الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فصل: في غزوتي الأحزاب وقريظة
1 - من تحقيقات كتاب السير:
قال ابن القيم في زاد المعاد:
وكان سبب غزوة الخندق أن اليهود لما رأوا انتصار المشركين على المسلمين يوم أحد، وعلموا بميعاد أبي سفيان لغزو المسلمين، فخرج لذلك، ثم رجع للعام المقبل؛ خرج أشرافهم، كسلام بن أبي الحقيق، وسلام بن مشكم، وكنانة بن الربيع وغيرهم إلى قريش بمكة يحرضونهم على غزو رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويؤلبونهم عليه، ووعدوهم من أنفسهم بالنصر لهم، فأجابتهم قريش، ثم خرجوا إلى غطفان فدعوهم، فاستجابوا لهم، ثم طافوا في قبائل العرب، يدعونهم إلى ذلك، فاستجاب لهم من استجاب، فخرجت قريش وقائدهم أبو سفيان في أربعة آلاف، ووافتهم بنو سليم بمر الظهران، وخرجت بنو أسد وفزارة، وأشجع، وبنو مرة، وجاءت غطفان وقائدهم عيينة بن حصن. وكان من وافى الخندق من الكفار عشرة آلاف.
فلما سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم بمسيرهم إليه، استشار الصحابة، فأشار عليه سلمان الفارسي بحفر خندق يحول بين العدو وبين المدينة، فأمر به رسول الله صلى الله عليه وسلم، فبادر إليه المسلمون، وعمل بنفسه فيه، وبادروا هجوم الكفار عليهم، وكان في حفره من آيات نبوته، وأعلام رسالته ما قد تواتر الخبر به، وكان حفر الخندق أمام سلع، وسلع: جبل خلف ظهور المسلمين، والخندق بينهم وبين الكفار.
وقال الشيخ أبو الحسن الندوي:
وقد تم حفر الخندق من شمالي المدينة الشرقي إلى غربيها، وكان حده الشرقي طرف حرة واقم، وحده الغربي غربي وادي بطحان، حيث طرف الحرة الغربية (حرة الوبرة) - انظر الخارطة بعد صفحات.
وقسم رسول الله صلى الله عليه وسلم الخندق بين أصحابه، لكل عشرة منهم أربعين ذراعاً، وقد
بلغ طول الخندق حوالي خمسة آلاف ذراع، وعمقه من سبعة أذرع إلى عشرة، والعرض من تسعة إلى ما فوقها. أهـ.
قال ابن القيم: "ونقضت قريظة العهد واشتد الأمر على المسلمين. وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في ثلاثة آلاف من المسلمين، فتحصن بالجبل من خلفه، وبالخندق أمامهم.
وأقام المشركون محاصرين رسول الله صلى الله عليه وسلم شهراً، ولم يكن بينهم قتال لأجل ما حال الله به من الخندق بينهم وبين المسلمين، إلا أن فوارس من قريش، منهم عمرو بن عبد ود وجماعة معه أقبلوا نحو الخندق، فلما وقفوا عليه، قالوا: إن هذه مكيدة ما كانت العرب تعرفها، ثم تيمموا مكاناً ضيقاً من الخندق، فاقتحموه، وجالت بهم خيلهم في السبخة بين الخندق وسلع، ودعوا إلى البراز، فانتدب لعمرو علي بن أبي طالب رضي الله عنه، فبارزه، فقتله الله على يديه، وكان من شجعان المشركين وأبطالهم، وانهزم الباقون إلى أصحابهم، وكان شعار المسلمين يومئذ (حم لا ينصرون). أهـ.
قال الغزالي في فقه السيرة: قال موسى بن عقبة: وأحاط المشركون بالمسلمين حتى جعلوهم في مثل الحصن من كتائبهم. فحاصروهم قريباً من عشرين ليلة، وأخذوا بكل ناحية حتى لا يدرى: أثم هم أم لا؟ - هل احتلوا البلد أم لا؟ قال: ووجهوا نحو منزل (1) رسول الله صلى الله عليه وسلم كتيبة غليظة فقاتلها المسلمون يوماً إلى الليل، فلما حانت صلاة العصر دنت الكتيبة - من المنزل - فلم يقدر النبي عليه الصلاة والسلام ولا أحد من أصحابه، أن يصلوا الصلاة على نحو ما أرادوا.
