المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌المطلب الثانى: شبهة أن الوحي عبارة عن أمراض نفسية وعقلية - رد شبهات حول عصمة النبى صلى الله عليه وسلم

[عماد السيد محمد إسماعيل الشربينى]

فهرس الكتاب

- ‌هذا الكتاب

- ‌مقدمة من الباحث

- ‌الإهداء

- ‌كلمة شكر وتقدير

- ‌المقدمة

- ‌خطة البحث:

- ‌منهجى فى البحث:

- ‌التمهيد

- ‌المبحث الأول: التعريف بالعصمة

- ‌أولاً: التعريف بالعصمة لغة وشرعاً

- ‌أ- المعنى اللغوى:

- ‌ب- المعنى الشرعى:

- ‌ج- مواضع العصمة:

- ‌ثانياً: العصمة سبيل حجية القرآن الكريم، والسنة النبوية المطهرة:

- ‌ثالثاً: العصمة سبيل الاقتداء بالنبى صلى الله عليه وسلم:

- ‌المبحث الثانى: أهمية السيرة النبوية فى فهم الإسلام

- ‌أولاً: أهمية السيرة العطرة فى فهم القرآن الكريم

- ‌ثانياً: أهمية السيرة العطرة فى فهم السنة الشريفة:

- ‌ثالثا: أهمية السيرة العطرة فى إثبات أن للمسلمين تاريخاً وحضارةً:

- ‌الباب الأول:عصمة رسول الله صلى الله عليه وسلم فى عقله وبدنه ودفع الشبهات

- ‌ تمهيد

- ‌الفصل الأول: عصمة رسول الله صلى الله عليه وسلم فى عقله وبدنه

- ‌المبحث الأول: دلائل عصمته صلى الله عليه وسلم فى عقله

- ‌أ- عصمته صلى الله عليه وسلم من كيد إبليس وجنوده:

- ‌ب- عصمته صلى الله عليه وسلم من الجهالات:

- ‌جـ- عصمته صلى الله عليه وسلم من التعرى

- ‌د- عصمته صلى الله عليه وسلم من أكل ما ذبح على النصب

- ‌هـ عصمته صلى الله عليه وسلم من الحلف بأسماء الأصنام

- ‌و عصمته صلى الله عليه وسلم من استلام الأصنام

- ‌ز- من مظاهر عصمته صلى الله عليه وسلم شق صدره الشريف:

- ‌ح- من مظاهر عصمته صلى الله عليه وسلم تكافؤ أخلاقه:

- ‌ط- من مظاهر عصمته صلى الله عليه وسلم كمال عقله:

- ‌المبحث الثانى: دلائل عصمته صلى الله عليه وسلم فى بدنه

- ‌ المراد بعصمة النبى صلى الله عليه وسلم فى بدنه هنا، عصمته من القتل

- ‌خصوصية عصمة النبى صلى الله عليه وسلم فى بدنه من القتل:

- ‌ نماذج من كفاية الله عز وجل وعصمته لرسوله صلى الله عليه وسلم

- ‌الفصل الثانى: شبه الطاعنين فى سلامة عقله وبدنه والرد عليها

- ‌تمهيد

- ‌المبحث الأول: شبهاتهم من القرآن الكريم على عدم عصمة النبى صلى الله عليه وسلم

- ‌تمهيد:

- ‌المطلب الأول: شبهتهم حول آيات ورد فيها إسناد "الضلال" و"الغفلة" إلى ضمير خطابه صلى الله عليه وسلم

- ‌المطلب الثانى: شبهتهم حول آيات ورد فيها إسناد "الذنب" و"الوزر" إلى ضمير خطابه صلى الله عليه وسلم

- ‌المطلب الثالث: شبهتهم حول آيات ورد فيها مخاطبة رسول الله صلى الله عليه وسلم بتقوى الله عز وجل

