الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فانطلقنا به معنا بوصاحبنا الذي خلفناه قال: فأدركنا القوم حتى نظرنا إليهم ما بيننا وبينهم إلا الوادي على ناحيته موجهين ومن ناحية الأخرى في طلبنا إذ جاء الله به من حيث شاء ما رأينا قبل ذلك مطراً ما يقدر أحد على أن يجيزه، لقد رأيتهم وقوفاً ينظرون إلينا ونحن نحدوها ما يقدر رجل منهم أن يصل إلينا حتى إذا عرجناها ما أنسى قول راجز من المسلمين وهو يحدوها في أعقابها:
أبى أبو القاسم أن تعر بي
…
في خطل نباته مغلولب
صفر أعاليه كلون المذهب
* * *
سرية غالب الليثي إلى الحرقات من جهينة
وهي معروفة ببعث أسامة بن زيد:
578 -
* روى البخاري عن أبي ظبيان قال: سمعت أسامة بن زيد يقول: بعثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الحرقة، فصبحنا القوم فهزمناهم، ولحقت أنا ورجل من الأنصار رجلاً منهم، فلما غشيناه، قال: لا إله إلا الله، فكف الأنصاري فطعنته برمحي، حتى قتلته، فلما قدمنا، بلغ النبي صلى الله عليه وسلم، فقال:"يا أسامة، أقتلته بعد ما قال: لا إله إلا الله؟ " قلت: كان متعوذاً، فما زال يكررها حتى تمنيت أني لم أكن أسلمت قبل ذلك اليوم.
وفي رواية (1) قال: بعثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في سرية، فصبحنا الحرقات من جهينة،
578 - البخاري (7/ 517) 64 - كتاب المغازي - 45 - باب بعث النبي صلى الله عليه وسلم أسامة بن زيد إلى الحرقات من جهينة.
الحرقة: بطن من جهينة.
…
صبحنا القوم: هجمنا عليهم صباحاً.
غشيناه: أدركناه ولحقناه، كأنهم أتوه من فوقه.
متعوذاً: المتعوذ الملتجئ خوفاً من القتل. وفي مسلم معتصماً.
حتى تمنيت أني لم أكن أسلمت قبل ذلك اليوم: أي تمنى أن يكون ذلك الوقت أول دخوله في الإسلام، لأن الإسلام يجب ما قبله.
(1)
مسلم (1/ 96) 1 - كتاب الإيمان - 41 - باب تحريم قتل الكافر بعد أن قال: لا إله إلا الله.
فأدركت رجلاً، فقال: لا إله إلا الله. فطعنته، فوقع في نفسي من ذلك، فذكرته للنبي صلى الله عليه وسلم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"أقال: لا إله إلا الله. وقتلته؟ " قال: قلت: يا رسول الله، إنما قالها خوفاً من السلاح، قال:"أفلا شققت عن قلبه، حتى تعلم أقالها، أم لا؟ " فما زال يكررها علي، حتى تمنيت أني أسلمت يومئذ، قال: فقال سعد: وأنا والله لا أقتل مسلماً حتى يقتله ذو البطين - يعني: أسامة - قال: قال رجل: ألم يقل الله (وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة، ويكون الدين كله لله)(1).
فقال سعد: قد قاتلنا حتى لا تكون فتنة، وأنت وأصحابك تريدون أن تقاتلوا حتى تكون فتنة.
قال ابن الأثير:
قلت: هذا سعد المذكور في الحديث هو سعد بن أبي وقاص، وسبب هذا القول من سعد، أن أسامة لما سمع هذا القول من رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يقاتل مسلماً، ولا شهد شيئاً من الفتن الحادثة بين الصحابة، وكذلك سعد اعتزل عن الفتن، فلم يشهد منها شيئاً، وقال: إنني لا أقتل إلا من يقتله أسامة، وليس لقوله هذا في الحديث مدخل، ولا له به تعلق.
