الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
.. وبالجملة: فالقسم الثانى من الوحي الإلهى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم (الوحي التوفيقى) أو (الوحي الباطنى) على حد تعبير الأحناف (1) وهو: ما قاله رسول الله صلى الله عليه وسلم باجتهاده مما يعلم أنه من شرع الله تعالى، فإن وافق قوله أو فعله مراد الله تعالى، فالأمر كما أخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإن كان الأمر يحتاج إلى تصحيح أو توضيح، أوحى الله تعالى إلى نبيه صلى الله عليه وسلم بذلك (2) .
…
وهذا أهم ما يفرق به بين اجتهاد النبى صلى الله عليه وسلم، واجتهاد علماء أمته أن اجتهاده صلى الله عليه وسلم محروس بوحى الله تعالى، فلا يقر على خطأ ومن هنا فهو حجة فى الدين ويحرم مخالفته، وليس كذلك اجتهاد علماء أمته. اللهم إذا كان اجتهاد علماء الأمة فى عصر من العصور وأجمعوا عليه فيحرم مخالفته.
…
قال الإمام الغزالى (3) : "دل الدليل من الإجماع على تحريم مخالفة اجتهاده صلى الله عليه وسلم، كما دل على تحريم مخالفة الأمة كافة، وكما دل على تحريم مخالفة اجتهاد الإمام الأعظم والحاكم، لأن صلاح الخلق فى اتباع رأى الإمام والحاكم وكافة الأمة، فكذلك النبى صلى الله عليه وسلم"(4) .
ثانياً: الحكمة فى اجتهاد رسول الله صلى الله عليه وسلم:
(1) ينظر: أصول السرخسى 2/90.
(2)
ينظر: تيسير اللطيف الخبير فى علوم حديث البشير النذير ص54، ويراجع: ص258، 259.
(3)
هو: محمد بن محمد الغزالى، أبو حامد، الملقب بحجة الإسلام، كان بارعاً فى الفقه، وأصول الدين، والمنطق والفلسفة، من أشهر مصنفاته: المستصفى من علم الأصول، وإحياء علوم الدين، مات سنة 505هـ له ترجمة فى: وفيات الأعيان لابن خلكان 4/216 رقم 588، وطبقات الشافعية لابن هداية الله ص69، وشذرات الذهب 4/10.
(4)
المستصفى 2/355، 356.
.. أمر المولى عز وجل نبيه صلى الله عليه وسلم، بالاجتهاد فى قوله تعالى:{وشاورهم فى الأمر} (1) ووجه الاستدلال بالآية: أن المشاورة إنما تكون فيما حكم فيه بطريق الاجتهاد، إذ لا مشاورة فيما نزل به وحى (2) .
…
ولا ريب أن الأمر بالمشاورة أمر له بالاجتهاد لاستظهار آراء من معه من المؤمنين ليختار منها باجتهاده ما يراه صلى الله عليه وسلم موافقاً للمصلحة، وهذا هو الاجتهاد المطلوب.
…
وقول من قال أن الآية واردة فى الحروب؛ لا يمنع من ثبوت الاجتهاد له صلى الله عليه وسلم بها (3) إذ الحروب جهاد فى سبيل الله، وهى أحكام شرعية فالاجتهاد فيها يقتضى جواز الاجتهاد فى غيرها إذ لا فارق.
…
وهنا يرد سؤال:
…
إذا كان أى نبى عندما يجتهد عرضة لأن يصيب وأن يخطئ، فلماذا يكلهم الله عز وجل إلى الاجتهاد الذى قد يخطئون فيه؟ ولماذا لا يسعفهم بالوحي الذى يفصل فى الأمور والقضايا ولا يحوجهم إلى الاجتهاد؟.