- ‌المطلب الرابع: شبهتهم حول آيات ورد فيها مخاطبة رسول الله صلى الله عليه وسلم

- ‌المطلب الخامس: شبهتهم حول آيات ورد فيها معاتبة رسول الله صلى الله عليه وسلم

- ‌{عفا الله عنك لم أذنت لهم حتى يتبين لك الذين صدقوا وتعلم الكاذبين}

- ‌{ما كان لنبى أن يكون له أسرى حتى يثخن فى الأرض

- ‌{عبس وتولى. أن جاءه الأعمى

- ‌ وتخفى فى نفسك ما الله مبديه وتخشى الناس والله أحق أن تخشاه

- ‌{يا أيها النبى لم تحرم ما أحل الله لك

- ‌المبحث الثانى: شبهاتهم من السنة النبوية على عدم عصمة النبى صلى الله عليه وسلم

- ‌ تمهيد

- ‌المطلب الأول: شبهة الطاعنين فى حديث "شق صدره صلى الله عليه وسلم

- ‌المطلب الثانى: شبهة الطاعنين فى حديث "فترة الوحي

- ‌المطلب الثالث: شبهة الطاعنين فى حديث "نحن أحق بالشك من إبراهيم

- ‌المطلب الرابع: شبهة الطاعنين فى حديث "سحر رسول الله صلى الله عليه وسلم

- ‌المطلب الخامس: شبهة الطاعنين فى حديث "أَهَجَرَ

- ‌الباب الثانى: عصمة رسول الله صلى الله عليه وسلم فى تبليغ الوحي ودفع الشبهات

- ‌الفصل الأول: عصمته صلى الله عليه وسلم فى تبليغ الوحي

- ‌ تمهيد

- ‌المبحث الأول: التعريف بالوحي لغة، وشرعاً، وكيفياته

- ‌أولاً: التعريف بالوحي:

- ‌أ- من حيث اللغة:

- ‌ب- معناه الشرعى:

- ‌المبحث الثانى: دلائل عصمته صلى الله عليه وسلم فى تبليغ الوحي

- ‌مجالات البلاغ الذى أمر الله تعالى به رسوله صلى الله عليه وسلم:

- ‌أولاً: دلائل عصمته صلى الله عليه وسلم فى تبليغ الوحي

- ‌ثانياً: دلائل عصمته صلى الله عليه وسلم فى تبليغ الوحي

- ‌ثالثاً: من دلائل عصمته صلى الله عليه وسلم فى تبليغ الوحي، إجماع الأمة:

- ‌الفصل الثانى: شبه الطاعنين فى الوحي الإلهى والرد عليها

- ‌المبحث الأول: شبهات أعداء الإسلام من المستشرقين حول الوحي الإلهى

- ‌ تمهيد

- ‌المطلب الأول: شبهة الوحي النفسى والرد عليه

- ‌المطلب الثانى: شبهة أن الوحي عبارة عن أمراض نفسية وعقلية

- ‌المطلب الثالث: شبهة أن الوحي مقتبس من اليهودية والنصرانية

- ‌المطلب الرابع: فرية الغرانيق والرد عليها

- ‌أولاً: إن هذه الأقصوصة المختلقة تنافى ما هو مقطوع به

- ‌ثانياً: قيام الأدلة القطعية من القرآن الكريم على بطلانها

- ‌ثالثاً: مخالفة القصة لحقائق تاريخ السيرة العطرة

- ‌رابعاً: ذهب جماهير علماء الأمة من المحدثين

- ‌خامساً: القصة لم يخرجها أصحاب الكتب الصحاح:

- ‌سادساً: سؤال بعضهم:

- ‌سابعاً: الرد على المثبتين للقصة:

- ‌معنى آية التمنى:

- ‌المبحث الثانى: شبهات أعداء السنة المطهرة حول الوحي الإلهى

- ‌تمهيد:

- ‌المطلب الأول: شبهة أن مهمة رسول الله صلى الله عليه وسلم قاصرة على بلاغ القرآن فقط

- ‌المطلب الثانى: شبهة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ليست له سنة نبوية

- ‌أ- الأدلة من القرآن الكريم على أن السنة وحى من الله تعالى:

- ‌ب- الأدلة من السنة النبوية على أنها وحى من الله تعالى:

- ‌جـ- السلف يؤمنون بأن السنة وحى:

