الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
475 -
* روى أبو داود عن عائشة رضي الله عنها قالت: لم يقتل من نسائهم - تعني بني قريظة إلا امرأة، إنها لعندي تحدث، تضحك ظهراً وبطناً، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقتل رجالهم بالسيوف، إذ هتف هاتف باسمها: أين فلانة؟ قالت: أنا، قلت: وما شأنك؟ قالت: حدث أحدثته، قالت فانطلق بها فضربت عنقها، فما أنسى عجباً منها: أنها تضحك ظهراً وبطناً، وقد علمت أنها تقتل.
476 -
* روى البخاري ومسلم عن عائشة رضي الله عنها في قوله تعالى: (إذ جاءوكم من فوقكم ومن أسفل منكم وإذ زاغت الأبصار وبلغت القلوب الحناجر)(1) قالت: كان ذلك يوم الخندق.
* * *
فوائد من غزوتي الأحزاب وقريظة
1 -
في هاتين الغزوتين تظهر لك الكفاءة النبوية العالية، وتظهر المعجزات الخارقات، والمعجزات والكمالات هما النبوة والرسالة، وكثيرون من الناس وهم يتحدثون عن محمد عليه الصلاة والسلام لا يحسنون العرض المتكامل فهم إما يبرزون الكفاءة على حساب المعجزة، وإما يظهرون المعجزة على حساب الكفاءة، مع أن الكفاءة والمعجزة توأمان في حق الأنبياء جميعاً، وذلك كله مظهر الحكمة الربانية في اختيار الرسل، ومظهر التأييد الرباني للرسل عليهم الصلاة والسلام، فهم بين توفيق وتأييد معجز أو سببي، ولكن يبقى لعالم الأسباب في حياة الرسل عليهم الصلاة والسلام محله العريض لأن الأصل في
475 - أبو داود (3/ 54)، كتاب الجهاد، باب في قتل النساء، وإسناده حسن.
حدث: قال الخطابي: يقال إن الحدث الذي أحدثته: أنها شتمت النبي صلى الله عليه وسلم، وذكر ابن هشام في الحديث الذي أحدثته: أنها قتلت صحابياً هو خلاد بن سويد طرحت عليه الرحا.
476 -
البخاري (7/ 399)، 64 - كتاب المغازي 29 - باب غزوة الخندق، وهي الأحزاب.
ومسلم (4/ 2316)، 54 - كتاب التفسير، حديث (3030).
زاغت الأبصار: مالت عن مكانها، وذلك كما يعرض للإنسان عند الخوف.
الحناجر: جمع الحنجرة، وهي الحلقوم.
(1)
الأحزاب: 10.
التكليف ليس الخارق وإنما هو عالم الأسباب، والرسل هم القدوة، والناس عامة محكومون بعالم الأسباب، ولذلك فأنت عندما تدرس المعجزات التي حدثت في هذه المرحلة لا تجدها تؤثر على قضايا الاقتداء المرتبطة بعالم الأسباب، بمعنى أن ما حدث في هاتين الغزوتين يمكن إدخاله في دائرة التفكير والتدبير والاستعانة بالله أولاً وأخيراً، وبعضه لرسول الله صلى الله عليه وسلم معجزة خاصة، وبعضه معجزة لرسول الله صلى الله عليه وسلم ويمكن أن تطلبه من الله، وفضل الله واسع، مثال ذلك: تكثير الطعام القليل هو لرسول الله صلى الله عليه وسلم معجزة ونحن علينا أن ندبر الطعام لجندنا وهذا جزء من القدوة، والريح كانت معجزة لرسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن ندعو الله أن يؤيدنا بما لا نحتسب، وفضل الله واسع.
2 -
وحول الخندق قال السباعي رحمه الله:
وفي قبوله صلى الله عليه وسلم إشارة سلمان بحفر الخندق، وهو أمر لم تكن تعرفه العرب من قبل، دليل على أن الإسلام لا يضيق ذرعاً بالاستفادة مما عند الأمم الأخرى من تجارب تفيد الأمة وتنفع المجتمع، فلا شك أن حفر الخندق أفاد إفادة كبرى في دفع خطر الأحزاب عن المدينة، وقبول رسول الله هذه المشورة، دليل على مرونته صلى الله عليه وسلم. واستعداده لقبول ما يكون عند الأمم الأخرى من أمور حسنة، وقد فعل الرسول مثل ذلك أكثر من مرة، فلما أراد إنفاذ كتبه إلى الملوك والأمراء والرؤساء قيل له: إن من عادة الملوك ألا يقبلوا كتاباً إلا إذا كان مختوماً باسم مرسله، فأمر على الفور بنقش خاتم له كتب عليه: محمد رسول الله، وصار يختم به كتبه، ولما جاءته الوفود من أنحاء العرب فتح مكة تعلن إسلامها، قيل له: يا رسول الله إن من عادة الملوك والرؤساء أن يستقبلوا الوفود بثياب جميلة فخمة، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تشترى له حلة يستقبل بها الوفود، وهذا هو صنيع الرسول الذي أرسل بآخر الأديان وأبقاها إلى أبد الدهر، فإن مما تحتمه مصلحة أتباعه في كل زمان وفي كل بيئة أن يأخذوا بأحسن ما عند الأمم الأخرى، مما يفيدهم، ولا يتعارض مع أحكام شريعتهم وقواعدها العامة، والامتناع عن ذلك جمود لا تقبله طبيعة الإسلام الذي يقول في دستوره الخالد:(فبشر عباد * الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه)(1) ولا طبيعة
(1) الزمر: 17، 18.