والجواب:
…
أن الله عز وجل حكماً فى أن يترك الرسل يجتهدون، ثم ينبههم ويعاتبهم إذا أخطأوا؛ أبين بعضها بالنسبة لنبينا محمد صلى الله عليه وسلم على النحو التالى:
الحكمة الأولى:
…
إقامة الدليل على بشرية الرسول صلى الله عليه وسلم وعبوديته، وأنه مع كونه رسولاً، لم يتجاوز أن يكون عبداً يصيب ويخطئ، كما يصيب البشر ويخطئون؛ ولكنه لا يقر على خطأ.
(1) جزء من الآية 159 آل عمران.
(2)
ينظر: الأحكام للآمدى 4/144، والمسودة فى أصول الفقه لآل تيمية ص508.
(3)
سيأتى بيان الصواب فى اجتهاده صلى الله عليه وسلم فى أول المبحث الثانى بعد قليل.
.. ويدل على هذه الحكمة ويشهد لها قوله صلى الله عليه وسلم: "إنما أنا بشر، وإنه يأتينى الخصم، فلعل بعضكم أن يكون أبلغ من بعض، فأحسب أنه صدق فأقضى له بذلك، فمن قضيت له بحق مسلم؛ فإنما هى قطعة من النار، فليأخذها أو ليتركها"(1) .
الحكمة الثانية:
…
البرهنة على أمانة الرسول صلى الله عليه وسلم فى إبلاغ الرسالة، وعدم كتمانه شيئاً مما أنزل عليه من ربه، إذ لو كتم شيئاً لكتم آيات العتاب ما خالف فيه الأولى؛ يدل على ذلك ما روى عن أنس بن مالك رضى الله عنه قال: "لو كان رسول الله صلى الله عليه وسلم كاتماً شيئاً، لكتم هذه الآية:{وإذا تقول للذى أنعم الله عليه وأنعمت عليه أمسك عليك زوجك واتق الله وتخفى فى نفسك ما الله مبديه وتخشى الناس والله أحق أن تخشاه} (2) .
الحكمة الثالثة:
…
تشجيع الأمة على الاجتهاد وإعمال الفكر فيما يعرض لها من قضايا وأحداث لا يجدون فيها نصوصاً، فإن الأحداث تتجدد، ولا تنتهى عند حد، فكيف يواجهها المسلمون ولا نصوص فيها؛ إذا لم يجتهدو ليتعرفوا على أحكامها؟ .
الحكمة الرابعة:
(1) أخرجه البخارى (بشرح فتح البارى) فى عدة أماكن منها: كتاب المظالم، باب إثم من خاصم فى باطل وهو يعلمه 5/128 رقم 1258، ومسلم (بشرح النووى) كتاب الأقضية، باب الحكم بالظاهر 6/245 رقم 1713 من حديث أم سلمة رضى الله عنها.
(2)
الآية 37 اٍلأحزاب، والحديث سبق تخريجه ص268.
.. رحمة للأمة بتأسيس أعظم قاعدة للحكم الإسلامى، وهى التزام الشورى، وترك الاستبداد. ويؤيد هذا ما جاء عن ابن عباس رضى الله عنهما قال:"لما نزلت {وشاورهم فى الأمر} قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أما إن الله ورسوله لغنيان عنها، ولكن جعلها الله رحمة لأمتى فمن استشار منهم لم يعدم راشداً، ومن تركها لم يعدم غياً" (1) .
…
قال الإمام ابن جرير: "إن الله عز وجل أمر نبيه صلى الله عليه وسلم بمشورة أصحابه فيما حزبه من أمر عدوه، ومكايد حربه، تألفاً منه بذلك من لم تكن بصيرته بالإسلام؛ البصيرة التى يؤمن عليها معها فتنة الشيطان، وتعريفاً منه أمته فى الأمور التى تقع بهم من بعده وحلها، ليقتدوا به فى ذلك عند النوازل التى تنزل بهم فيتشاوروا فيما بينهم، كما كانوا يرونه فى حياته صلى الله عليه وسلم يفعله، فأما النبى صلى الله عليه وسلم فإن الله تعالى كان يعرفه مطالب وجوه ما حزبه من الأمور بوحيه وإلهامه إياه صواب ذلك، وأما أمته فإنهم إذا تشاوروا مستنين بفعله صلى الله عليه وسلم فى ذلك على تصادق وتآخ للحق، وإرادة جميعهم للصواب، من غير ميل إلى هوى، ولا حيد عن هدى، فالله مسددهم وموفقهم"(2) .
