الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المجموعة الثانية
[سورة الجن (72): الآيات 16 الى 19]
وَأَنْ لَوِ اسْتَقامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْناهُمْ ماءً غَدَقاً (16) لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَمَنْ يُعْرِضْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِ يَسْلُكْهُ عَذاباً صَعَداً (17) وَأَنَّ الْمَساجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَداً (18) وَأَنَّهُ لَمَّا قامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَداً (19)
ملاحظة في السياق:
تجد في هذه الفقرة مضمون كلام الجن، وتجد فيها معاني أوحاها الله إلى رسوله صلى الله عليه وسلم بهذه المناسبة، وقد جاء هذا كله في سياق قوله تعالى: قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ ونحن سنعرض الوحي الذي قص الله عز وجل فيه كلام الجن كمجموعة واحدة، والمعاني الأخرى التي ذكرها الله عز وجل وأوحاها إلى رسوله صلى الله عليه وسلم بهذه المناسبة كمجموعة ثانية وسنعرض المجموعة الأولى من الفقرة الأولى على أجزاء.
تفسير المجموعة الأولى:
قُلْ يا محمد لأمتك أُوحِيَ إِلَيَّ من الله أَنَّهُ أي: أن الأمر والشأن اسْتَمَعَ نَفَرٌ النفر: الجماعة من الثلاثة إلى العشرة، والمراد بهم جن نصيبين، وذكر ابن كثير أنهم سبعة مِنَ الْجِنِّ أي: من عالم الجن، وهو العالم الغيبي الوحيد المكلف، فقد كلف الله عز وجل من العالم المشاهد الإنسان، ومن العالم الغيبي الجن فَقالُوا أي: لقومهم حين رجعوا إليهم من استماع قراءة النبي صلى الله عليه وسلم:
1 -
إِنَّا سَمِعْنا قُرْآناً عَجَباً أي: عجيبا بديعا مباينا لسائر الكتب في حسن نظمه وصحة معانيه، قال النسفي: والعجب ما يكون خارجا عن العادة،
يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ أي: يدعو إلى الصواب والسداد والنجاح. أقول: لقد فطن الجن أن الخلق لا يرشدون إلا بهذا القرآن، وأن دعوة القرآن رشد خالص فَآمَنَّا بِهِ أي:
بالقرآن، ولما كان الإيمان به إيمانا بوحدانية الله وبراءة من الشرك، قالوا وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنا أَحَداً أي: من خلقه كائنا من كان، أقول: إن هذا الربط المطلق بين القرآن والتوحيد والذي عرفه الجن ببداهتهم فات بعض ذراري المسلمين فأشركوا حتى
أصبحت طوائف منهم تؤله الإنسان.
2 -
وَأَنَّهُ تَعالى جَدُّ رَبِّنا أي: عظمته، قال النسفي: ومنه قول عمر أو أنس: كان الرجل إذا قرأ البقرة وآل عمران جد فينا: أي عظم في عيوننا، وفسر ابن كثير الجد بالفعل والأمر والقدرة، وقال الضحاك عن ابن عباس: جد الله آلاؤه وقدرته ونعمته على خلقه مَا اتَّخَذَ صاحِبَةً أي: زوجة وَلا وَلَداً أي:
تعالى عن اتخاذ الصاحبة والأولاد، أقول: هذا الكلام من الجن يدل على أنهم كانوا من بيئة نصرانية، وهذا واضح، ففي قصة سلمان الفارسي ما يشير إلى أن نصيبين بلد عريق في النصرانية، وقد عرف الجن بالبداهة تنزيه الله عز وجل عن الصاحبة والولد بمجرد سماعهم هذا القرآن.
3 -
وَأَنَّهُ كانَ يَقُولُ سَفِيهُنا أي: جاهلنا أو إبليس، إذ ليس فوقه سفيه عَلَى اللَّهِ شَطَطاً أي: كفرا، لبعده عن الصواب، أو قولا جائرا باطلا وزورا يجوز فيه عن الحق، قال النسفي:(والشطط: مجاوزة الحد في الظلم وغيره)، أقول:
ربط الجن بين السفه والشطط في القول على الله وذلك فهم دقيق منهم، فما أحد يتجاوز الحق في شأن الله إلا وهو سفيه، ومنه نفهم أن السفه ينبثق عن القول الشطط في
حق الله عز وجل.
