الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
العظيم. ففي هذه العزلة كان يخلو إلى نفسه، ويخلص من زحمة الحياة وشواغلها الصغيرة؛ ويفرغ لموحيات الكون، ودلائل الإبداع؛ وتسبح روحه مع روح الوجود؛ وتتعانق مع هذا الجمال وهذا الكمال؛ وتتعامل مع الحقيقة الكبرى وتمرن على التعامل معها في إدراك وفهم.
ولا بد لأي روح يراد لها أن تؤثر في واقع الحياة البشرية فتحولها وجهة أخرى
…
لا بد لهذه الروح من خلوة وعزلة بعض الوقت، وانقطاع عن شواغل الأرض، وضجة الحياة، وهموم الناس الصغيرة التي تشغل الحياة.
لا بد من فترة للتأمل والتدبر والتعامل مع الكون الكبير وحقائقه الطليقة.
فالاستغراق في واقع الحياة يجعل النفس تألفه وتستنيم له، فلا تحاول تغييره. أما الانخلاع منه فترة، والانعزال عنه، والحياة في طلاقة كاملة من أسر الواقع الصغير، ومن الشواغل التافهة فهو الذي يؤهل الروح الكبير لرؤية ما هو أكبر، ويدربه على الشعور بتكامل ذاته بدون حاجة إلى عرف الناس، والاستمداد من مصدر آخر غير هذا العرف الشائع!
وهكذا دبر الله لمحمد صلى الله عليه وسلم وهو يعده لحمل الأمانة الكبرى، وتغيير وجه الأرض، وتعديل خط التاريخ
…
دبر له هذه العزلة قبل تكليفه بالرسالة بثلاث سنوات).
تفسير المجموعة الأولى من الفقرة الأولى:
يا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ أي: المتزمل وهو الذي تزمل في ثيابه، أي: تلفف بها، قال ابن كثير: يأمر تعالى رسوله صلى الله عليه وسلم أن يترك التزمل: وهو التغطي في الليل، وينهض إلى القيام لربه عز وجل
…
وقد كان واجبا عليه وحده
…
وهاهنا بين له مقدار ما يقوم
قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ أي: من النصف قَلِيلًا أَوْ زِدْ عَلَيْهِ أي: على النصف، قال ابن كثير: أي: أمرناك أن تقوم نصف الليل بزيادة قليلة أو نقصان قليل، لا حرج عليك في ذلك وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا قال ابن كثير:
أي: اقرأه على تمهل فإنه يكون عونا على فهم القرآن وتدبره، قال النسفي: أي: بين وفصل القرآن تبيانا وتفصيلا، أو اقرأ على تؤدة بتبيين الحروف، وحفظ الوقوف، وإشباع الحركات
إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا قال ابن كثير: قال الحسن وقتادة: أي: العمل به وقيل: ثقيل وقت نزوله من عظمته، وقال النسفي: (أي:
سننزل عليك قولا ثقيلا أي: القرآن لما فيه من الأوامر والنواهي، التي هي تكاليف شاقة، ثقيلة على المكلفين، أو ثقيلا على المنافقين، أو كلام له وزن ورجحان، ليس السفساف الخفيف). أقول: إن التخلق بالقرآن والقيام بأوامره وتعليم ذلك للناس، وتبليغهم إياه، وتربيتهم عليه، كل ذلك ثقيل على النفس البشرية، ولا يخفف عبء هذا الحمل إلا صلة عظيمة بالله عز وجل، ولذلك جاء قوله تعالى: إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا، وكأنه تعليل للأمر بقيام الليل، وترتيل القرآن فيه، فعلى كل من يتصدر للدعوة إلى الله عز وجل وتربية الخلق أن يكون له حظ من قيام الليل،
ثم قال تعالى: إِنَّ ناشِئَةَ اللَّيْلِ أي: قيام الليل، أو العبادة التي تنشأ بالليل، أي:
تحدث أو ساعات الليل، وأوقاته لأنها تنشأ ساعة فساعة، قال ابن كثير: وكل ساعة منه تسمى ناشئة، وهي الآنات هِيَ أَشَدُّ وَطْئاً أي: أثقل على المصلي من صلاة النهار لطرد النوم في وقته وَأَقْوَمُ قِيلًا أي: وأشد مقالا وأثبت قراءة لهدوء الأصوات، وانقطاع الحركات، قال ابن كثير: أي: أجمع للخاطر في أداء القراءة وتفهمها من قيام النهار، لأنه وقت انتشار الناس، ولغط الأصوات، وأوقات المعاش، وقال: والمقصود أن قيام الليل هو أشد مواطأة بين القلب واللسان وأجمع على التلاوة. أقول: في الآية
تعليل ثان للأمر بقيام الليل، وهو ثقله على النفس، وكونه أجمع للقلب على الله عز وجل، وبالتالي فهو أكثر تأثيرا وتقويما للنفس،
ثم قال تعالى: إِنَّ لَكَ فِي النَّهارِ سَبْحاً طَوِيلًا أي: فراغا طويلا لنومك وراحتك، أو تصرفا وتقلبا في مهماتك وشواغلك، ففرغ نفسك في الليل لعبادة ربك، أقول: في هذه الآية تعليل ثالث للأمر بقيام الليل، وحض على هذا القيام، فالنهار كاف لقضاء الحاجات، وهو محلها العادي، فاجعله لقضاء حاجتك ولراحتك، وخل الليل الله
وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ قال النسفي: (أي: ودم على ذكره في الليل والنهار) وذكر الله يتناول التسبيح والتهليل والتكبير والصلاة وتلاوة القرآن ودراسة العلم، وقال ابن كثير:(أي: أكثر من ذكره، وانقطع إليه، وتفرغ لعبادته إذا فرغت من أشغالك، وما تحتاج إليه من أمور دنياك).
أقول: أي: اجمع بين قيام الليل والاشتغال بذكر اسم الله عز وجل، ثم قال تعالى: وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلًا قال النسفي: (انقطع إلى عبادته عن كل شئ، والتبتل: الانقطاع إلى الله تعالى بتأميل الخير منه دون غيره، وقيل رفض الدنيا وما فيها، والتماس ما عند الله، وما ذكره ابن كثير في تفسير التبتل يدور بين الإخلاص