الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فصل: في مأساة بئر معونة
قال المباركفوري:
وفي الشهر نفسه الذي وقعت فيه مأساة الرجيع صفر 4 هـ، وقعت مأساة أخرى أشد وأفظع من الأولى، وهي التي تعرف بوقعة بئر معونة.
وملخصها: أن أبا براء عامر بن مالك المدعو بملاعب الأسنة قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة، فدعاه إلى الإسلام فلم يسلم ولم يبعد، فقال: يا رسول الله لو بعثت أصحابك إلى أهل نجد يدعونهم إلى دينك؛ لرجوت أن يجيبوهم، فقال: إني أخاف عليهم أهل نجد، فقال أبو براء: أنا جار لهم، فبعث معه أربعين رجلاً - في قول ابن إسحاق، وفي الصحيح أنهم كانوا سبعين، والذي في الصحيح هو الصحيح - وأمر عليهم المنذر بن عمرو أحد بني ساعدة الملقب بالمعنق ليموت، وكانوا من خيار المسلمين وفضلائهم وساداتهم وقرائهم، وكانوا يحتطبون بالنهار، يشترون به الطعام لأهل الصفة، ويتدارسون القرآن، ويصلون بالليل ساروا حتى نزلوا بئر معونة - وهي أرض بين بني عامر وحرة بني سليم - فنزلوا هناك، ثم بعثوا حرام بن ملحان أخا أم سليم بكتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى عدو الله عامر بن الطفيل، فلم ينظر فيه، وأمر رجلاً فطعنه بالحربة من خلفه، فلما أنفذها فيه ورأى الدم قال حرام: الله أكبر، فزت ورب الكعبة.
ثم استنفر عدو الله لفوره بني عامر إلى قتال الباقين، فلم يجيبوه لأجل جوار أبي براء، فاستنفر بني سليم، فأجابته عصية ورعل وذكوان، فجاءوا حتى أحاطوا بأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقاتلوا حتى قتلوا عن آخرهم إلا كعب بن زيد من بني النجار، فإنه ارتث (1) من بين القتلى، فعاش حتى قتل يوم الخندق.
وكان عمرو بن أمية الضمري والمنذر بن عقبة بن عامر في سرح المسلمين فرأيا الطير تحوم على موضع الوقعة، فنزل المنذر، فقاتل المشركين حتى قتل مع أصحابه، وأسر عمرو بن أمية الضمري، فلما أخبر أنه من مضر جز عامر ناصيته، وأعتقه عن رقبة كانت على أمه.
(1)(ارتث) فلان: ضرب في الحرب فأثخن وحمل به رمق.
ورجع عمرو بن أمية الضمري إلى النبي صلى الله عليه وسلم حاملاً معه أنباء المصاب الفادح، مصرع سبعين من أفاضل المسلمين. تذكر نكبتهم الكبيرة بنكبة أحد؛ إلا أن هؤلاء ذهبوا في قتال واضح؛ وأولئك ذهبوا في غدرة شائنة.
ولما كان عمرو بن أمية في الطريق بالقرقرة من صدر قناة، نزل في ظل شجرة وجاء رجلان من بني كلاب فنزلا معه، فلما ناما فتك بهما عمرو، وهو يرى أنه قد أصاب ثأر أصحابه، وإذا معهما عهد من رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يشعر به، فلما قدم أخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم بما فعل، فقال: لقد قتلت قتيلين لأدينهما وانشغل بجمع دياتهم من المسلمين وحلفائهم اليهود وهذا الذي يصار سبباً لغزو بني النضير كما سيذكر.
وقد تألم النبي صلى الله عليه وسلم لأجل هذه المأساة، ولأجل مأساة الرجيع اللتين وقعتا خلال أيام معدودة تألماً شديداً وتغلب عليه الحزن والقلق حتى دعا على هؤلاء الأقوام والقبائل التي قامت بالغدر والفتك في أصحابه.
قال في الفتح بمناسبة الكلام عن بئر معونة:
(ورعل وذكوان) أي وغزوة رعل وذكوان، فأما رعل فبكسر الراء وسكون المهملة بطن من بني سليم ينسبون إلى رعل بن عوف بن مالك بن امرئ القيس بن لهيعة بن سليم، وأما ذكوان فبطن من بني سليم أيضاً ينسبون إلى ذكوان بن ثعلبة بن بهثة بن سليم فنسبت الغزوة غليهما.