4 -
وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ تَقُولَ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى اللَّهِ كَذِباً أي: قولا كذبا أو قولا مكذوبا فيه، أي: كان في ظننا أن أحدا لن يكذب على الله بنسبة الصاحبة والولد إليه، فكنا نصدقهم فيما أضافوا إليه حتى تبين لنا بالقرآن كذبهم، أقول:
ما ذكره الجن في هذه المقولة يعتبر من أشد أسباب الضلال في تاريخ البشرية: أن يعطي الإنسان العصمة لغير أهلها، وأن يتجاوز بالثقة حدودها، وقد عرفوا بهذا القرآن أنه لا ثقة إلا بما وافق القرآن، إن هذه البديهية من أهم بديهيات الإسلام، وكثير من الطوائف التي آباؤها مسلمون فاتتهم هذه البديهيات فأعطوا الثقة لأنواع من البشر حتى غمسوهم في الكذب على الله إلى آذانهم، سواء في تصوراتهم الخبيثة عن الذات الإلهية، أو عن اليوم الآخر، أو عن الرسول، أو عن الصحابة، أو عن القرآن، في زعمهم أن له ظاهرا وباطنا، وأن الظاهر ليس مرادا، وأمثال هذه القضايا الغريبة العجيبة.
5 -
وَأَنَّهُ كانَ رِجالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزادُوهُمْ أي:
فزاد الإنس الجن باستعاذتهم بهم رَهَقاً أي: طغيانا وسفها وكبرا، أو فزاد الجن
الإنس رهقا أي: إثما لاستعاذتهم بهم، وأصل الرهق غشيان المحظور
وَأَنَّهُمْ ظَنُّوا أي: وأن الإنس ظنوا كَما ظَنَنْتُمْ أيها الجن أَنْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ أَحَداً أي: بعد الموت فالإنس كانوا ينكرون البعث كإنكار الجن، دلت الآيتان على أن من أخلاق الكفر والجاهلية الاستعاذة بغير الله وإنكار اليوم الآخر.
6 -
وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّماءَ قال النسفي: (أي: طلبنا بلوغ السماء واستماع كلام أهلها واللمس: المس، فاستعير للطلب لأن الماس طالب متعرف)، أقول:
تفسير اللمس بالطلب في هذا المقام هو تفسير عامة المفسرين، مما يشير إلى أن الوصول إلى السماء نفسها ومسها ليس مرادا بالآية، كل ما في الأمر أن الجن قبل الإسلام كانوا يصعدون إلى طبقات من الجو يتاح لهم فيها سماع الملائكة، وهم نازلون إلى الأرض يتحدثون مع بعضهم، فمنعوا حتى من مثل هذا، ومن قبل لم يكونوا ممنوعين منه، ومن ثم قالوا: فَوَجَدْناها مُلِئَتْ حَرَساً شَدِيداً أي: أقوياء، والمراد بذلك الملائكة، وَشُهُباً جمع شهاب، وهي النيازك
وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْها أي: من السماء قبل هذا مَقاعِدَ لِلسَّمْعِ أي: لاستماع أخبار السماء، قال النسفي:
(يعني: كنا نجد بعض السماء خالية من الحرس والشهب قبل البعث) فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآنَ أي: فمن يرد الاستماع بعد البعث يَجِدْ لَهُ أي: لنفسه شِهاباً رَصَداً أي: شهابا راصدا له ولأجله، قال ابن كثير: أي: من يروم أن يسترق السمع اليوم يجد له شهابا مرصدا له لا يتخطاه ولا يتعداه، بل يمحقه ويهلكه، وقال ابن كثير:(يخبر تعالى عن الجن حين بعث الله رسوله محمدا صلى الله عليه وسلم وأنزل عليه القرآن، وكان من حفظه له أن السماء ملئت حرسا شديدا، وحفظت من سائر أرجائها، وطردت الشياطين عن مقاعدها التي كانت تقعد فيها قبل ذلك لئلا يسترقوا شيئا من القرآن فيلقوه على ألسنة الكهنة، فيلتبس الأمر ويختلط ولا يدرى من الصادق، وهذا من لطف الله تعالى بخلقه، ورحمته بعباده، وحفظه لكتابه العزيز)، وهكذا عرف الجن أنهم قد انقطعوا عن أي خبر من أخبار السماء حتى لا يختلط على أحد أمر النبوة والرسالة بغيرها، وكل ذلك حفظ لجناب النبوة والرسالة.
