الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فصل: في بعث الرجيع
قال المباركفوري:
وفي شهر صفر من السنة نفسها - أي الرابعة من الهجرة - قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم قوم من عضل وقارة، وذكروا أن فيهم إسلاماً، وسألوا أن يبعث معهم من يعلمهم الدين، ويقرئهم القرآن، فبعث معهم ستة نفر - في قول ابن إسحاق وفي رواية البخاري أنهم كانوا عشرة - وأمر عليهم مرثد بن أبي مرثد الغنوي - في قول ابن إسحاق وعند البخاري أنه عاصم ابن ثابت جد عاصم بن عمر بن الخطاب.
وهذه بعض روايات الحادثة:
432 -
* روى الطبراني عن عاصم بن عمر بن قتادة قال قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد أحد نفر من عضل والقارة فقالوا: يا رسول الله، إن فينا إسلاماً، فابعث معنا نفراً من أصحابك، يفقهونا في الدين، ويقرئونا القرآن، ويعلمونا شرائع الإسلام، فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم نفراً من أصحابه ستة مرثد بن أبي مرثد الغنوي حليف حمزة بن عبد المطلب، قال فذكر القصة، قال وأما مرثد بن أبي مرثد وخالد بن البكير وعاصم بن أبي الأقلح، فقالوا: والله لا نقبل عهداً من مشرك، ولا عقداً أبدا، فقاتلوهم، حتى قتلوهم.
أقول: الذي يظهر من هذه الرواية والتي بعدها أن السرية كانت مكلفة بمهمتين: الأولى: تعليمية دعوية، والثانية: استطلاعية عسكرية.
432 - أورده الهيثمي في مجمع الزوائد (6/ 199)، وقال: رواه الطبراني، ورجاله ثقات.
والرجيع: بفتح الراء وكسر الجيم هو في الأصل اسم للروث، سمي بذلك لاستحالته، والمراد هنا اسم موضع من بلاد هذيل كانت الموقعة بقرب منه فسميت به.
أما عضل: فبفتح المهملة ثم المعجمة بعدها لام: بطن من بني الهول بن خزيمة بن مدركة بن إلياس بن مضر ينسبون إلى عضل بن الديش بن محكم، وأما القارة فبالقاف وتخفيف الراء بطن من الهول أيضاً ينسبون إلى الديش المذكور، وقال ابن دريد: القارة أكمة سوداء فيها حجارة كأنهم نزلوا عندها فسموا بها، ويضرب بهم المثل في إصابة الرمي.
وقال الشاعر: قد أنصف القارة من راماها.
433 -
* روى البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: بعث النبي صلى الله عليه وسلم سرية عيناً، وأمر عليهم عاصم بن ثابت - وهو جد عاصم بن عمر بن الخطاب - فانطلقوا، حتى إذا كانوا بين عسفان ومكة ذكروا لحي من هذيل، يقال لهم بنو لحيان، فتبعوهم بقريب من مائة رام، فاقتصوا آثارهم، حتى أتوا منزلاً نزلوه، فوجدوا فيه نوى تمر تزودوه من المدينة، فقالوا: هذا تمر يثرب، فتبعوا آثارهم حتى لحقوهم، فلما انتهى عاصم وأصحابه، لجؤوا إلى فدفد، وجاء القوم، فأحاطوا بهم، فقالوا: لكم العهد والميثاق: إن نزلتم إلينا أن لا نقتل منكم رجلاً، فقال عاصم: أما أنا فلا أنزل في ذمة كافر، اللهم أخبر عنا نبيك، فقاتلوهم، حتى قتلوا عاصماً في سبعة نفر بالنبل، وبقي خبيب وزيد، ورجل آخر، فأعطوهم العهد والميثاق، فلما أعطوهم العهد والميثاق نزلوا إليهم، فلما استمكنوا منهم، حلوا أوتار قسيهم فربطوهم بها، فقال الرجل الثالث الذي معهما وهذا أول الغدر، فأبى أن يصحبهم، فجرروه وعالجوه على أن يصحبهم، فلم يفعل، فقتلوه، وانطلقوا بخبيب وزيد، حتى باعوهما بمكة، فاشترى خبيباً بنو الحارث ابن عامر بن نوفل، وكان خبيب هو قتل الحارث يوم بدر، فمكث عندهم أسيراً، حتى إذا أجمعوا قتله، استعار موسى من بعض بنات الحارث، ليستحد بها، فأعارته، قالت: فغفلت عن صبي لي، فدرج إليه حتى أتاه، فوضعه على فخذه، فلما رأيته فزعت فزعة عرف ذلك مني، وفي يده الموسى، فقال: أتخشين أن أقتله؟ ما كنت لأفعل ذلك إن شاء الله، وكانت تقول: ما رأيت أسيراً قط خيراً من خبيب، لقد رأيته يأكل من قطف عنب وما بمكة يومئذ ثمرة، وإنه لموثق في الحديد، وما كان إلا رزق رزقه الله، فخرجوا به من الحرم ليقتلوه، فقال: دعوني أصلي ركعتين، ثم انصرف إليهم، فقال: لولا أن تروا أن ما بي جزع من الموت لزدت، فكان أول من سن الركعتين عند القتل هو ثم قال: اللهم أحصهم عدداً.