435 -
* روى البخاري عن أنس بن مالك: إنما قنت رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد الركوع شهراً أنه كان بعث ناساً يقال لهم القراء - وهم سبعون رجلاً - إلى ناس من المشركين وبينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم عهد قبلهم، فظهر، هؤلاء الذين كان بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم عهد، فقنت رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد الركوع شهراً يدعو عليهم".
قال في الفتح: قوله (إلى ناس من المشركين وبينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم عهد قبلهم،
435 - البخاري (2/ 490) 14 - كتاب الوتر - 7 - باب القنوت قبل الركوع وبعده.
فظهر هؤلاء الذين كان بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم عهد) وهكذا ساقه هنا، وقوله قبلهم بكسر القاف وفتح الموحدة واللام أي من جهتهم، وأورده في آخر كتاب الوتر عن مسدد عن عبد الواحد بلفظ "إلى قوم من المشركين دون أولئك وكان بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم عهد" وليس المراد من ذلك أيضاً بواضح، وقد ساقه الإسماعيلي مبيناً فأورده يوسف القاضي عن مسدد شيخ البخاري فيه ولفظه "إلى قوم من المشركين فقتلهم قوم مشركون دون أولئك وكان بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم عهد، فظهر أن الذين كان بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم العهد غير الذين قتلوا المسلمين، وقد بين ابن إسحاق في المغازي عن مشايخه وكذلك موسى بن عقبة عن ابن شهاب أصحاب العهد بنو عامر ورأسهم أبو براء عامر بن مالك بن جعفر المعروف بملاعب الأسنة وأن الطائفة الأخرى من بني سليم، وأن عامر بن الطفيل وهو ابن أخي ملاعب الأسنة أراد الغدر بأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فدعا بني عامر إلى قتالهم، فامتنعوا وقالوا: لا نخفر ذمة أبي براء، فاستصرخ عليهم عصية وذكوان من بني سليم فأطاعوه وقتلوهم، وذكر لحسان شعراً يعيب فيه أبا براء ويحرضه على قتال عامر بن الطفيل فيما صنع فيه، فعمد ربيعة بن أبي براء إلى عامر بن الطفيل فطعنه فأرداه، فقال له عامر بن الطفيل: إن عشت نظرت في أمري، وإن مت فدمي لعمي، قالوا؛ ومات أبو براء عقب ذلك أسفاً على ما صنع به عامر بن الطفيل، وعاش عامر بن الطفيل بعد ذلك ومات بدعاء النبي صلى الله عليه وسلم.
أقول: نلاحظ أن التعاقدات والتحالفات والمعاهدات كانت جزءاً لا يتجزأ من سياسة الرسول صلى الله عليه وسلم وحركته الدائبة، وقد حققت له مصالح وكانت أحياناً سبباً في مآس، والمسلم مكلف أن يجتهد في الموقع الذي هو فيه وليس عليه أن يعرف الغيب. والحذر والاحتياط مطلوبان.
436 -
* روى الطبراني عن عبد الرحمن بن كعب بن مالك وغيره أن عامر بن مالك الذي يدعى ملاعب الأسنة قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو مشرك فعرض عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم الإسلام، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "إني لا أقبل هدية مشرك" فقال عامر بن
436 - المعجم الكبير (16/ 71) وأورده الهيثمي في مجمع الزوائد (6/ 127)، وقال: رواه الطبراني، ورجاله رجال الصحيح.
مالك: ابعث يا رسول الله من رسلك من شئت، فأنا لهم جار، فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم رهطاً فيهم المنذر بن عمرو الساعدي وهو الذي يقال له: أعتق ليموت عيناً في أهل نجد فسمع بهم عامر بن الطفيل فاستنفر لهم من بني سليم فنفروا معه فقتلهم ببئر معونة غير عمرو بن أمية الضمري أخذه عامر بن الطفيل فأرسله، فلما قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم من بينهم، وكان فيهم عامر بن فهيرة، فزعم لي عروة أنه قتل يومئذ فلم يوجد جسده حين دفنوه يقول عروة: كانوا يرون الملائكة هي دفنته فقال حسان يحرض بعامر بن الطفيل:
بني أم البنين ألم يرعكم
…
وأنتم من ذوائب أهل نجد
تهكم عامر بأبي براء
…
ليخفره وما خطا كعمد
فطعن ربيعة بن عامر بن ربيعة بن مالك عامر بن الطفيل في فخذه طعنة فقده.