- ‌المطلب الثالث: شبهة أنه لا طاعة لرسول الله صلى الله عليه وسلم إلا فى القرآن فقط

- ‌أولاً: تعسف أعداء رسول الله، فى تأويل كلمة "الرسول

- ‌ثانياً: زعم أدعياء العلم والفتنة؛ بأنه لا طاعة لرسول الله صلى الله عليه وسلم إلا فى القرآن فقط

- ‌ثالثاً: الأدلة من القرآن الكريم على وجوب طاعته صلى الله عليه وسلم:

- ‌رابعاً: الأدلة من السنة المطهرة على وجوب طاعته صلى الله عليه وسلم:

- ‌المطلب الرابع: شبهة أن طاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم تأليه وشرك

- ‌الباب الثالث: عصمة رسول الله صلى الله عليه وسلم فى اجتهاده ودفع الشبهات

- ‌الفصل الأول: عصمته صلى الله عليه وسلم فى اجتهاده

- ‌ المبحث الأول: التعريف بالاجتهاد، وحكمته فى حقه صلى الله عليه وسلم

- ‌أولاً: التعريف بالاجتهاد:

- ‌ثانياً: الحكمة فى اجتهاد رسول الله صلى الله عليه وسلم:

- ‌المبحث الثانى: دلائل عصمته صلى الله عليه وسلم فى اجتهاده

- ‌أولاً: الأدلة من القرآن الكريم على عصمته صلى الله عليه وسلم فى اجتهاده:

- ‌ثانياً: الأدلة من السنة النبوية على عصمته صلى الله عليه وسلم فى اجتهاده:

- ‌ثالثاً: إجماع الأمة على عصمة رسول الله صلى الله عليه وسلم فى اجتهاده:

- ‌الفصل الثانى: شبهة أن اجتهاد رسول الله صلى الله عليه وسلم يؤيد أن السنة المطهرة ليست كلها وحى

- ‌ ذهب بعض علماء المسلمين الأجلاء إلى عدم عصمة رسول الله صلى الله عليه وسلم فى اجتهاده

- ‌الجواب:

- ‌ ما ورد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من أفعال لم تحصل منه على وجه القرب

- ‌استحباب التأسى بأفعال رسول الله صلى الله عليه وسلم الجبلية

- ‌نقض دليل أن السنة المطهرة ليست كلها وحى:

- ‌ هل هذا الاجتهاد فى قصة تأبير النخل معصوم فيه بوحى

- ‌الباب الرابع: عصمة رسول الله صلى الله عليه وسلم فى سلوكه وهديه ودفع الشبهات

- ‌ تمهيد

- ‌الفصل الأول: شبهة اختلاف سيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم فى كتب السنة

- ‌ويجاب عن ما سبق بما يلى:

- ‌الفصل الثاني: شبهة الطاعنين فى حديث "خلوة النبى صلى الله عليه وسلم بامرأة من الأنصار" والرد عليها

- ‌الفصل الثالث: شبهة الطاعنين فى حديثى "نوم النبى صلى الله عليه وسلم عند أم سليم وأم حرام

- ‌الفصل الرابع: شبهة الطاعنين فى حديث "طوافه صلى الله عليه وسلم على نسائه فى ساعة واحدة

- ‌الفصل الخامس: شبهة الطاعنين فى حديث "مباشرة رسول الله صلى الله عليه وسلم نسائه فى المحيض

- ‌الفصل السادس: شبهة الطاعنين فى حديث "دعوته صلى الله عليه وسلم لعائشة استماع الغناء والضرب بالدف

- ‌الفصل السابع: شبهة الطاعنين فى حديث "اللهم فأيما مؤمن سببته فاجعل ذلك له قربة إليك يوم القيامة

- ‌الخاتمة

- ‌ أقترح وأوصى بما يلى:

- ‌أولاً: فهرس الآيات القرآنية

- ‌ثانياً: فهرس الأحاديث والآثار

- ‌ثالثاً: فهرس الأعلام المترجم لهم

- ‌رابعاً: فهرس الأشعار

- ‌خامساً: فهرس البلدان والقبائل والفرق

- ‌ فهرس المصادر والمراجع

الفصل: ‌المطلب الثانى: شبهة أن الوحي عبارة عن أمراض نفسية وعقلية

‌المطلب الثانى: شبهة أن الوحي عبارة عن أمراض نفسية وعقلية

والرد عليها

زعم بعض المستشرقين أن النبى صلى الله عليه وسلم، كان مصاباً ببعض الأمراض العقلية النفسية التى أثرت عليه تأثيراً بالغاً ونتج من ذلك ما ادعى أنه وحى من الله.