رسوله الذي رأينا أمثلة عما أخذ من الأمم الأخرى، ولهذا قيل:(الحكمة ضالة المؤمن يلتمسها أنى وجدها)(1) ويوم غفل المسلمون في العصور الأخيرة، وخاصة بعد عصر النهضة الأوربية عن هذا المبدأ العظيم في الإسلام، وقاوموا كل إصلاح مأخوذ عن غيرهم مما هم في أشد الحاجة إليه، أصيبوا بالانهيار، وتأخروا من حيث تقدم غيرهم (ولله عاقبة الأمور)(2). أهـ.
3 -
قال الشيخ الغزالي حفظه الله:
إن معركة الأحزاب لم تكن معركة خسائر بل معركة أعصاب فقتلى الفريقين من المؤمنين والكفار يعدون على الأصابع. ومع تلك الحقيقة فهي من أحسم المعارك في تاريخ الإسلام إذ إن مصير هذه الرسالة العظمى كان فيها أشبه بمصير رجل يمشي على حافة قمة سامقة، أو حبل ممدود، فلو اختل توازنه لحظة وفقد السيطرة على موقفه، لهوى من مرتفعه إلى واد سحيق، ممزق الأعضاء، ممزع الأشلاء! ولقد أمسى المسلمون وأصبحوا فإذا هم كالجزيرة المنقطعة وسط طوفان يتهددها بالغرق ليلاً أو نهاراً. وبين الحين والحين يتطلع المدافعون: هل اقتحمت خطوطهم في ناحية ما من منطقة الدفاع؟ وكان المشركون يدورون حول المدينة غضاباً يتحسسون نقطة ضعيفة لينحدروا منها فينفسوا عن حنقهم المكتوم، ويقطعوا أوصال هذا الدين الثائر.
وعرف المسلمون ما يتربص بهم وراء هذا الحصار، فقرروا أن يرابطوا في مكانهم ينضحون بالنبل كل مقترب، ويتحملون لأواء هذه الحراسة التي تنتظم السهل والجبل، وتتسع ثغورها يوماً بعد يوم وهم كما وصف الله تعالى: (إذ جاءوكم من فوقكم ومن أسفل منكم وإذ زاغت الأبصار وبلغت القلوب الحناجر وتظنون بالله الظنونا * هنالك ابتلي
(1) الترمذي نحوه (5/ 51) 42 - كتاب العلم - 19 - باب ما جاء في فضل الفقه على العبادة، بلفظ:"الكلمة الحكمة ضالة المؤمن، فحيث وجدها فهو أحق بها". قال أبو عيسى: هذا حديث غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه، وإبراهيم بن الفضل المدني المخزومي، يضعف في الحديث من قبل حفظه.
وابن ماجه مثل رواية الترمذي (2/ 1395) 37 - كتاب الزهد - 15 - باب الحكمة.
(2)
الحج: 41.
المؤمنون وزلزلوا زلزالاً شديداً) (1) أهـ.
4 -
وقال الدكتور البوطي:
لقد كان من جملة الوسائل الحربية التي استعملها المسلمون في هذه الغزوة حفر الخندق، ولقد كانت غزوة الأحزاب أول غزوة في التاريخ العربي والإسلامي يحفر فيها الخنادق، إذ هو مما كان متعارفاً بين الأعاجم فقط، وقد رأيت أن الذي اقترح ذلك في غزوة الأحزاب إنما هو سلمان الفارسي، وقد رأيت أن النبي صلى الله عليه وسلم أعجب بهذه الوسيلة الحربية وسرعان ما دعا أصحابه إلى القيام بتحقيقها.
وهذا من جملة الأدلة الكثيرة التي تدل على أن الحكمة هي ضالة المؤمن، فحيثما وجدها التقطها بل هو أولى بها من غيره، وأن الشريعة الإسلامية بمقدار ما تكره للمسلمين اتباع غيرهم وتقليدهم على غير بصيرة، تحب لهم أن يجمعوا لأنفسهم أطراف الخير كله والمبادئ المفيدة جميعها، أينما لاح لهم ذلك، وحيثما وجد. فالقاعدة الإسلامية العامة في هذا الصدد، هي أن لا يعطل المسلم عقله الحر وتفكيره الدقيق في سلوكه وعامة شؤونه وأحواله، وإذا كان المسلم كذلك، فهو ولا ريب، لا يمكن أن يربط في عنقه زماماً يسلم طرفه للآخرين فيقودوه حيثما أرادوا بدون وعي ولا بصيرة، وهو أيضاً لا يمكن أن يتجاهل أي مبدأ أو عمل أو نظام يسلم به العقل النير والفكر الحر وينسجم مع مبادئ الشريعة الإسلامية، ليتجاوزه ولا يتعب نفسه بأخذه والاستفادة منه.
وقد استنبط علماء الحديث والسيرة من قصة بني قريظة هذه أحكاماً هامة نجملها فيما يلي:
أولاً - (جواز قتال من نقض العهد)، وقد جعل الإمام مسلم رحمه الله هذا الحكم عنواناً لغزوة بني قريظة، فالصلح والمعاهدة والاستئمان بين المسلمين وغيرهم، كل ذلك ينبغي احترامه والتزامه على المسلمين، ما لم ينقض الآخرون العهد أو الصلح أو الأمان
(1) الأحزاب: 10، 11.
وحينئذ يجوز للمسلمين قتالهم إن رأوا المصلحة في ذلك.
ثانياً - (جواز التحكيم في أمور المسلمين ومهامهم)، قال النووي رحمه الله: فيه جواز التحكيم في أمور المسلمين وفي مهامهم العظام والرجوع في ذلك إلى حكم مسلم عادل صالح للحكم، وقد أجمع العلماء عليه في شأن الخوارج، فإنهم أنكروا على علي التحكيم، وأقام الحجة عليهم.
وفيه جواز مصالحة أهل قرية أو حصن على حكم حاكم مسلم عدل صالح للحكم أمين على هذا الأمر، وعليه الحكم بما فيه مصلحة للمسلمين، وإذا حكم بشيء لزم حكمه، ولا يجوز للإمام ولا لهم الرجوع، ولهم الرجوع قبل الحكم.
ثالثاً - (مشروعية الاجتهاد في الفروع وضرورة وقوع الخلاف فيها)، وفي اختلاف الصحابة في فهم كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم:"ألا لا يصلين أحد العصر إلا في بني قريظة (1) " على النحو الذي روينا، مع عدم تعنيف النبي صلى الله عليه وسلم أحداً نهم أو معاتبته - دلالة هامة على أصل من الأصول الشرعية الكبرى، وهو تقرير مبدأ الخلاف في مسائل الفروع، واعتبار كل من المتخالفين معذوراً ومثاباً، سواء قلنا إن المصيب واحد أو متعدد كما أن فيه تقريراً لمبدأ الاجتهاد في استنباط الأحكام الشرعية. وفيه ما يدل على أن استئصال الخلاف في مسائل الفروع التي تنبع من دلالات ظنية، أمر لا يمكن أن يتصور أو يتم، فالله سبحانه وتعالى تعبد عباده بنوعين من التكاليف:
أحدهما: تطبيق أوامر معينة واضحة تتعلق بالعقيدة أو السلوك.
ثانيهما: البحث وبذل الجهد ابتغاء فهم المبادئ والأحكام الفرعية من أدلتها العامة المختلفة، فليس المطلوب ممن أدركته الصلاة في بادية التبست عليه جهة القبلة فيها، أكثر من أن تتجلى عبوديته لله تعالى في أن يبذل كل ما لديه من وسع لمعرفة جهة القبلة حسب فهمه وما يبدو له من أدلة، حتى إذا سكنت نفسه إلى جهة ما، استقبلها فصلى إليها.
(1) سبق تخريجه في صفحة (90) من هذا الجزء.
ثم إن هنالك حكماً باهرة لمجيء كثير من الأدلة والنصوص الشرعية ظنية الدلالة غير قطعية. من أبرزها، أن تكون الاجتهادات المختلفة في مسألة ما، كلها وثيقة الصلة بالأدلة المعتبرة شرعاً، حتى يكون للمسلمين متسع في الأخذ بأيها شاءوا حسبما تقتضيه ظروفهم ومصالحهم المعتبرة وتلك من أجلى مظاهر رحمة الله بعباده، في كل عصر وزمن.
وإذا تأملت هذا، علمت أن السعي في محاولة القضاء على الخلاف في مسائل الفروع، معاندة للحكمة الربانية والتدبير الإلهي في تشريعه، عدا أنه ضرب من العبث الباطل. إذ كيف تضمن انتزاع الخلاف في مسألة ما ما دام دليلها ظنياً محتملاً؟ لو أمكن ذلك أن يتم في عصر ما، لكان أولى العصور به عصر رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكان أولى الناس بأن لا يختلفوا هم أصحابه، فما بالهم اختلفوا مع ذلك كما قد رأيت؟! أهـ.
* * *