* * *
قال في الفتح: وهذه السرية يقال لها سرية غالب بن عبد الله الليثي، وكانت في رمضان سنة سبع فيما ذكره ابن سعد عن شيخه، وكذا ذكره ابن إسحاق في المغازي (حثني شيخ من أسلم عن رجال من قومه قالوا: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم غالب بن عبد الله الكلبي ثم الليثي إلى أرض بني مرة وبها مرداس بن نهيك حليف لهم من بني الحرقة فقتله أسامة) فهذا يبين السبب في قول أسامة (بعثنا إلى الحرقات من جهينة) والذي يظهر أن قصة الذي قتل ثم مات فدفن ولفظته الأرض غير قصة أسامة، لأن أسامة عاش بعد ذلك دهراً طويلاً، وترجم البخاري في المغازي (بعث النبي صلى الله عليه وسلم أسامة بن زيد إلى الحرقات من جهينة) فجرى الداودي في شرحه على ظاهره فقال فيه (تأمير من لم يبلغ) وتعقب من وجهين: أحدهما أنه ليس فيه تصريح بأن أسامة كان الأمير إذ يحتمل أن يكون جعل
(1) الأنفال: 39.
الترجمة باسمه لكونه وقعت له تلك الواقعة لا لكونه كان الأمير، والثاني أنها إن كانت سنة سبع أو ثمان فما كان أسامة يومئذ إلا بالغاً لأنهم ذكروا أنه كان له لما مات النبي صلى الله عليه وسلم ثمانية عشر عاماً.
قوله (أقتلته بعد ما قال) في رواية الكشميهني (بعد أن قال) قال ابن التين: في هذا اللوم تعليم وإبلاغ في الموعظة حتى لا يقدم أحد على قتل من تلفظ بالتوحيد، وقال القرطبي: في تكريره ذلك والإعراض عن قبول العذر زجر شديد عن الإقدام على مثل ذلك. وقال الخطابي: لعل أسامة تأول قوله تعالى (فلم يك ينفعهم إيمانهم لما رأوا بأسنا)(1) ولذلك عذره النبي صلى الله عليه وسلم فلم يلزمه دية ولا غيرها. قلت: كأنه حمل نفي النفع على عمومه دنيا وأخرى، وليس ذلك المراد، والفرق بين المقامين أنه في مثل تلك الحالة ينفعه نفعاً مقيداً بأن يجب الكف عنه حتى يختبر أمره هل قال ذلك خالصاً من قلبه أو خشية من القتل، وهذا بخلاف ما لو هجم عليه الموت ووصل خروج الروح إلى الغرغرة وانكشف الغطاء فإنه إذا قالها لم تنفعه بالنسبة لحكم الآخرة وهو المراد من الآية، وأما كونه لم يلزمه دية ولا كفارة فتوقف فيه الداودي وقال: لعله سكت عنه لعلم السامع أو كان ذلك قبل نزول آية الدية والكفارة، وقال القرطبي: لا يلزم من السكوت عنه عدم الوقوع، لكن فيه بعد لأن العادة جرت بعدم السكوت عن مثل ذلك إن وقع، قال: فيحتمل أنه لم يجب عليه شيء لأنه كان مأذوناً له في أصل القتل فلا يضمن ما أتلف من نفس ولا مال كالخاتن والطبيب، أو لأن المقتول كان من العدو ولم يكن له ولي من المسلمين يستحق ديته، قال: وهذا يتمشى على بعض الآراء، أو لأن أسامة أقر بذلك ولم تقم بذلك بينة فلم تلزم العاقلة الدية وفيه نظر. قال ابن بطال: كانت هذه القصة سبب حلف أسامة أن لا يقاتل مسلماً بعد ذلك، ومن ثم تخلف عن علي في الجمل وصفين قلت: وكذا وقع في رواية الأعمش المذكورة أن سعد بن أبي وقاص كان يقول: لا أقاتل مسلماً حتى يقاتله أسامة. واستدل به النووي على رد الفرع الذي ذكره الرافعي فيمن رأى كافراً أسلم فأكرم إكراماً كثيراً، فقال: ليتني كنت كافراً فأسلمت لأكرم، فقال الرافعي: يكفر بذلك، ورده
(1) غافر: 85.
النووي بأنه لا يكفر لأنه جازم الإسلام في الحال والاستقبال وإنما تمنى ذلك في الحال الماضي مقيداً له بالإيمان ليتم له الإكرام واستدل بقصة أسامة ثم قال: ويمكن الفرق. اهـ.
* * *