437 -
* روى الطبراني عن محمد بن إسحاق قال: أقام رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد أحد بقية شوال وذا القعدة وذا الحجة، وولى تلك الحجة والمحرم، ثم بعث أصحاب بئر معونة في صفر على رأس أربعة أشهر من أحد، فكان من حديثهم، كما حدثني إسحاق عن المغيرة بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام وعبد الله بن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم وغيره من أهل العلم قالوا: قدم أبو براء عامر بن مالك بن جعفر ملاعب الأسنة على رسول الله صلى الله عليه وسلم فعرض عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم الإسلام ودعاه إليه فلم يسلم، ولم يبعد من الإسلام، وقال: يا محمد لو بعثت رجالاً من أصحابك فدعوهم إلى أمرك، رجوت أن يستجيبوا
= جار: أي: حام.
رهطاً: الرهط: قوم الرجل وقبيلته. والرهط: ثلاثة أو سبعة أو عشرة أو ما دون العشرة.
عينا: العين: الجاسوس.
ذوائب: (الذؤابة) من كل شيء أعلاه.
ليخفره: خفره: نقص عهده، وغدره.
يرعكم: يعز عليكم.
قد: أي شقه طولاً، قد اللحم: قطعه طولاً.
437 -
أورده الهيثمي في مجمع الزوائد (6/ 128)، وقال: رواه الطبراني، ورجاله ثقات إلى ابن إسحاق وقد صرح بالسماع، والحديث مرسل.
لك، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"إني أخشى عليهم أهل نجد" فقال أبو براء: أنا لهم جار، فابعثهم، فليدعوا الناس إلى أمرك، فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم المنذر بن عمرو أخا بني ساعدة بن الخزرج المعتق ليموت في أربعين رجلاً من المسلمين من خيارهم، منهم الحرث بن الصمة، وحرام بن ملحان أخو بني عدي بن النجار، وعروة بن أسماء بن الصلت السلمي، ونافع بن بديل بن ورقاء الخزاعي، وعامر بن فهيرة - مولى أبي بكر - ورجالا مسمين من خيار المسلمين، فساروا حتى نزلوا بئر معونة، وهي بين أرض بني عامر، وحرة بني سليم، كلا البلدين منها قريب، وهي من بني سليم أقرب، فلما نزلوها بعثوا حرام بن ملحان بكتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى عامر بن الطفيل، فلما أتاه، لم ينظر في كتابه حتى عدا على الرجل فقتله، ثم استصرخ بني عامر، فأبوا أن يجيبوه إلى ما دعاهم وقالوا: لن نخفر أبا براء، وقد عقد لهم عقداً وجواراً، فاستصرخ عليهم قبائل من بني سليم عصية ورعل وذكوان، فأجابوه إلى ذلك، فخرجوا حتى غشوا القوم، فأحاطوا بهم في رحالهم، فلما رأوهم أخذوا أسيافهم، فقاتلوا حتى قتلوا عن آخرهم إلا كعب بن زيد أخا بني دينار ابن النجار، فإنهم تركوه وبه رمق، فارتث من بين القتلى، فعاش حتى قتل يوم الخندق، وكان في السرح عمرو بن أمية الضمري، ورجل من الأنصار أخو بني عمرو بن عوف، فلم ينبئهما بمصاب إخوانهما إلا الطير تحوم على العسكر، فقالا: والله إن لهذا الطير لشأنا فأقبلا لينظرا، فإذا القوم في دمائهم، وإذا الخيل التي أصابتهم واقفة، فقال الأنصاري: لعمرو بن أمية: ما ترى قال: أرى أن نلحق برسول الله صلى الله عليه وسلم، فنخبره الخبر، فقال الأنصاري: لكني ما كنت لأرغب بنفسي عن موطن قتل فيه المنذر بن عمرو، وما كنت لتخبرني عنه الرجال، فقاتل القوم حتى قتل، وأخذوا عمرو بن أمية أسيراً، فلما أخبرهم أنه من مضر، أطلقه عامر بن الطفيل، وجز ناصيته وأعتقه عن رقبة، زعم أنها كانت على أمه، فخرج عمرو بن أمية حتى إذا كان بالقرقرة من صدر قناة، أتاه رجلان
= ارتث: الارتثاث: أن يحمل الجريح من المعركة وهو ضعيف قد أثخنته الجراح.
لأرغب: رغب عن الشيء: تركه متعمداً، وزهد فيه.
ما كنت لتخبرني عنه الرجال: لا أرضى العيش بعده.
جز: جز الشعر: قطعه.