وانكفأت الكتيبة المشركة مع الليل، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "شغلونا عن صلاة العصر ملأ الله بطونهم وقلوبهم ناراً (2). أهـ.
(1) منزل رسول الله صلى الله عليه وسلم: المراد به: مكان نزوله.
(2)
البخاري (8/ 195) - 65 - كتاب تفسير 42 - باب (حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى) عن علي رضي الله عنه.
ومسلم (1/ 437) 5 - كتاب المساجد ومواضع الصلاة - 36 - باب الدليل لمن قال الصلاة الوسطى هي صلاة العصر. عن علي أيضاً.
قال ابن القيم: ولما طالت هذه الحال على المسلمين، أراد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يصالح عيينة بن حصن، والحارث بن عوف رئيسي غطفان، على ثلث ثمار المدينة، وينصرفا بقومهما، وجرت المراوضة على ذلك، فاستشار السعدين في ذلك، فقالا: يا رسول الله! إن كان الله أمرك بهذا، فسمعاً وطاعة، وإن كان شيئاً تصنعه لنا، فلا حاجة لنا فيه. أهـ.
ثم إن الله عز وجل أنهى هذا الابتلاء العظيم بخدعة من نعيم بن مسعود وبإلقاء الرعب وتسليط الريح فانسحبت الأحزاب.
قال ابن القيم: وأرسل الله على المشركين جنداً من الريح، فجعلت تقوض خيامهم، ولا تدع لهم قدراً إلا كفأتها، ولا طنباً، إلا قلعته، ولا يقر لهم قرار، وجند الله من الملائكة يزلزلونهم. ويلقون في قلوبهم الرعب والخوف، وأرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم حذيفة بن اليمان يأتيه بخبرهم، فوجدهم على هذه الحال، وقد تهيؤوا للرحيل. فرجع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأخبره برحيل القوم. فأصبح رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد رد الله عدوه بغيظه، لم ينالوا خيراً، وكفاه الله قتالهم، فصدق وعده، وأعز جنده، ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده، فدخل المدينة ووضع السلاح، فجاءه جبريل عليه السلام، وهو يغتسل في بيت أم سلمة، فقال: أوضعتم السلاح؟! إن الملائكة لم تضع بعد أسلحتها، انهض إلى غزوة هؤلاء، يعني بني قريظة، فنادى رسول الله صلى الله عليه وسلم:"من كان سامعاً مطيعاً، فلا يصلين العصر إلا في بني قريظة"، فخرج المسلمون سراعاً، واستشهد يوم الخندق ويوم قريظة نحو عشرة من المسلمين.
وأما قريظة، فكانت أشد اليهود عداوة لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وأغلظهم كفراً ولذلك جرى عليهم ما لم يجر على إخوانهم.
وكان سبب غزوهم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما خرج إلى غزوة الخندق والقوم معه صلح، جاء حيي بن أخطب إلى بني قريظة في ديارهم، فقال: قد جئتكم بعز الدهر، جئتكم بقريش على سادتها، وغطفان على قادتها، وأنتم أهل الشوكة والسلاح، فهلم حتى نناجز محمداً ونفرغ منه. فقال له رئيسهم: بل جئتني والله بذل الدهر، جئتني بسحاب قد أراق ماءه. فهو
يرعد ويبرق، فلم يزل حيي يخادعه ويعده ويمنيه حتى أجابه بشرط أن يدخل معه في حصنه، يصيبه ما أصابهم، ففعل، ونقضوا عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأظهروا سبه، فبلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم الخبر، فأرسل يستعلم الأمر، فوجدهم قد نقضوا العهد، فكبر وقال:"أبشروا يا معشر المسلمين" أهـ.
تم جلا الأحزاب كما مر، وحاصر رسول الله صلى الله عليه وسلم قريظة حتى نزلوا على حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فحكم فيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم سعد بن معاذ مراعاة للأوس حلفائهم في الجاهلية فحكم أن يقتل الرجال وتسبى الذرية وتقسم الأموال ونفذ رسول الله صلى الله عليه وسلم الحكم.