قال جولد تسيهر (1) : "وفى خلال النصف الأول من حياته اضطرته مشاغله إلى الاتصال بأوساط استقى منها أفكاراً أخذ يجتريها فى قرارة نفسه، وهو منطو فى تأملاته أثناء عزلته، ولميل إدراكه وشعوره للتأملات المجردة، والتى يلمح فيها أثر حالته المرضية، نراه ينساق ضد العقلية الدينية والأخلاقية لقومه الأقربين والأبعدين"(2) ولكن ما حقيقة هذه الأمراض، وما نوعيتها؟ يجيب على ذلك عدد من المستشرقين مع تباين تشخيصاتهم.

(1) مستشرق مجرى يهودى، رحل إلى سورية وفلسطين ومصر، ولازم بعض علماء الأزهر، له تصانيف باللغات الألمانية، والإنجليزية، والفرنسية، ترجم بعضها إلى العربية، قال الدكتور السباعى: عرف بعدائه للإسلام، وبخطورة كتاباته عنه، وهو من محررى دائرة المعارف الإسلامية، كتب عن القرآن والحديث، ومن كتبه: تاريخ مذاهب التفسير الإسلامى، والعقيدة والشريعة فى الإسلام، وغير ذلك مات سنة 1921م له ترجمة فى: الأعلام للزركلى 1/284، والاستشراق للدكتور السباعى ص31، 32، وآراء المستشرقين حول القرآن وتفسيره للدكتور عمر إبراهيم 1/161، 162.

(2)

العقيدة والشريعة فى الإسلام ص112.

ص: 433

.. زعم شبرنجر (1) وجوستاف فايل (2) وغيرهم أنه كان مصاباً بحالات من الصرع يغيب فيها عن الناس وعما حوله، ويظل ملقى على أثرها بين الجبال لمدة طويلة، يسمع له على إثرها غطيط كغطيط النائم، ويتصبب عرقاً، ويثقل جسمه (3) وتعتريه التشنجات، وتخرج منه الرغوة، فإذا أفاق ذكر أنه أوحى إليه، وتلا على أتباعه ما يزعم أنه وحى من الله (4) .

وبعضهم اعتبرها حالة هستيريا، وتهيجاً عصبياً، يظهر عليه أثرها فى مزاجه العصبى القلق، ونفسه كثيرة العواصف بشكل غامض، حتى كان يصل به الأمر أن لا يفرق بين تعاقب الليل والنهار، وقد هزل على إثرها جسمه، وشحب لونه، وخارت قواه (5) .

(1) هو: ابن كرستوفر شبرنجر، مستشرق نمسوى، يجيد كثيراً من اللغات، له إلمام بالأدب الشرقى مات سنة 1893م، من آثاره: حياة محمد، وقد نشر بعض الكتب العربية مثل: الإصابة فى تمييز الصحابة، والإتقان فى علوم القرآن، له ترجمة فى: الأعلام 2/8، والمستشرقون لنجيب العقيقى 2/631، 632.

(2)

مستشرق ألمانى، له كتاب مدخل تاريخى نقدى إلى القرآن، مات سنة 1889م. ينظر: آراء المستشرقين حول القرآن وتفسيره 1/229.

(3)

ينظر: آراء المستشرقون حول القرآن وتفسيره 1/398.

(4)

الإسلام والمستشرقين لنخبة من العلماء ص202.

(5)

مقدمة القرآن لمونتجمرى وات ص17، 18، ومقدمة القرآن لبل ص29، 30، وينظر: سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم فى تصورات الغربيين للدكتور محمود زقزوق ص20.