ناصيته: الناصية: شعر مقدم الرأس إذا طال.
من بني عامر نزلا في ظل هو فيه، وكان للعامريين عقد من رسول الله صلى الله عليه وسلم وجوار، لم يعلم به عمرو بن أمية، وقد سألهما حين نزلا، ممن أنتما؟ قالا: من بني عامر فأمهلهما، حتى ناما فغدا عليهما فقتلهما، وهو يرى أنه قد أصاب بهما ثأره من بني عامر، لما أصابوا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما قدم عمرو بن أمية على رسول الله صلى الله عليه وسلم أخبره الخبر، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"لقد قتلت قتيلين لأدينهما" ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "هذا عمل أبي براء قد كنت لهذا كارهاً متخوفاً" فبلغ ذلك أبا براء فشق عليه إخفار عامر إياه، وما أصيب من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بسببه وجواره فقال حسان بن ثابت، يحرض ابن أبي براء على عامر بن الطفيل:
بني أم البنين ألم يرعكم
…
وأنتم من ذوائب أهل نجد
تهكم عامر بأبي براء
…
ليخفره وما خطأ كعمد
ألا أبلغ ربيعة ذا المساعي
…
بما أحدثت في الحدثان بعدي
أبوك أبو الحروب أبو براء
…
وخالك ماجد حكم بن سعد
فحمل ربيعة بن عامر على عامر بن الطفيل، فطعنه بالرمح، فوقع في فخذه، فأشواه ووقع عن فرسه، فقال: هذا عمل أبي براء، فإن أمت فدمي لعمي، لا يتبع به، وإن أعش فسأرى رأيي فيما أتى إلي.
438 -
* روى البخاري عن أنس قال: بعث النبي صلى الله عليه وسلم أقواماً من بني سليم إلى بني عامر في سبعين، فلما قدموا قال لهم خالي: أتقدمكم، فإن آمنوني حتى أبلغهم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإلا كنتم مني قريباً، فتقدم، فآمنوه، فبينما يحدثهم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، إذ أومؤوا إلى رجل منهم، فطعنه فأنفذه، فقال: الله أكبر، فزت ورب الكعبة، ثم مالوا
= لأدينهما: سأدفع ديتهما.
الحدثان: حدثان الدهر: نوائبه وحوادثه.
أشوى: يقال: رمى فأشوى، إذا لم يصب المقتل.
438 -
البخاري (6/ 18) 56 - كتاب الجهاد - 9 - باب من ينكب في سبيل الله.
آمنوني: أعطوني أمناً.
أومؤوا: أشاروا.
فزت: المراد بالفوز حصوله على الشهادة.
على بقية أصحابه، فقتلوهم، إلا رجلاً أعرج صعد الجبل. قال همام: وأراه آخر معه، فأخبر جبريل عليه السلام النبي صلى الله عليه وسلم أنهم قد لقوا ربهم، فرضي عنهم وأرضاهم؛ فكنا نقرأ:"أن بلغوا قمنا أنا قد لقينا ربنا، فرضي عنا وأرضانا" ثم نسخ بعد، فدعا عليهم أربعين صباحاً على رعل وذكوان وبني لحيان وبني عصية الذين عصوا الله ورسوله.
وفي رواية (1) "أن رعلاً وذكوان وبني لحيان استمدوا رسول الله صلى الله عليه وسلم على عدو فأمدهم بسبعين من الأنصار كنا نسميهم: القراء في زمانهم، كانوا يحتطبون بالنهار، ويصلون بالليل، حتى كانوا ببئر معونة قتلوهم، وغدروهم بهم، فبلغ النبي صلى الله عليه وسلم، فقنت شهراً يدعو في الصبح على أحياء من أحياء العرب، على رعل وذكوان وعصية وبني لحيان، قال أنس: فقرأنا فيهم قرآناً، ثم إن ذلك رفع: بلغوا عنا قومنا
…
وذكره".
وللبخاري ومسلم في رواية (2) قال: دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم على الذين قتلوا أصحاب بئر معونة: ثلاثين صباحاً، يدعو على رعل وذكوان ولحيان وعصية، عصت الله ورسوله. قال أنس: أنزل الله عز وجل لنبيه في الذين قتلوا ببئر معونة قرآناً قرأناه، حتى نسخ بعد: أن بلغوا قومنا أن قد لقينا ربنا، فرضي عنا، ورضينا عنه.
