الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
كلمة في السياق:
وهكذا عرضت السورة قصة أمة ورسول، فكانت نموذجا على أمة ترفض الإنذار، ورسول قام بكامل جهده في الإنذار، ورأينا خلال ذلك دروسا كثيرة في الإنذار وأساليبه ومضامينه، وقد رأينا أثناء عرضنا للسورة سياقها الخاص وصلتها بمحورها ومضامينه.
الفوائد:
1 -
عند قوله تعالى: وَيُؤَخِّرْكُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى قال ابن كثير: (أي:
يمد في أعماركم ويدرأ عنكم العذاب الذي إن لم تجتنبوا ما نهاكم عنه أوقعه بكم. وقد يستدل بهذه الآية من يقول إن الطاعة والبر وصلة الرحم يزاد بها في العمر حقيقة كما ورد به الحديث: «صلة الرحم تزيد في العمر» ).
2 -
بمناسبة قوله تعالى: اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كانَ غَفَّاراً* يُرْسِلِ السَّماءَ عَلَيْكُمْ مِدْراراً* وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهاراً قال ابن كثير: (ولهذا تستحب قراءة هذه السورة في صلاة الاستسقاء لأجل هذه الآية.
وهكذا روي عن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه صعد المنبر ليستسقي، فلم يزد على الاستغفار وقراءة الآيات في الاستغفار ومنها هذه الآية فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كانَ غَفَّاراً* يُرْسِلِ السَّماءَ عَلَيْكُمْ مِدْراراً ثم قال:«لقد طلبت الغيث بمجاديح السماء التي يستنزل بها المطر» )، وقال النسفي:(وعن الحسن أن رجلا شكا إليه الجدب فقال: استغفر الله، وشكا إليه آخر الفقر، وآخر قلة النسل، وآخر قلة ريع أرضه، فأمرهم كلهم بالاستغفار، فقال له الربيع بن صبيح: أتاك رجال يشكون أبوابا فأمرتهم كلهم بالاستغفار؟ فتلا الآيات)، وقال الألوسي:(قال قتادة: كانوا أهل حب للدنيا فاستدعاهم إلى الآخرة من الطريق التي يحبونها) أقول:
وفي ذلك درس من دروس الدعوة.
3 -
بمناسبة قوله تعالى: ما لَكُمْ لا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقاراً* وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْواراً قال الألوسي: (أي: خلقكم مدرجا لكم في حالات: عناصر، ثم أغذية، ثم أخلاطا، ثم نطفا، ثم علقا، ثم مضغا، ثم عظاما ولحوما، ثم خلقا آخر، فإن التقصير في توقير من هذا شأنه في القدرة القاهرة والإحسان التام مع العلم
بذلك مما لا يكاد يصدر عن العاقل، وقيل: المراد بها الأحوال المختلفة بعد الولادة إلى الموت، من الصبا، والشباب، والكهولة، والشيخوخة، والقوة، والضعف.
وقيل: من الألوان، والهيئات، والأخلاق، والملل المختلفة، وقيل: من الصحة والسقم، وكمال الأعضاء ونقصانها، والغنى والفقر ونحوها). أقول: ذهبت بعض فرق الباطنية في فهم هذه الآية مذاهب لا يشهد لها عقل ولا نقل، فاعتبرتها دليلا على التناسخ الذي تقول به بعض ديانات الهند، وذلك من عمى القلب، وانطماس البصيرة، فالتناسخ تنقضه بديهيات العقول والعلوم، كما سنرى ذلك، وهذا الفهم الممسوخ نموذج لا على ترك المحكم إلى المتشابه، بل على ترك المحكم إلى الكفر الذي لا يستند إلى دليل.
