الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بين يدي سورة الجن:
قدم الألوسي لسورة الجن بقوله: (وتسمى قل أوحي إلي. وهي مكية بالاتفاق.
وآيها بلا خلاف ثمان وعشرون آية. ووجه اتصالها، قال الجلال السيوطي: فكرت فيه مدة فلم يظهر لي سوى أنه سبحانه قال في سورة نوح: اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كانَ غَفَّاراً* يُرْسِلِ السَّماءَ عَلَيْكُمْ مِدْراراً وقال عز وجل في هذه السورة لكفار مكة:
وَأَنْ لَوِ اسْتَقامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْناهُمْ ماءً غَدَقاً وهذا وجه بين في الارتباط انتهى. وفي قوله لكفار مكة شئ ستعلمه إن شاء الله تعالى، ويجوز أن يضم إلى ذلك اشتمال هذه السورة على شئ مما يتعلق بالسماء كالسورة السابقة، وذكر العذاب لمن يعصي الله عز وجل في قوله سبحانه: وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نارَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها أَبَداً فإنه يناسب قوله تعالى: أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا ناراً على وجه، وقال أبو حيان في ذلك: إنه تعالى لما حكى تمادي قوم نوح في الكفر والعكوف على عبادة الأصنام وكان أول رسول إلى أهل الأرض، كما أن محمدا صلى الله تعالى عليه وسلم آخر رسول إلى أهل الأرض، والعرب الذين هو منهم صلى الله تعالى عليه وسلم كانوا عباد أصنام كقوم نوح، حتى إنهم عبدوا أصناما مثل أصنام أولئك في الأسماء، أي: أو عينها، وكان ما جاء به عليه الصلاة والسلام هاديا إلى الرشد، وقد سمعته العرب، وتوقف عن الإيمان به أكثرهم، أنزل الله تعالى سورة الجن وجعلها أثر سورة نوح تبكيتا لقريش والعرب في كونهم تباطئوا عن الإيمان، وكانت الجن خيرا منهم إذ أقبل للإيمان من أقبل منهم، وهم من غير جنس الرسول عليه الصلاة والسلام، حتى كادوا يكونون عليه لبدا، ومع ذلك التباطي فهم مكذبون له، ولما جاء به حسدا وبغيا أن ينزل الله من فضله على من يشاء من عباده).
وقال صاحب الظلال: (هذه السورة تبده الحس- قبل أن ينظر إلى المعاني والحقائق الواردة فيها- بشيء آخر واضح كل الوضوح فيها
…
إنها قطعة موسيقية مطردة الإيقاع، قوية التنغيم، ظاهرة الرنين. يساند هذه الظاهرة ويتناسق معها صور السورة وظلالها ومشاهدها، ثم روح الإيحاء فيها. وبخاصة في الشطر الأخير منها بعد انتهاء حكاية قول الجن، والاتجاه بالخطاب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا الخطاب الذي يثير العطف على شخص الرسول في قلب المستمع لهذه السورة، عطفا مصحوبا بالحب وهو يؤمر أن يعلن تجرده من كل شئ في أمر هذه الدعوة إلا البلاغ، والرقابة الإلهية
المضروبة حوله وهو يقوم بهذا البلاغ).
(فإذا تجاوزنا هذه الظاهرة التي تبده الحس؛ إلى موضوع السورة ومعانيها واتجاهها فإننا نجدها حافلة بشتى الدلالات والإيحاءات.
إنها ابتداء شهادة من عالم آخر بكثير من قضايا العقيدة التي كان المشركون يجحدونها ويجادلون فيها أشد الجدل، ويرجمون في أمرها رجما لا يستندون فيه إلى حجة، ويزعمون أحيانا أن محمدا صلى الله عليه وسلم يتلقى من الجن ما يقوله لهم عنها! فتجئ الشهادة من الجن أنفسهم بهذه القضايا التي يجحدونها ويجادلون فيها؛ وبتكذيب دعواهم في استمداد محمد من الجن شيئا. والجن لم يعلموا بهذا القرآن إلا حين سمعوه من محمد صلى الله عليه وسلم فهالهم وراعهم ومسهم منه ما يدهش ويذهل، وملأ نفوسهم وفاض حتى ما يملكون السكوت على ما سمعوا، ولا الإجمال فيما عرفوا، ولا الاختصار فيما شعروا. فانطلقوا يحدثون في روعة المأخوذ، ووهلة المشدوه، عن هذا الحدث العظيم، الذي شغل السماء والأرض والإنس والجن والملائكة والكواكب.
وترك آثاره ونتائجه في الكون كله!
…
وهي شهادة لها قيمتها في النفس البشرية حتما.
ثم إنها تصحيح لأوهام كثيرة عن عالم الجن في نفوس المخاطبين ابتداء بهذه السورة، وفي نفوس الناس جميعا من قبل ومن بعد؛ ووضع حقيقة هذا الخلق المغيب في موضعها بلا غلو ولا اعتساف. فقد كان العرب المخاطبون بهذا القرآن أول مرة يعتقدون أن للجن سلطانا في الأرض، فكان الواحد منهم إذا أمسى بواد أو قفر، لجأ إلى الاستعاذة بعظيم الجن الحاكم لما نزل فيه من الأرض، فقال: أعوذ بسيد هذا الوادي من سفهاء قومه
…
ثم بات آمنا! كذلك كانوا يعتقدون أن الجن تعلم الغيب وتخبر به
الكهان فيتنبئون بما يتنبئون. وفيهم من عبد الجن وجعل بينهم وبين الله نسبا، وزعم له سبحانه وتعالى زوجة منهم تلد له الملائكة!
والاعتقاد في الجن على هذا النحو أو شبهه كان فاشيا في كل جاهلية، ولا تزال الأوهام والأساطير من هذا النوع تسود بيئات كثيرة إلى يومنا هذا!!!).
(وقد تكفلت هذه السورة بتصحيح ما كان مشركو العرب وغيرهم يظنونه عن قدرة الجن ودورهم في هذا الكون. أما الذين ينكرون وجود هذا الخلق إطلاقا،