وللبخاري (3) عن أنس قال: لما طعن حرام بن ملحان - وكان خاله - يوم بئر معونة، قال بالدم هكذا، فنضحه على وجهه ورأسه، ثم قال: فزت ورب الكعبة.
ولمسلم (4) قال: جاء ناس إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقالوا: ابعث معنا رجالاً يعلمونا القرآن والسنة، فبعث إليهم سبعين رجلاً من الأنصار يقال لهم: القراء، فيهم خالي حرام، يقرؤون القرآن، ويتدارسون بالليل يتعلمون، وكانوا بالنهار يجيئون بالماء فيضعونه في
(1) البخاري (7/ 385) 64 - كتاب المغازي - 28 - باب غزوة الرجيع، ورعل وذكوان، وبئر معونة وحديث عضل والقارة وعاصم بن ثابت وخبيب وأصحابه.
(2)
البخاري (7/ 389) 64 - كتاب المغازي - 28 - باب غزوة الرجيع ورعل وذكوان.
ومسلم واللفظ له (1/ 468) 5 - كتاب المساجد ومواضع الصلاة - 54 - باب استحباب القنوت في جميع الصلاة، إذا نزلت بالمسلمين نازلة.
(3)
البخاري في الموضع السابق (7/ 386).
طعن: طعن الرجل: إذا رمي بالطاعون.
(4)
مسلم (3/ 1511) 33 - كتاب الإمارة - 41 - باب ثبوت الجنة للشهيد.
المسجد، ويحتطبون فيبيعونه، ويشترون به الطعام لأهل الصفة وللفقراء، فبعثهم النبي صلى الله عليه وسلم إليهم، فعرضوا لهم، فقتلوهم قبل أن يبلغوا المكان، فقالوا: اللهم أبلغ عنا نبينا: أنا قد لقيناك، فرضينا عنك، ورضيت عنا، قال: وأتى رجل حراماً - خال أنس - من خلفه، فطعنه برمح حتى أنفذه، فقال حرام: فزت ورب الكعبة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه:"إن إخوانكم قد قتلوا، وإنهم قالوا: اللهم بلغ عنا نبينا: أنا قد لقيناك، فرضينا عنك، ورضيت عنا".
وفي رواية للبخاري (1) أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث خاله - أخاً لأم سليم - في سبعين راكباً، وكان رئيس المشركين عامر بن الطفيل خير بين ثلاث خصال، فقال: يكون لك أهل السهل، ولي أهل المدر، أو أكون خليفتك، أو أغزوك بأهل غطفان بألف وألف، فطعن عامر في بيت أم فلان، فقال: غدة كغدة البكر، في بيت امرأة من آل فلان، ائتوني بفرسي، فمات على ظهر فرسه، فانطلق حرام أخو أم سليم - وهو رجل أعرج - ورجل من بني فلان، قال: كونا قريباً حتى آتيهم، فإن آمنوني كنتم قريباً، وإن قتلوني أتيتم أصحابكم، فقال: أتؤمنوني أبلغ رسالة رسول الله صلى الله عليه وسلم وذكر الحديث مثل الأولى".
أقول: وما أشار إليه أنس من آيات تتلى ثم نسخت نموذج على منسوخ التلاوة من القرآن، وهو أحد أنواع النسخ الحاصل.
ولابن حجر بعض تفصيلات وتصويبات في الفتح بمناسبة الحديث قال:
قوله (في بيت امرأة من آل بني فلان) بينها الطبراني من حديث سهل بن سعد فقال "امرأة من آل سلول" وبين فيه قدوم عامر بن الطفيل على النبي صلى الله عليه وسلم وأنه قال فيه "لأغزونك بألف أشقر (2) وألف شقراء"(3) وأن النبي صلى الله عليه وسلم أرسل أصحاب بئر معونة بعد
(1) البخاري (7/ 386) 64 - كتاب المغازي - 28 - باب غزوة الرجيع ورعل وذكوان.
أهل السهل: أراد بأهل السهل: أهل البادية، فإنه جعل في مقابلها أهل المدر، وأهل المدر: هم أهل المدن والقرى.
غدة: صار ذاغدة فهو مغدود جمع غداد، والغدد: طاعون الإبل.
(2)
أشقر: المراد الحصان.
(3)
شقراء: المراد بها الفرس.