4 -
بمناسبة قوله تعالى: وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُوراً وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِراجاً نحب أن ننقل كلام النسفي وابن كثير والألوسي في هذا النص ثم نعلق على ذلك. قال النسفي: (وعن ابن عباس وابن عمر رضي الله عنهم أن الشمس والقمر وجوههما مما يلي السموات، وظهورهما مما يلي الأرض، فيكون نور القمر محيطا بجميع السموات لأنها لطيفة لا تحجب نوره). وقال ابن كثير: (وقوله تعالى: أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَماواتٍ طِباقاً؟ أي: واحدة فوق واحدة، وهل هذا يتلقى من جهة السمع فقط؟ أو هو من الأمور المدركة بالحس مما علم من التسيير والكسوفات، فإن الكواكب السبعة السيارة يكشف بعضها بعضا، فأدناها القمر في السماء الدنيا، وهو يكشف ما فوقه، وعطارد في الثانية، والزهرة في الثالثة، والشمس في الرابعة، والمريخ في الخامسة، والمشترى في السادسة، وزحل في السابعة، وأما بقية الكواكب وهي الثوابت ففي فلك ثامن يسمونه فلك الثوابت، والمتشرعون منهم يقولون: هو الكرسي، والفلك التاسع وهو الأطلس، والأثير عندهم الذي حركته على خلاف حركة سائر الأفلاك، وذلك أن حركته مبدأ الحركات وهي من المغرب إلى المشرق، وسائر الأفلاك عكسه من المشرق إلى المغرب، ومعها يدور سائر الكواكب تبعا، ولكن للسيارة حركة معاكسة لحركة أفلاكها؛ فإنها تسير من المغرب إلى المشرق، وكل يقطع فلكه بحسبه، فالقمر يقطع فلكه في كل شهر مرة، والشمس في كل سنة مرة، وزحل في كل ثلاثين سنة مرة، ذلك بحسب اتساع أفلاكها، وإن كانت حركة الجميع في السرعة متناسبة. هذا ملخص ما يقولونه في هذا المقام، على اختلاف بينهم في مواضع كثيرة لسنا بصدد بيانها، وإنما المقصود أن الله سبحانه وتعالى خَلَقَ سَبْعَ
سَماواتٍ طِباقاً وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُوراً وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِراجاً أي: فاوت بينهما في الاستنارة، فجعل كلا منهما أنموذجا على حدة؛ ليعرف الليل والنهار بمطلع الشمس ومغيبها، وقدر القمر منازل وبروجا، وفاوت نوره فتارة يزداد حتى يتناهى، ثم يشرع في النقص حتى يستسر ليدل على مضي الشهور والأعوام كما قال تعالى: هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِياءً وَالْقَمَرَ نُوراً وَقَدَّرَهُ مَنازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسابَ ما خَلَقَ اللَّهُ ذلِكَ إِلَّا بِالْحَقِّ يُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ. وقال الألوسي: (ولعل في تشبيهها (أي: الشمس) بالسراج القائم لا بطريق الانعكاس رمزا إلى أن ضياءها ليس منعكسا إليها من كوكب آخر، كما أن نور القمر منعكس عليه من الشمس).
أقول: هذه نماذج في التفسير تبين تأثر المفسرين بثقافات عصرهم، التي قد تقرب أو تبعد من الصواب، والذي أراه في فهم الآية: أن الشمس والقمر والكواكب السيارة كلها في جوف السماء الدنيا، وأن السماء الدنيا واحدة من سبع سماوات، وأن هذه السموات السبع مغيبة عنا، فهي من عالم الغيب الذي أمرنا أن نؤمن به دون أن نراه، وهذا موضوع يحتاج إلى تحقيق واسع، وهذا ما عندي فيه، والملاحظ أن نوحا عليه السلام خاطب قومه بقوله: أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَماواتٍ طِباقاً مما يشير إلى أنه كان في حكم البديهة عندهم وجود سماوات سبع، والدارس لحضارات وادي الرافدين يعلم أن لأهل الوادي في حضاراتهم المتعاقبة ولعا في الفلك والسماء والنجوم،
وأن للرقم (سبعة) محلا خاصا في فلسفتهم ولا زال صابئة العراق الآن وهم من بقايا دين قديم هناك يربطون بين كثير من عقائدهم وبين النجوم.
5 -
بمناسبة قوله تعالى: وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَباتاً قال صاحب الظلال: (والتعبير عن نشأة الإنسان من الأرض بالإنبات تعبير عجيب موح. وهو يكرر في القرآن في صور شتى. كقوله تعالى: وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَباتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ لا يَخْرُجُ إِلَّا نَكِداً. وهو يشير في هذا إلى نشأة الناس كنشأة النبات.
كما يقرن نشأة الإنسان بنشأة النبات في مواضع متفرقة: ففي سورة الحج يجمع بينهما في آية واحدة في صدد البرهنة على حقيقة البعث فيقول: يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ، لِنُبَيِّنَ لَكُمْ، وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحامِ ما نَشاءُ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلًا، ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ، وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ
عِلْمٍ شَيْئاً* وَتَرَى الْأَرْضَ هامِدَةً، فَإِذا أَنْزَلْنا عَلَيْهَا الْماءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ
…
وفي سورة (المؤمنون) يذكر أطوار النشأة الجنينية قريبا مما ذكرت في سورة الحج ويجئ بعدها: فَأَنْشَأْنا لَكُمْ بِهِ جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنابٍ
…
وهكذا.
وهي ظاهرة تستدعي النظر ولا ريب. فهي توحي بالوحدة بين أصول الحياة على وجه الأرض، وأن نشأة الإنسان من الأرض كنشأة النبات. من عناصرها الأولية يتكون. ومن عناصرها الأولية يتغذى وينمو، فهو نبات من نباتها. وهبه الله هذا اللون من الحياة كما وهب النبات ذلك اللون من الحياة. وكلاهما من نتاج الأرض، وكلاهما يرضع من هذه الأم!).