433 - البخاري (7/ 378) 64 - كتاب المغازي - 28 - باب غزوة الرجيع، ورعل وذكوان وبئر معونة.
فدفد: الفدفد: الموضع الذي فيه غلظ وارتفاع.
عالجوه: أي: مارسوه، وأراد به: أنهم خدعوه ليتبعهم، فأبى.
ليستحد: الاستحداد: حلق العانة.
قطف: القطف: العنقود، وهو اسم لكل ما يقطف.
ثم قال:
ما إن أبالي حين أقتل مسلماً
…
على أي شق كان لله مصرعي
وذلك في ذات الإله، وإن يشأ
…
يبارك على أوصال شلو ممزع
ثم قام إليه عقبة بن الحارث، فقتله، وبعثت قريش إلى عاصم، ليؤتوا بشيء من جسده يعرفونه - وكان عاصم قتل عظيماً من عظمائهم يوم بدر - فبعث الله عليه مثل الظلة من الدبر فحمته من رسلهم، فلم يقدروا منه على شيء.
وفي رواية (1) قال: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم عشرة رهط عيناً، وأمر عليهم عاصم بن ثابت الأنصاري - جد عاصم بن عمر بن الخطاب، فانطلقوا حتى إذا كانوا بالهدأة، بين عسفان ومكة
…
وذكر الحديث.
وفي رواية (2): بقريب من مائتي رجل، كلهم رام وفيه: لجؤوا إلى موضع، وفيه فقال عاصم: أيها القوم، أما أنا، وفيه: منهم خبيب وزيد بن الدثنة، وفيه حتى باعوهما بمكة بعد وقعة بدر، فابتاع بنو الحارث بن عامر بن عبد مناف خبيباً، وفيه فلما أخرجوه من الحرم ليقتلوه في الحل، وفيه قال: اللهم أحصهم عدداً، واقتلهم بدداً، ولا تبق منهم أحداً.
وقال:
ولست أبالي حين أقتل مسلماً
…
على أي جنب كان في الله مصرعي
وذلك في ذات الإله، وإن يشأ
…
يبارك على أوصال شلو ممزع
ثم قام إليه أبو سروعة، عقبة بن الحارث فقتله، وكان خبيب هو سن لكل مسلم قتل
(1) البخاري (7/ 308) 64 - كتاب المغازي 10 - باب حدثني عبد الله بن محمد الجعفي.
(2)
البخاري في نفس الموضع السابق.
بدداً: البدد: المتفرقون أشتاتاً.
شلو: الشلو: العضو من أعضاء الإنسان.
ممزع: الممزع: المفرق.
صبراً: الصلاة، وأخبر - يعني النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه يوم أصيبوا خبرهم، وبعث ناس من قريش إلى عاصم بن ثابت، حين حدثوا: أنه قتل - أن يؤتوا بشيء منه يعرف، وكان قتل رجلاً من عظمائهم، فبعث الله لعاصم مثل الظلة من الدبر، فحمته من رسلهم، فلم يقدروا أن يقطعوا منه شيئاً.
وأخرجه أبو داود (1) إلى قوله: يستحد بها، ثم قال: فلما خرجوا به ليقتلوه، قال لهم خبيب: دعوني أركع ركعتين، ثم قال: والله، لولا أن تحسبوا أن ما بي جزع لزدت.