وبمناسبة الكلام عن غزوة قريظة ذكر الشيخ أبو الحسن الندوي بالعهود التي كانت بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين بني قريظة، كما ذكر أن أحكام التوراة الحالية لا تخرج عما فعله رسول الله صلى الله عليه وسلم بهم وإنما يذكر بذلك - حفظه الله - من باب الرد على احتمالات النقد التي يمكن أن يشنها اليهود أو من يتأثر بهم. قال:
كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لما قدم المدينة، كتب كتاباً بين المهاجرين والأنصار، وادع فيه يهود وعاهدهم، وأقرهم على دينهم وأموالهم، وشرط لهم، واشترط عليهم، وجاء فيه:"أنه من تبعنا من يهود، فإن له النصرة والأسوة غير مظلومين ولا متناصرين عليهم، وأنه لا يجير مشرك مالاً لقريش ولا نفساً، ولا يحول دونه على مؤمن، وأن اليهود ينفقون مع المؤمنين ما داموا محاربين، وأن قبائل يهود أمة مع المؤمنين، لليهود دينهم، وللمسلمين دينهم مواليهم وأنفسهم".
وجاء فيه: "أن بينهم النصر على من حارب أهل هذه الصحيفة وأن بينهم النصح والنصيحة والبر دون الإثم، وأن بينهم النصر على من دهم يثرب".
ولكن حيي بن أخطب اليهودي - سيد بني النضير - نجح في حمل بني قريظة على نقض العهد، وممالأة قريش، بعد ما قال سيدهم كعب بن أسد القرظي: لم أر من محمد إلا صدقاً ووفاء ونقض كعب بن أسد عهده، وبرئ مما كان بينه وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وكان ما عامل به رسول الله صلى الله عليه وسلم بني قريظة مما اقتضته سياسة الحرب وطبيعة
القبائل العربية واليهودية، وكان لابد من عقوبة صارمة تكون درساً للعابثين بالعهود والمحالفات ونكالاً لما بين يديها وما خلفها، يقول R. V. C، Bodley في كتابه "حياة محمد الرسول":
"كان محمد وحيداً في بلاد العرب وكانت هذه البلاد نم حيث المساحة ثلث الولايات المتحدة الأمريكية، وكان عدد النفوس فيها يبلغ خمسة ملايين نفس
…
ولم يكن عنده من الجيوش التي تحمل الناس على امتثال أمره إلا الجيش الذي لا يزيد على ثلاثة آلاف جندي، ولم يكن هذا الجيش مسلحاً تسليحاً كاملاً، فإذا وهن محمد في هذه القضية أو ترك جريمة غدر بني قريظة من غير أن يعاقبهم عليها، لم يكن للإسلام في جزيرة العرب بقاء، غنه لا شك أن عملية قتل اليهود كانت عنيفة، ولكن لم يكن ذلك حادثاً فريداً من نوعه في تاريخ الديانات، وقد كان لهذا العمل مبرر من وجهة نظر المسلمين، وقد تحتم الآن على القبائل العربية واليهود أن يتأملوا مرة بعد مرة قبل أن يقدموا إلى غدر أو نقض عهد، لأنهم قد عرفوا عواقبه الوخيمة وشاهدوا أن محمداً يستطيع أن ينفذ ما يريده.
وقد كان من فوائد القضاء على آخر حصن من حصون اليهود في المدينة الضعف الذي طرأ على معسكر النفاق، ونشاط المنافقين، فقد اثر ذلك في معنويتهم، وأفقدهم الشيء الكثير من الثقة، والآمال الواسعة، فقد كانوا آخر معقل من معاقلهم الكبيرة، يقول الدكتور إسرائيل ولفنسون معلقاً على غزوة بني قريظة:
"وأما المنافقون فقد خفت صوتهم بعد يوم قريظة، ولم نعد نسمع لهم أعمالاً أو أقوالاً تناقض إرادة النبي وأصحابه، كما كان يفهم ذلك من قبل".
وقد وافق ذلك قانون الحرب في شريعة بني إسرائيل، فقد جاء في سفر التثنية (الإصحاح العشرون 10 - 11 - 12 - 13):
"حين تقرب من مدينة لكي تحاربها استدعها إلى الصلح، فإن أجابتك إلى الصلح، وفتحت لك فكل الشعب الموجود فيها يكون لك للتسخير، ويستعبد لك، وإن لم تسالمك، بل عملت معك حرباً، فحاصرها، وإذا دفع الرب إلهك إلى يدك، فاضرب جميع