6 -
بمناسبة قوله تعالى: وَمَكَرُوا مَكْراً كُبَّاراً قال ابن كثير: (قال مجاهد: كبارا أي: عظيما، وقال ابن زيد: كبارا أي: كبيرا، والعرب تقول: أمر عجيب وعجاب وعجاب، ورجل حسان وحسان، وجمال وجمال بالتخفيف والتشديد بمعنى واحد، والمعنى في قوله تعالى: وَمَكَرُوا مَكْراً كُبَّاراً أي:
بأتباعهم في تسويلهم لهم أنهم على الحق والهدى، كما يقولون لهم يوم القيامة: بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ إِذْ تَأْمُرُونَنا أَنْ نَكْفُرَ بِاللَّهِ وَنَجْعَلَ لَهُ أَنْداداً).
7 -
بمناسبة قوله تعالى على لسان قوم نوح: وَلا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلا سُواعاً وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْراً قال ابن كثير: (روى البخاري
…
عن ابن عباس:
صارت الأوثان التي كانت في قوم نوح في العرب بعد: أما ود فكانت لكلب بدومة الجندل، وأما سواع فكانت لهذيل، وأما يغوث فكانت لمراد ثم لبني غطيف بالجرف عند سبأ، وأما يعوق فكانت لهمدان، وأما نسر فكانت لحمير لآل ذي كلاع، وهي أسماء رجال صالحين من قوم نوح عليه السلام، فلما هلكوا أوحى الشيطان إلى قومهم أن انصبوا إلى مجالسهم التي كانوا يجلسون فيها أنصابا، وسموها بأسمائهم، ففعلوا فلم تعبد، حتى إذا هلك أولئك، ونسخ العلم عبدت. وكذا روي عن عكرمة والضحاك وقتادة وابن إسحاق نحو هذا، وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس: هذه أصنام كانت تعبد في زمن نوح، وروى ابن جرير
…
عن محمد بن قيس يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْراً قال: كانوا قوما صالحين بين آدم ونوح، وكان لهم أتباع يقتدون بهم، فلما ماتوا قال أصحابهم الذين كانوا يقتدون بهم: لو صورناهم كان أشوق لنا إلى
العبادة إذا ذكرناهم، فصوروهم، فلما ماتوا وجاء آخرون دب إليهم إبليس فقال:
إنما كانوا يعبدونهم، وبهم يسقون المطر، فعبدوهم). أقول: هذا المقام من المقامات التي تقتضي تحقيقا واسعا، فحفريات ما بين الرافدين قدمت لنا الكثير عن التاريخ القديم، وقدمت لنا فيما قدمت كلاما عن نوح، وتصورا عن الأصنام التي عبدتها أقوام بلاد الرافدين جيلا بعد جيل، ومن الملاحظ أن الصنم الذي على هيئة النسر كان يظهر مرة بعد مرة في عبادة الأجيال، ولا أستبعد أن يكون ابن عباس فهم من الآية أن لكل صنم شكلا، وهذه الأشكال وجدت في بلاد العرب وعبدت، لا أن عين الصنم الذي عبده قوم نوح عبدته العرب ويشهد لذلك بعض ما ذكره الألوسي.
قال الألوسي: (وأخرج ابن المنذر وغيره عن أبي عثمان النهدي أنه قال: رأيت يغوث وكان من رصاص يحمل على جمل أجرد، ويسيرون معه لا يهيجونه حتى يكون هو الذي يبرك، فإذا برك نزلوا وقالوا: قد رضي لكم المنزل فينزلون حوله، ويضربون عليه بناء، وقيل: يبعد بقاء أعيان تلك الأصنام وانتقالها إلى العرب، فالظاهر أنه لم يبق إلا الأسماء، فاتخذت العرب أصناما، وسموها بها، وقالوا أيضا: عبد ود وعبد يغوث يعنون أصنامهم، وما رآه أبو عثمان منها مسمى باسم ما سلف، ويحكى أن ودا كان على صورة رجل، وسواعا كان على صورة امرأة، ويغوث كان على صورة أسد، ويعوق كان على صورة فرس، ونسرا كان على صورة نسر).
أقول: قد يوصل التحقيق في هذا الموضوع إلى أشياء كثيرة تكون بمثابة المعجزات فحبذا لو انتدب إنسان نفسه لهذا الموضوع، فبحث عن أصول هذه الكلمات الخمس في لغات بلاد الرافدين، وبحث عن أصولها في لغة العرب، ومن المعروف أن كثيرا من الأقوام التي استوطنت بلاد الرافدين جاءت من جزيرة العرب، ثم بحث في كل ما قدمته الحفريات القديمة والروايات عن الأصنام، فلربما قدم جديدا مفيدا.
8 -
بمناسبة قوله تعالى: مِمَّا خَطِيئاتِهِمْ أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا ناراً قال ابن كثير: (وروى ابن أبي حاتم
…
عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
«لو رحم الله من قوم نوح أحدا لرحم امرأة لما رأت الماء حملت ولدها ثم صعدت الجبل، فلما بلغها الماء صعدت به منكبها، فلما بلغ الماء منكبها وضعت ولدها على رأسها، فلما بلغ الماء رأسها رفعت ولدها بيدها، فلو رحم الله منهم أحدا لرحم هذه المرأة» هذا حديث غريب ورجاله ثقات).