…
ويؤيد ما سبق ما روى عن الحسن البصرى قال: "قد علم أنه ليس به إليهم حاجة، وربما قال: ليس له إليهم حاجة، ولكن أراد أن يستن به من بعده"(3) .
(1) أخرجه البيهقى فى شعب الإيمان 6/76 رقم 7543، ونقله الشوكانى فى فتح القدير 1/395 ونقل عن السيوطى تحسينه.
(2)
جامع البيان 4/153 بتصرف يسير.
(3)
أخرجه ابن أبى حاتم فى تفسيره 3/801 رقم 4416 وقال الحافظ فى: فتح البارى، كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة، باب قول الله تعالى {وأمرهم شورى بينهم} 13/352 سند ابن أبى حاتم حسن، وينظر: تلخيص الحبير 4/471.
.. وقد غرس رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا المبدأ "الشورى" فى نفوس أصحابه حتى كان يشاورهم فى أمور الدين والدنيا (1) قال أبو هريرة رضى الله عنه: "ما رأيت أحداً قط أكثر مشاورة لأصحابه من رسول الله صلى الله عليه وسلم"(2) وقد اقتفى أثره صلى الله عليه وسلم الخلفاء الراشدون رضى الله عنهم وغيرهم ممن ولى أمر المسلمين بعده من صحابته الكرام وولاة المسلمين الأخيار، فكانوا لا يعدلون بالاستشارة فى أمور المسلمين النازلة بهم، كما قال الإمام البخارى: "وكانت الأئمة بعد النبى صلى الله عليه وسلم يستشيرون الأمناء من أهل العلم فى الأمور المباحة، ليأخذوا بأسهلها، فإذا وضح الكتاب أو السنة لم يتعدوه إلى غيره اقتداء بالنبى صلى الله عليه وسلم، ثم ضرب البخارى أمثلة لذلك (3) وهى كثيرة معلومة، لا مجال لذكرها هنا (4)
(1) نحو مشاورتهم يوم بدر فى الذهاب إلى عير قريش، وشاورهم أيضاً أين يكون المنزل يوم بدر، وشاورهم فى شأن أسرى بدر، وسيأتى تفصيل ذلك فى دلائل عصمته فى اجتهاده من خلال السنة، وشاورهم يوم أحد أن يقعد فى المدينة أو يخرج إلى العدو، وشاورهم يوم الخندق فى مصالحة الأحزاب بثلث ثمار المدينة، وشاورهم فى قصة الإفك، واستشار علياً وأسامة فى فراق عائشة. وغير ذلك. ينظر: تفسير القرآن العظيم لابن كثير 2/128، 129، وفتح البارى 13/353، 354 رقم 7369.
(2)
أخرجه الترمذى فى سننه كتاب الجهاد، باب ما جاء فى المشورة 4/185 رقم 1714 معلقاً بصيغة التضعيف، وأخرجه البيهقى فى السنن الكبرى 10/109، وذكره الحافظ فى فتح البارى 13/352 رقم 7369 وقال رجاله ثقات إلا أنه منقطع. لكنه تعضده الآيات والأحاديث.
(3)
البخارى (بشرح فتح البارى) كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة، باب قول الله تعالى {وأمرهم شورى بينهم} 13/351.
(4)
للوقوف على أمثلة من مشاورات الخلفاء الراشدين رضى الله عنهم. ينظر: فتح البارى 13/354 – 355.