصمه الله
…
).
6 -
وبمناسبة قوله تعالى: وَأَنَّ الْمَساجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَداً قال ابن كثير: (قال قتادة في قوله تعالى: وَأَنَّ الْمَساجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَداً قال: كانت اليهود والنصارى إذا دخلوا كنائسهم وبيعهم أشركوا بالله فأمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم أن يوحدوه وحده).
7 -
هناك ثلاثة أقوال في قوله تعالى: وَأَنَّهُ لَمَّا قامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَداً وقد أخذنا ما رجحه ابن كثير منها وهاهنا نذكر الأقوال الثلاثة، قال ابن كثير: (قال العوفي: عن ابن عباس يقول: لما سمعوا النبي صلى الله عليه وسلم يتلو القرآن كادوا يركبونه من الحرص لما سمعوه يتلو القرآن، ودنوا منه فلم يعلم بهم حتى أتاه الرسول فجعل يقرئه: قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ يستمعون القرآن. هذا قول، وهو مروي عن الزبير بن العوام رضي الله عنه، وروى ابن جرير عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: قال الجن لقومهم: لَمَّا قامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَداً قال: لما رأوه يصلي وأصحابه يركعون بركوعه، ويسجدون بسجوده، قال: عجبوا من طواعية أصحابه له، قال: فقالوا لقومهم:
لَمَّا قامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَداً وهذا قول ثان، وهو مروي عن سعيد بن جبير أيضا، وقال الحسن: لما قام رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لا إله إلا الله، ويدعو الناس إلى ربهم كادت العرب تلبد عليه جميعا. وقال قتادة في قوله تعالى:
وَأَنَّهُ لَمَّا قامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَداً قال: تلبدت الإنس والجن على هذا الأمر ليطفئوه فأبى الله إلا أن ينصره ويمضيه ويظهره على من ناوأه، وهذا قول ثالث، وهو مروي عن ابن عباس ومجاهد وسعيد بن جبير، وقول ابن زيد، وهو اختيار ابن جرير، وهو الأظهر).
8 -
بمناسبة قوله تعالى: قُلْ إِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ ما تُوعَدُونَ أَمْ يَجْعَلُ لَهُ رَبِّي أَمَداً قال ابن كثير: (في هذه الآية الكريمة دليل على أن الحديث الذي يتداوله كثير من الجهلة من أنه عليه الصلاة والسلام لا يؤلف تحت الأرض كذب لا أصل له، ولم نره في شئ من الكتب، وقد كان صلى الله عليه وسلم يسأل عن وقت الساعة فلا يجيب عنها، ولما تبدى له جبريل في صورة أعرابي كان فيما سأله أن قال: يا محمد فأخبرني عن الساعة؟ قال: «ما المسئول عنها بأعلم من السائل» ولما ناداه ذلك الأعرابي بصوت جهوري فقال: يا محمد متى الساعة؟ قال: «ويحك إنها كائنة فما أعددت لها؟» قال: أما إني لم أعد لها كثير صلاة ولا صيام ولكني أحب الله ورسوله قال: «فأنت مع من أحببت» قال أنس: فما فرح المسلمون بشيء فرحهم بهذا الحديث. وروى ابن أبي حاتم عن أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «يا بني آدم إن كنتم تعقلون فعدوا أنفسكم من الموتى، والذي نفسي بيده إنما توعدون لآت»).
9 -
بمناسبة قوله تعالى: عالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلى غَيْبِهِ أَحَداً* إِلَّا مَنِ ارْتَضى مِنْ رَسُولٍ نحب أن نقرر أن كل ما دخل في عالم الأسباب لا تعتبر معرفته من أمر الغيب، فتوقع الخسوف والكسوف، وتوقع هطول المطر من خلال معرفة بعض الظواهر الجوية، ومعرفة بعض الحوادث الواقعة من خلال الجن وأمثال هذه المعاني لا تدخل في علم الغيب، وبمناسبة هذا النص قال النسفي:(والولي إذا أخبر بشيء فظهر فهو غير جازم عليه ولكنه أخبر بناء على رؤياه أو بالفراسة، على أن كل كرامة للولي فهي معجزة للرسول، وذكر في التأويلات: قال بعضهم في هذه الآية بدلالة تكذيب المنجمة، وليس كذلك، فإن فيهم من يصدق خبره، وكذلك المتطببة يعرفون طبائع النبات). أقول: ما يعرف بالتجربة البشرية لا يدخل في علم الغيب، إلا إذا كان الإخبار به على وجه معجز، والجن قد يخبرون بالأمر الواقع وليس ذلك من علم
الغيب، وهذا معنى قول النسفي: فإن فيهم أي في المنجمين من يصدق خبره، كما لو كان له صلة بعالم الجن فيخبرونه عن وقائع حادثة.
10 -
بمناسبة قوله تعالى: لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسالاتِ رَبِّهِمْ قال ابن كثير: (وقد اختلف المفسرون في الضمير في قوله (ليعلم) إلى من يعود؟ فقيل إنه عائد إلى النبي صلى الله عليه وسلم. روى ابن جرير
…
عن سعيد بن جبير في قوله تعالى: عالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلى غَيْبِهِ أَحَداً إِلَّا مَنِ ارْتَضى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَداً قال: أربعة حفظة من الملائكة مع جبريل لِيَعْلَمَ محمد صلى الله عليه وسلم أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسالاتِ رَبِّهِمْ وَأَحاطَ بِما لَدَيْهِمْ وَأَحْصى كُلَّ شَيْءٍ عَدَداً ورواه ابن أبي حاتم من حديث يعقوب القمي به. وهكذا رواه الضحاك والسدي ويزيد ابن أبي حبيب. وروى عبد الرزاق عن معمر عن قتادة لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسالاتِ رَبِّهِمْ قال: ليعلم نبي الله أن الرسل قد بلغت عن الله، وأن الملائكة حفظتها ورفعتها عن الله، وكذا رواه سعيد بن أبي عروبة عن قتادة واختاره ابن جرير، وقيل غير ذلك، كما رواه العوفي عن ابن عباس في قوله تعالى: إِلَّا مَنِ ارْتَضى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَداً قال: هي معقبات من الملائكة يحفظون النبي صلى الله عليه وسلم من الشيطان، حتى يتبين الذين أرسل إليهم وذلك حين يقول؛ ليعلم أهل الشرك أن قد أبلغوا رسالات ربهم. وكذا قال ابن أبي نجيح عن مجاهد لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسالاتِ رَبِّهِمْ قال: ليعلم من كذب الرسل أن قد أبلغوا رسالات ربهم وفي هذا نظر. وقال البغوي: قرأ يعقوب (ليعلم) بالضم أي: ليعلم الناس أن الرسل قد بلغوا، ويحتمل أن يكون الضمير عائدا إلى الله عز وجل وهو قول حكاه ابن الجوزي في زاد المسير، ويكون المعنى في ذلك أنه يحفظ رسله بملائكته ليتمكنوا من أداء رسالاته، ويحفظ ما ينزله إليهم من الوحي ليعلم أن قد أبلغوا رسالات ربهم، ويكون ذلك كقوله تعالى: وَما جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْها إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلى عَقِبَيْهِ وكقوله تعالى: وَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْمُنافِقِينَ إلى أمثال ذلك من العلم بأنه تعالى يعلم الأشياء قبل كونها قطعا لا محالة؛ ولهذا قال بعد هذا:
وَأَحاطَ بِما لَدَيْهِمْ وَأَحْصى كُلَّ شَيْءٍ عَدَداً).