وأخرجه في موضع آخر قال: ابتاع بنو الحارث بن عامر بن نوفل خبيباً - وكان خبيب هو قتل الحارث بن عامر يوم بدر - فلبث خبيب عندهم أسيراً، حتى أجمعوا على قتله، فاستعار من بعض بنات الحارث موسى يستحد بها، فأعارته
…
وذكر الحديث
…
إلى قوله: ما كنت لأفعل ذلك، قال أبو داود: وروى الزهري هذه القصة، قال: أخبرني عبيد الله بن عياض: أن بنت الحارث أخبرته: أنهم حين اجتمعوا - يعني لقتله - استعار منها موسى ليستحد بها، فأعارته.
وفي رواية رزين زيادة: قال عاصم: أما أنا فلا أنزل في ذمة كافر، اللهم أخبر عنا رسولك، فجعل يرميهم ويقول:
ما علتي وأنا جلد نابل
…
والقوس فيها وتر عنابل
قال في الفتح:
وذكر ابن إسحاق بإسناد صحيح عن عقبة بن الحارث قال: ما أنا قتلت خبيباً لأني
= صبراً: قتل الصبر: هو أن يقتل بأي أنواع القتل كان، من غير أن يكون في حرب ولا قتال.
الظلة: الشيء الذي يظلل من فوق.
الدبر: جماعة النحل.
(1)
أبو داود (3/ 51)، كتاب الجهاد، باب في الرجل يستأسر.
نابل: النابل: الذي معه النبل.
عنابل: العنابل: الغليظ.
كنت أصغر من ذلك، ولكن أبا ميسرة العبدري أخذ الحربة فجعلها في يدي ثم أخذ بيدي وبالحربة ثم طعنه بها حتى قتله.
قال في الفتح: قوله: (فاقتصوا آثارهم حتى أتوا منزلاً نزلوه فوجدوا فيه نوى تمر) في رواية أبي معشر في مغازيه فنزلوا بالرجيع سحراً فأكلوا تمر عجوة فسقطت نواة بالأرض، وكانوا يسيرون الليل ويكمنون النهار، فجاءت امرأة من هذيل ترعى غنماً فرأت النواة فأنكرت صغرها وقالت: هذا تمر يثرب، فصاحت في قومها: أتيتم، فجاءوا في طلبهم فوجدوهم قد كمنوا في الجبل.
أقول: رواية أبي معشر تدل على أنهم كانوا يحتاطون ألا يتركوا أثراً بما في ذلك نوى تمرهم الذي يأكلونه، وهذا يفيد أنهم كانوا في أعلى درجات الحس الأمني، وعلى كل الأحوال فإن أدب المسلم أن يرهف حسه الأمني دائماً حتى تكون تصرفاته على غاية من الحكمة فلا يكون إهماله سبباً في تدمير نفسه أو تدمير جماعة من المسلمين فضلاً عن أن يكون إهماله سبباً في تدمير جماعة المسلمين. وفي قوله في الرواية (وما كان إلا رزق رزقه الله) عن قطف العنب.
قال في الفتح: والمشهور عن أهل السنة إثبات الكرامات مطلقاً، لكن استثنى بعض المحققين منهم كأبي القاسم القشيري ما وقع به التحدي لبعض الأنبياء فقال، ولا يصلون إلى مثل إيجاد ولد من غير أب ونحو ذلك، وهذا أعدل المذاهب في ذلك، فإن إجابة الدعوة في الحال وتكثير الطعام والماء والمكاشفة بما يغيب عن العين والأخبار بما سيأتي ونحو ذلك قد كثر جداً حتى صار وقوع ذلك ممن ينسب إلى الصلاح كالعادة، فانحصر الخارق الآن فيما قاله القشيري، وتعين تقييد قول من أطلق أن كل معجزة وجدت لنبي يجوز أن تقع كرامة لولي، ووراء ذلك كله أن الذي استقر عند العامة أن خرق العادة يدل على أن من وقع له ذلك من أولياء الله تعالى، وهو غلط ممن يقول، فإن الخارق قد يظهر على يد المبطل من ساحر وكاهن وراهب، فيحتاج من يستدل بذلك على ولاية أولياء الله تعالى إلى فارق، وأولى ما ذكروه أن يختبر حال من وقع له ذلك فإن كان متمسكاً بالأوامر الشرعية والنواهي كان ذلك علامة ولايته ومن لا فلا وبالله التوفيق.