الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وفي رواية صحيحة (1) قال ابن عمر: ولها يقول حسان بن ثابت:
وهان على سراة بني لؤي
…
حريق بالبويرة مستطير
زاد في رواية (2) قال: فأجابه أبو سفيان بن الحارث:
أدام الله ذلك من صنيع
…
وحرق في نواحيها السعير
ستعلم أينا منها بنزه
…
وتعلم أي أرضينا تضير
تعليقات على حادثة النضير:
سجل الله حادثة النضير في كتابه فأنزل فيها سورة كاملة، هي سورة الحشر التي أسماها ابن عباس سورة النضير، ومن ثم فإن النضير من الحوادث الخالدات التي يحتاج المسلمون على مدى العصور إلى معرفة دروسها وأخذ عبرها، فهي حادثة تمرد وغدر داخليين تقوم بهما فئة معاهدة من غير المسلمين، فلما أراد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يؤدبها تعاطف معها منافقون، ظاهرهم مسلمون، إن هذا الوضع يمكن أن يحدث في كل زمان وفي كل مكان، فكيف تصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ وما هي السنة التي تحكم ذلك؟ وما حكم أموال المتمردين الغادرين ونسائهم؟ وماذا يجوز لنا في هذا الشأن؟ كل ذلك بعض ما في سورة النضير التي تحدثت عن غزوتها، وهذه بعض دروس الغزوة والسورة:
1 -
إن تلاحم الكافرين والمنافقين على الأرض الإسلامية لا شك فيه، وأنت عليك أن تستهدف الكفر فإذا ما استطعت أن تنتصر عليه فقد انتهت قيمة المنافقين السياسية والعسكرية، ولذلك يجب أن تضع نصب عينيك أن السيطرة على الكفر هي الهدف، وفي الغالب فإن المنافقين لن ينتقلوا من القول إلى الفعل إلا في حالة واحدة هي أن تضمهم جميعاً
(1) البخاري (7/ 329) 64 - كتاب المغازي - 14 - باب حديث بني النضير.
سراة: السراة جمع سري، وهو النفيس الشريف على غير قياس.
مستطير: استطار الضوء وغيره: إذا تفرق واتسع.
(2)
البخاري في نفس الرواية السابقة.
بنزه: أي: ببعد، وفلان يتنزه عن الفحش، أي: يبعد عنه.
تضير: ضارة يضيره ضيراً، مثل: ضره يضره ضراً.
حصون يقاتلون من خلالها. وإذن فلا ينبغي أن تعطيهم فرصة التجمع والتحصن.
2 -
ومما حدث في إجلاء بني النضير وبما نزل من آيات الله في ذلك نعرف صورة مما يمكن أن تفعله الدولة الإسلامية الراشدة في المواطنين غير المسلمين إذا تأكد لنا غدرهم.
3 -
ومن تعليقات الدكتور البوطي على حادثة النضير ما يلي:
قطع نخيل بني النضير وإحراقها، ثبت بالاتفاق. والذي أتلفه الرسول صلى الله عليه وسلم من ذلك غنما هو البعض ثم ترك الباقي. وقد نزل القرآن تصويباً لما أقدم عليه النبي صلى الله عليه وسلم من ذلك: قطعاً وإبقاء، وذلك في قوله تعالى:(ما قطعتم من لينة أو تركتموها قائمة على أصولها فبإذن الله ..)(1).
وقد استدل عامة العلماء بذلك، على أن الحكم الشرعي في أشجار العدو وإتلافها منوط بما يراه الإمام أو القائد من مصلحة النكاية بأعدائهم، فالمسألة إذاً من قبيل ما يدخل تحت اسم السياسة الشرعية. قال العلماء: وإنما كان قصد الرسول صلى الله عليه وسلم بتصرفه هذا في النخيل - قطعاً أو كفاً - تحقيق المصلحة وتلمس السبيل إليها، إرشاداً وتعليماً للأئمة من بعده.
وبهذا أيضاً علل الشافعي رحمه الله، أمر أبي بكر رضي الله عنه بالإحراق والقطع، حينما أرسل خالداً إلى طليحة وبني تميم، مع أنه نهى هو نفسه عن ذلك في حروب الشام. ويقول رحمه الله في هذا:"ولعل أمر أبي بكر بأن يكفوا عن أن يقطعوا شجراً مثمراً، إنما هو لأنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يخبر أن بلاد الشام تفتح على المسلمين. فلما كان مباحاً له أن يقطع ويترك، اختار الترك نظراً للمسلمين".
وهذا الذي قلناه من إباحة قطع شجر الكفار وإحراقه إذا اقتضت المصلحة هو مذهب نافع مولى ابن عمر ومالك والثوري وأبي حنيفة والشافعي وأحمد وإسحاق وجمهور الفقهاء. وروي عن الليث بن سعد وأبي ثور والأوزاعي القول بعدم جوازه.
واتفق الأئمة على أن ما غنمه المسلمون من أعدائهم بدون قتال - وهو الفيء - يعود النظر
(1) الحشر: 5.