7 -
وَأَنَّا لا نَدْرِي أَشَرٌّ أي: عذاب أُرِيدَ بِمَنْ فِي الْأَرْضِ يلاحظ أنهم أسندوا الشر إلى غير فاعل أَمْ أَرادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَداً أي: خيرا ورحمة، والملاحظ أنهم نسبوا الخير إلى الله عز وجل، قال ابن كثير: (وهذا من أدبهم في العبارة
حيث أسندوا الشر إلى غير فاعل، والخير أضافوه إلى الله عز وجل، وقد ورد في الصحيح:«والشر ليس إليك» )، أقول: عرفوا ما يترتب على إرسال الرسول من سعادة لمن اتبعه، وعذاب لمن خالفه، ولم يعرفوا كيف يكون موقف البشرية من الرسالة الجديدة فقالوا ما قالوه، مراعين كمال الأدب، والعجيب أنهم أدركوا ببداهة الفطرة ما لا يدركه الآن كثيرون ممن يعيشون في أرض الإسلام.
8 -
وَأَنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَ أي: الأبرار المتقون وَمِنَّا دُونَ ذلِكَ أي:
وهم المقتصدون في الصلاح غير الكاملين فيه، أو أرادوا غير الصالحين كُنَّا طَرائِقَ قِدَداً أي: كنا ذوي مذاهب متفرقة، أو أديان مختلفة، أقول: هذا يشير إلى أن من الجن من أدركهم عصر النبوة وهم على الدين الصحيح دين عيسى عليه السلام، وأن منهم منحرفين مرتدين، وقد أدركوا هذه الحقيقة من سماعهم للقرآن فعرفوا بميزان القرآن من هم الصالحون ومن ليسوا كذلك، والعجيب أنهم عرفوا خلال فترة وجيزة ميزان الصلاح وغيره، وكثير من المسلمين الآن يلتبس عليهم الأمر فيعطون لقب الصلاح لمن ليس صالحا أو العكس.
9 -
وَأَنَّا ظَنَنَّا أي: أيقنا أَنْ لَنْ نُعْجِزَ اللَّهَ فِي الْأَرْضِ أي: لن نفوته كائنين في الأرض، أينما كنا فيها وَلَنْ نُعْجِزَهُ هَرَباً قال النسفي: أي: ولن نعجزه هاربين منها إلى السماء، قال ابن كثير: أي: نعلم أن قدرة الله حاكمة علينا، وأنا لا نعجزه في الأرض، ولو أمعنا في الهرب، فإنه علينا قادر لا يعجزه أحد منا.
أقول: لقد عرفوا الله عز وجل حق المعرفة، وعرفوا أنه لا ملجأ من الله إلا إليه.
10 -
وَأَنَّا لَمَّا سَمِعْنَا الْهُدى أي: القرآن آمَنَّا بِهِ أي: بالقرآن، قال ابن كثير: يفتخرون بذلك وهو مفخر لهم وشرف رفيع وصفة حسنة، أقول: في قولهم هذا إعلام لقومهم بوصفهم الجديد، وتشجيع لقومهم في الدخول فيما دخلوا به، بدليل ما بعده فَمَنْ يُؤْمِنْ بِرَبِّهِ فَلا يَخافُ بَخْساً أي: نقصا من ثوابه وَلا رَهَقاً أي: ولا ترهقه ذلة فهو لا يخاف أن ينقص من حسناته، أو يحمل عليه غير سيئاته، فالرهق هنا الحمل.
11 -
وَأَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ أي: المؤمنون المستسلمون لله ورسوله، الداخلون في دين الإسلام، وَمِنَّا الْقاسِطُونَ وهم الجائرون عن الحق الناكبون عنه بخلاف المقسطين، فإنهم العادلون، قال النسفي: (قسط: جار، وأقسط: