الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فوائد عامة من أحداث السنة السادسة
1 -
حسن التعامل مع النفس البشرية شرط النجاح في العمل السياسي أو العسكري أو التربوي أو التعليمي أو الإداري أو الإعلامي، بل عمم ذلك على كل شيء في الحياة البشرية فمن لا يحسن التعامل مع النفس البشرية ساقط حكماً في القيادة. والذين يحسنون التعامل مع النفس البشرية نوعان: فنوع يتعامل معها من خلال أهوائها وغرائزها وشهواتها وهؤلاء هم الأخس من القادة، ونوع يحسن التعامل معها من خلال معرفتها وإدراك جوانب الخير فيها والارتقاء بهذه الجوانب، ومحمد صلى الله عليه وسلم من بين هؤلاء هو المثل الأعلى، فهو أكثر خلق الله إدراكاً للنفوس ومعرفة بها، وهو أكثر خلق الله معرفة بالتعامل مع النفوس في أي موطن، وبذلك نجح في إيصال دعوته إلى القلوب ونجح في الانتقال بالأنفس من طور إلى طور على مستوى الأفراد وعلى مستوى الأمة، وهذا شيء تلحظه في الصغيرة والكبيرة من تصرفاته، ولقد مرت معنا في أحداث هذه السنة أكثر من حادثة تعتبر نموذجاً على ما ذكرناه، فحادثة ثمامة بن أثال واستخراج الإيمان منه، وحادثة إثارة الإبل في وجه سيد الأحابيش تعتبران نموذجين كاملين على ما ذكرناه، ففي حادثة ثمامة تجد طريقة من التعامل مع عدو شديد العداوة وتتمخض عن إيمان وحب، ومع أنه عليه الصلاة والسلام في الظاهر لم يدعه ولم يناقشه، وحادثة إثارة البدن في وجه سيد الأحابيش نقلت الأحابيش كلهم من الضدية إلى المعية دون أن يجري أي حوار، إنك عندما تتأمل حياته عليه الصلاة والسلام تجد من أبرز معانيها القدرة العليا على التعامل مع النفس البشرية ومن ثم نجح رسول الله صلى الله عليه وسلم النجاح الذي لم يعرفه غيره إلا لماما، ولا غرابة فمن جملة مهماته عليه الصلاة والسلام كما حددها القرآن:
{ويزكيكم} وكيف يستطيع التزكية من لا يعرف النفس البشرية ويحسن التعامل معها، انظر كيف تعامل مع فتنة المنافقين يوم قال قائل يا للأنصار وقال الآخر يا للمهاجرين، وكيف أنه أنهى هذه الفتنة الكبيرة من خلال الحركة السريعة المباشرة المتقنة فصرف الأذهان عما حدث.
إن حسن التعامل مع النفس البشرية يقتضي من صاحبه أن يتصرف مع كل نفس بما
يناسب وضعها وبما يحقق مردوداً على الجماعة وبما ترتقي به هذه النفس وأن يتصرف القائد مع كل الناس التصرف المناسب للمقام بما يلائم الحال وبما تتقبله النفوس وبما يحقق مردوداً للأمة وبما يقرب من الهدف القريب والبعيد دنيا وأخرى فهذا شيء فوق الطلاقة، ولا أعرف أحداً في تاريخ هذا العالم وصل في هذا كله إلى بعض ما وصل فيه محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم وذلك من توفيق الله.
2 -
القادة قسمان: فقسم لا يستشير وهذا مآله إلى الدمار أو التدمير، وقسم يستشير وهؤلاء نوعان: نوع يستفيد من الشورى، ونوع تضيعه الشورى، فالذي يستفيد من الشورى هو الذي يستطيع أن يدرك بسرعة الرأي الصحيح فيأخذ به ويرجحه من أين أتى هذا الرأي، أما النوع الآخر فهؤلاء تتجاذبهم الآراء ذات اليمين وذات الشمال، وكثيراً ما يفرطون وكثيراً ما تذهب أوقاتهم سدى وكثيراً ما يتبنون الرأي الأضعف. أما رسول الله صلى الله عليه وسلم فلقد كان أكثر الناس استشارة - هذا مع أنه يوحى إليه - وفي الوقت نفسه كان أكثر خلق الله إدراكاً لسلامة الرأي، وأكثر خلق الله مسارعة للأخذ بالرأي الراجح ولعل موقفه من رأى أم سلمة يوم الحديبية يمثل هذا الجانب الذي ذكرناه، ولكنه ليس موقفاً يتيماً، فموقفه من رأي الحباب بن المنذر يوم بدر، وموقفه من اقتراح سلمان يوم الخندق كل ذلك نماذج على ما ذكرناه.
3 -
يكثر الكلام في عصرنا على الاستراتيجية والتكتيك، والمراد بالاستراتيجية الموقف الأحكم في قضية ما على ضوء النظرة الشاملة والبعيدة المدى، والمراد بالتكتيك الحركة الآنية التي تناسب المقام، والقائد الناجح هو الذي يدرك الموقف الاستراتيجي الأجود ويتحرك حركة آنية مناسبة على ضوء ذلك ومن فاته إدراك الموقف الاستراتيجي الأحكم أو التكتيك المناسب الأسلم في موقف ما خسر أو فشل، وكثيراً ما يسقط قادة في التكتيك، أو في الاستراتيجية، وبعض القادة تطريهم النجاحات الجزئية فيسقطون في النهاية لتفضيلهم ما هو تكتيكي على ما هو استراتيجي، ومحمد صلى الله عليه وسلم من بين القادة - كان أعظم الخلق على الإطلاق في الرؤية الشاملة البعيدة المدى وكان أعظم خلق الله في الإدارة الناجحة والحركة الصحيحة في كل موقف، وصلح الحديبية والتحرك قبله وبعده يعطيك نموذجاً على ذلك، فلقد مهد
لهذا الصلح وتجنب الصدام المباشر مع خالد وغيره قبله وتنازل لقريش حتى أرضاها فيما ظاهره ضعف وباطنه قوة، وبما أنهى قريشاً من الناحية الاستراتيجية وأعطاه مركز القيادة إلى الأبد، ذلك بعض مظاهر الكمال في شخصيته عليه الصلاة والسلام وكيف لا يكون كذلك وهو رسول الله صلى الله عليه وسلم الخاتم.
4 -
نلاحظ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أمضى صلح الحديبية على كره من أصحابه فهل هذا دليل لمن يقول بعدم إلزامية الشورى؟ والذي نقوله في هذا المقام ما يلي:
لقد استشار رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه في الطريق في تثبيت الأحابيش فلما أشار أبو بكر عليه بألا يفعل ترك ذلك، فهناك طرح الأمر على الشورى ونزل على رأي مستشاره الأول، لكن نلاحظ أنه في صلح الحديبية فاوض وأمضى الأمر ولم يطرح المسألة على الشورى أصلاً فما السبب في ذلك؟ الأمر يدور عندنا على ثلاثة محامل:
المحمل الأول: أن ذلك كان بوحي وعندئذ فلا محل للشورى. وفي النصوص ما يشير إلى هذا من مثل (إني عبد الله لن أعصيه
…
). وقد تكون المسألة من باب الفهم عن الله دون وحي، ويشير إلى مثل هذا فهمه عليه الصلاة والسلام لبروك ناقته وأنه حبسها حابس الفيل، وتعليقه على ذلك أنه لن تدعوه قريش إلى أمر تعظم فيه حرمات الله إلا فعل.
المحمل الثاني: أنه أراد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يفهم الأمة أن هناك حالات ينبغي أن يعطى الإمام فيها فرصة البت في الأمور، وعلى هذا فعلى الأمة أن تستخرج من مجموع أفعاله وأقواله عليه الصلاة والسلام صلاحيات الإمام، ومتى تلزمه الشورى ومتى لا تلزمه، إن التفاوض مع العدو له أحكامه، فإن يظهر القائد التردد، أو أن يظهر في كل لحظة أنه بحاجة إلى استشارة خاصة والقائد هو رسول الله الذي يدعوهم إلى الإيمان بنبوته، كل ذلك له وزنه في فهم هذه الحادثة.
المحمل الثالث: أن الأمة الإسلامية وقتذاك في طور التأسيس والصحابة كلهم في حجر التربية ونحن نرى أنه ما دامت الجماعات الإسلامية في طور التأسيس، والأفراد في حجر
التربية؛ فالشورى وقتذاك معلمة لا ملزمة كما ذكرنا ذلك في كتابنا: (دروس في العمل الإسلامي) وبعد هذا نقول:
لا أرى أخطر على حاضر الإسلام ومستقبله من الفكرة التي تقول بعدم إلزامية الشورى دون تفصيل، بل إني أقول: إن المسلمين لم يؤتوا خلال تاريخهم إلا من هذه الفكرة، فبسبب هذه الفكرة انتقلت الأمة الإسلامية من خلافة راشدة إلى ملك عضوض، ومن توزيع عادل للأموال إلى تبديد للثروات في غير ما حق، ومن أنظمة ترضي الله ورسوله والمؤمنين إلى أنظمة يلعنها الله ورسوله والمؤمنون. إنه لابد من تقعيد لتنفيذ أمر الله {وشاورهم في الأمر} (1){وأمرهم شورى بينهم} (2) سواء لمرحلة ما قبل الحكم أو للحكم، وعلى ضوء ما يتفق عليه أهل الإسلام يكون السير.
إن هذا وحده هو الذي يسع عصرنا، ويسع العاملين للإسلام، نجد عشرة من الناس يلتقون على أمير، وشوراهم لأميرهم غير ملزمة، وآراء هؤلاء الأمراء متناقضة، فكيف يتحد المسلمون؟ وإذا اتحد المسلمون فهل يتحدون على مبادئ وقواعد؟ أو يتحدون على شخص؟ وإذا اتحدوا على شخص وليس بيده سلطة تنفيذية فهل آراؤه وحدها تسعهم إذا كانت الشورى غير ملزمة؟ وإذا وصل الإسلاميون إلى الحكم فهل الأمر يناط بشخص بلا قيد ولا شرط؟ أو أن الأمر يحتاج إلى ضوابط وقواعد؟ إن الذين يقولون بعدم إلزامية الشورى يضعون الأمة الإسلامية - وهي الآن في أخطر مرحلة - في إطار قدرات الأفراد وأمزجتهم؟ فأي سير للإسلام والمسلمين في عصرنا المعقد إذا ما سير على مثل هذا الاجتهاد؟!.
ترى هل يصل واحد من الناس الآن إلى مثل فضل معاوية بن أبي سفيان وهو صحابي؟ ومع ذلك جعل ابنه يزيد خليفة للمسلمين، من الذي يضمن ما دامت الشورى غير ملزمة أن يتصرف أمير مثل هذه التصرفات؟ ويا مسلمون اسمعوا وأطيعوا.
5 -
عندما يتهادن فريقان فهناك ثلاث صور:
(1) آل عمران: 159.
(2)
الشورى: 38.
الصورة الأولى: أن يكون لكل من الفريقين دعوة ورسالة.
الصورة الثانية: أن يكون لأحد الفريقين دعوة ورسالة وفكرة.
الصورة الثالثة: ألا يكون لكل من الفريقين دعوة ورسالة.
في الصورة الأولى: الفكر الأقوى هو الذي سينتصر إذا أتيح له دعاة متحمسون أقوياء، وفي الصورة الثانية: أصحاب الدعوة هم الرابحون إذا عملوا، وفي الصورة الثالثة: يتساوى الربح والخسارة عند الطرفين إذا تعادلوا باليقظة والسهر. من هنا نقول: إن يوم الحديبية كان ربحاً كله؛ لأنه كان هدنة بين أصحاب دعوة ورسالة وبين ناس ورثوا معاني وألفوها، ولذلك فإن الصف الإسلامي كان يتنامى على حساب الصف الآخر ومن هنا نرى أن أعداد المسلمين تضاعفت مرات بعد صلح الحديبية، وكل ذلك كان على حساب الصف الآخر، وهذه قضية ندر من يفطن لها، بل الغفلة عنها كانت عاملاً من عوامل انحسار الإسلام في عصرنا، فلقد وجدت على الأرض الإسلامية دعوات باطلة، في وقت خبت فيه روح الدعوة عند المسلمين وسكت المسلمون على هذه الدعوات وهادنتها حكومات فكان أن سجلت كثير من هذه الدعوات انتصارات على الأرض الإسلامية وقد ورثنا نحن ذلك والله المستعان.
أما رسول الله صلى الله عليه وسلم فذلك شأن آخر بأبي هو وأمي.
6 -
من وجهة النظر السياسية كان صلح الحديبية اعترافاً من مكة بدولة المدينة، واعترافاً من قريش بسلطان رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد أتبع رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا الأمر مباشرة إرساله الرسائل للملوك والأمراء فحقق بهذا أكثر من هدف: دعا هؤلاء إلى الله وهذا هو الهدف الأكبر، أشعر من لم يشعر من هؤلاء بوجوده، ليفكروا بتحديد موقف من الدين الجديد والدولة الناشئة، وضع أساساً للحركة السياسية والعسكرية المقبلتين في حياته أو بعد وفاته عليه الصلاة والسلام، أخرج الدعوة من إطارها العربي إلى إطارها العالمي.
7 -
ليس هناك من واجب على الحاكم يعدل واجب توفير الأمن للمواطن على عرضه وماله وحياته، ومن عرف جزيرة العرب في الجاهلية وطبيعة بداوتها وقسوة الحياة فيها