أن رجع عامر، وأنه غدر بهم وأخفر ذمة عمه أبي براء وأن النبي صلى الله عليه وسلم دعا عليه فقال:"اللهم اكفني عامراً" قال فجاء إلى بيت امرأة من بني سلول. قلت: سلول امرأة، وهي بنت ذهل بن شيبان، وزوجها مرة بن صعصعة أخو عامر بن صعصعة فنسب بنوه إليها قوله (فانطلق حرام أخو أم سليم وهو رجل أعرج) كذا هنا على أنها صفة حرام، وليس كذلك بل الأعرج غيره، وقد وقع في رواية عثمان بن سعيد فانطلق حرام ورجلان معه رجل أعرج ورجل من بني فلان، فالذي يظهر أن الواو في قوله "وهو" قدمت سهواً من الكاتب، والصواب تأخيرها، وصواب الكلام: فانطلق حرام هو ورجل أعرج، فأما الأعرج فاسمه كعب بن زيد، وهو من بني دينار بن النجار، وأما الآخر فاسمه المنذر بن محمد بن عقبة بن أحيحة بن الجلاح الخزرجي سماها ابن هشام في زيادات السيرة. ووقع في بعض النسخ "وهو رجل أعرج" وهو الصواب اهـ ابن حجر.
قال في الفتح بمناسبة ذكر بني لحيان في بعض الروايات: لحيان بكسر اللام وفتحها وهذا يوهم أن بني لحيان ممن أصاب القراء يوم بئر معونة وليس كذلك: وإنما أصاب هؤلاء القراء رعل وذكوان وعصية ومن صحبهم من سليم، وأما بنو لحيان فهم الذين أصابوا بعث الرجيع، وإنما أتى الخبر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم عنهم كلهم في وقت واحد فدعا على الذين أصابوا أصحابه في الموضعين دعاء واحداً والله أعلم، قاله القسطلاني في المواهب. اهـ.
وقال في الفتح: قوله: (بعث النبي صلى الله عليه وسلم سبعين رجلاً لحاجة) فسر قتادة الحاجة بقوله "إن رعلا وغيرهم استمدوا رسول الله صلى الله عليه وسلم على عدو فأمدهم بسبعين من الأنصار" وقد تقدم في الجهاد من وجه آخر عن سعيد عن قتادة بلفظ "أن النبي صلى الله عليه وسلم أتاه رعل وذكوان وعصية وبنو لحيان فزعموا أنهم أسلموا واستمدوا على قومهم، وفي هذا رد على من قال رواية قتادة وهم، وأنهم لم يستمدوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وإنما الذي استمدهم عامر بن الطفيل على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم انتهى. ولا مانع أن يستمدوا رسول الله صلى الله عليهم وسلم في الظاهر ويكون قصدهم الغدر بهم، ويحتمل أن يكون الذين استمدوا غير الذين استمدهم عامر بن الطفيل وإن كان الكل من بني سليم، وفي رواية عاصم آخر الباب عن أنس "أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث أقواماً إلى ناس من المشركين بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم عهد، ويحتمل أنه لم يكن استمدادهم لهم
لقتال عدو، وإنما هو للدعاء إلى الإسلام. وقد أوضح ذلك ابن إسحاق قال: حدثني أبي عن المغيرة بن عبد الرحمن وغيره قال: قدم أبو براء عامر بن مالك المعروف بملاعب الأسنة على رسول الله صلى الله عليه وسلم فعرض عليه الإسلام فلم يسلم ولم يبعد وقال: يا محمد، لو بعثت رجالاً من أصحابك إلى أهل نجد رجوت أن يستجيبوا لك وأنا جار لهم. اهـ.
أقول: وقد ابتلى الله عز وجل عامر بن الطفيل بما يشبه السرطان أو الجدري ومات في بيت امرأة من بني سلول وهي قبيلة مزدراة فكان ذلك أبلغ في الإهانة، وقد كان تهدد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يغزوه بألف أشقر وألف شقراء ثم تسبب بقتل القراء فعاقبه الله عز وجل.
ومن أهم ما نأخذه من حادثة بئر معونة أنه إذا فتح لنا باب الدعوة إلى الله سلماً فعلينا أن نلجه، وأن نرسل الوفود والبعوث لذلك، وهذا يفتح أمامنا آفاقاً واسعة في العمل الإسلامي على الأرض الإسلامية أو خارجها، فحيثما أعطينا حرية الدعوة إلى الله فعلينا أن ندعو مستفيدين من الأعراف والقوانين، ويسعنا في هذه الحالة أن ننصح وأن نعمل من خلال القانون للتغيير الإسلامي الشامل، ولكن الاكتفاء بهذا القدر من العمل منوط بالفتوى من أهلها.
* * *