والتصرف فيه إلى ما يراه الإمام من المصلحة، وأنه لا يجب عليه تقسيمه بين الجيش كما تقسم عليهم الغنائم التي غنموها بعد قتال وحرب، مستدلين على ذلك بسياسته صلى الله عليه وسلم في تقسيم فيء بني النضير، فقد خص به - كما رأيت - المهاجرين وحدهم، وقد نزل القرآن تصويباً لذلك، في الآيتين اللتين ذكرناهما.
ثم اختلفوا في الأراضي التي غنمها المسلمون بواسطة الحرب: فذهب مالك إلى أن الأرض لا تقسم مطلقاً، وإنما يكون خراجها وقفاً لمصالح المسلمين إلا أن يرى الإمام أن المصلحة تقضي القسمة فإن له ذلك، ويذهب الحنفية قريباً من هذا المذهب.
أما الشافعي فذهب إلى أن الأرض المأخوذة عنوة تجب قسمتها كما تجب قسمة غيرها من الغنائم، وهو الظاهر من مذهب الإمام أحمد أيضاً.
ودليل ما ذهب إليه الشافعي، أن تصرف النبي صلى الله عليه وسلم بأموال بني النضير، على خلاف ما تقتضيه القسمة بين الغانمين في الحرب، إنما كان بسبب عدم وجود أي قتال تسبب عنه الحصول على تلك الغنائم. وقد نصت الآية على ذلك في معرض تعليل حكمه صلى الله عليه وسلم، في فيء بني النضير، وهي قوله تعالى:(وما أفاء الله على رسوله منهم، فما أوجفتم عليه من خيل ولا ركاب)(1) وإذا كان هذا هو مناط جواز عدم القسمة لأراضي الفيء فمن الواضح أنه إذا ارتفع مناط الحكم، ارتفع الحكم معه، وعاد الحكم المنصوص عليه في حق الغنائم، سواء في ذلك الأراضي وغيرها.
ودليل ما ذهب إليه مالك وأبو حنيفة أمور كثيرة، من أهمها عمل عمر رضي الله عنه حينما امتنع عن تقسيم سواد العراق، وجعلها وقفاً يجري خراجها ريعاً للمسلمين وليس المجال هنا متسعاً لأكثر من هذا العرض المجمل في الموضوع.
إنما الذي ينبغي أن ننتبه إليه من هذا البحث هنا، هو التعليل الذي ذكره الله تعالى في الآيتين اللتين أوضحتا سياسته عليه الصلاة والسلام في تقسيم فيء بني النضير إذ اختص به أناساً دون آخرين. فقد ذكر الله تعالى في تعليل ذلك قوله: (لكي لا يكون دولة بين
(1) الحشر: 6.
الأغنياء منكم) (1) أي لكي لا يكون تداول المال محصوراً فيما بين طبقة الأغنياء منكم فقط.
والتعليل بهذه الغاية يؤذن بأن سياسة الشريعة الإسلامية في شؤون المال، قائمة في جملتها على تحقيق هذا المبدأ. وأن كل ما تفيض به كتب الشريعة الإسلامية من الأحكام المتعلقة بمختلف شؤون الاقتصاد والمال يبتغى من ورائه إقامة مجتمع عادل تتقارب فيه طبقات الناس وفئاتهم ويقضى فيه على أسباب الثغرات التي قد تظهر فيما بينها، والتي قد تؤثر على سير العدالة وتطبيقها.
ولو طبقت أحكام الشريعة الإسلامية وأنظمتها الخاصة بشؤون المال من إحياء لشريعة الزكاة ومنع للربا وقضاء على مختلف مظاهر الاحتكارات لعاش الناس كلهم في بحبوحة من العيش، قد يتفاوتون في الرزق ولكنهم جميعاً مكتفون، وليس فيهم كل على آخر وإن كانوا جميعاً يتعاونون.
والمهم أن تعلم أن الله تعالى لما جعل غاية شريعته في الدنيا إقامة هذا المجتمع، شرع لذلك وسائل وأسباباً معينة ألزمنا باتباعها وعدم الخروج عليها. أي أن الله تعالى تعبدنا بكل من الغاية والوسيلة معاً. فلا يجوز أن يقال: إن الغاية من الإسلام إقامة العدالة الاجتماعية. فلنسلك إلى ذلك ما نراه من السبل والأسباب، بل إن هذا يعد خروجاً على كل من الغاية والوسيلة معاً، فلن تتحقق الغاية التي أمرنا الله تعالى بتحقيقها إلا باتباع الوسيلة التي شرعها لنا سبيلاً إلى تلك الغاية. والتاريخ أعظم دليل والوقائع أكبر شاهد.
هذا وجدير بك أن تعود إلى سورة الحشر بكاملها، لتتأمل تعليق البيان الإلهي العظيم على هذه الحادثة بمجموعها وعامة ملابساتها: اليهود، المنافقون، سياسة الرسول في المال والحرب، وغير ذلك
…
فهذه السورة من أهم ما يمكنك من الوقوف على دروس هذه القصة وعظاتها. اهـ.
* * *
(1) الحشر: 7.