ص: 434

.. ويذهب بعضهم إلى أنه نوع من الهوس (1) قائلاً: "ونرى محمداً الثاقب النظر من الناحية العلمية من ذوى الهوس، كما هو شأن أكثر مؤسسى الديانات"(2) وبالتأمل فى هذه الافتراءات ترى أنها مع طعنها فى الوحي المنزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم، تطعن فى عصمته فى عقله وبدنه.

ويجاب عن هذه الافتراءات من عدة وجوه:

أولها: أن المستشرقين هنا فيما يزعمون كالببغاوات يرددون شبهة إخوانهم أعداء الأنبياء والرسل الذين جعلوا ما يحصل لأنبياء الله مثل الذى يحصل للمجانين والسحرة، كما قال تعالى:{كذلك ما أتى الذين من قبلهم من رسول إلا قالوا ساحر أو مجنون. أتواصوا به بل هم قوم طاغون} (3) وهى عين الفرية التى رمت بها قريش رسول الله صلى الله عليه وسلم، فبرأه الله مما قالوا، بقوله سبحانه:{فذكر فما أنت بنعمة ربك بكاهن ولا مجنون} (4) أرأيت كيف يردد المستشرقون شبهة عفا عنها الدهر، وطوتها السنون، وبين الله فسادها قبل خمسة عشر قرناً من الزمن، ثم جاءوا يلو كونها ويدندنون بها تشويهاً للإسلام، وتشكيكاً فى عصمة رسول الله صلى الله عليه وسلم فى عقله وبدنه.

ثانيها: إجماع الأمة على عصمة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وسائر الأنبياء قبله من سائر الأمراض المنفرة، فرسول الله صلى الله عليه وسلم، وكافة الرسل قبله، قد اشتهروا بالتعقل والنباهة والفطنة قبل النبوة وبعدها.

(1) الهوس: بالتحريك، طرف من الجنون، ويرادفه المس. ينظر: مختار الصحاح ص701، والقاموس المحيط 2/258.

(2)

حضارة العرب لجوستاف لبون ص126، 127، وينظر: الوحي القرآنى فى المنظور الاستشراقى ونقده للدكتور محمود ماضى ص109، 123.

(3)

الآيتان 52، 53 الذاريات.

(4)

الآية 29 الطور.

ص: 435

.. لقد كان صلى الله عليه وسلم، أكمل الرجال عقلاً، وأشدهم فطنة، وأصوبهم قولاً، وأحكمهم فعلاً. وقد تحدى الله المشركين الذين عرفوه وعايشوه وخبروا حاله أن يثبتوا عليه جنوناً أو اختلال عقل، وذلك فى قوله تعالى:{قل إنما أعظكم بواحدة أن تقوموا لله مثنى وفرادى ثم تتفكروا ما بصاحبكم من جنة إن هو إلا نذير لكم بين يدى عذاب شديد} (1) .

ففى قوله {ما بصاحبكم من جنة} أى جنون. مستأنف منبه لهم على أن ما عرفوه من رجاحة عقله كاف فى ترجيح صدقه؛ والتعبير عنه صلى الله عليه وسلم بـ (صاحبهم) للإيماء أن حاله معروف مشهور بينهم، لأنه نشأ بين أظهرهم معروفاً بقوة العقل، ورزانة الحلم، وسداد القول والفعل (2) .

فالآية الكريمة تقول لهم: "ها هو ذا تاريخ محمد صلى الله عليه وسلم وأحاديثه، وسننه، وآدابه، وأخلاقه، وشريعته، تحت أنظاركم فانظروا وتفكروا من غير هوى ولا عصبية فى جوانب ذلك كله، واستخرجوا منه – ولن تستطيعوا – ما يقيم عوج دعاواكم، وأفك أباطيلكم، ولكنكم علمتم أن محمداً صلى الله عليه وسلم معصوم بعصمة الله عز وجل، الذى أرسله ليقوض بنيان الكفر والنفاق، ويهدم صرح الإلحاد.

وبالجملة: فإن دلائل عصمته صلى الله عليه وسلم فى عقله وبدنه، يشهد بها كتاب الله والسنة المطهرة، والسيرة العطرة، على ما سبق تفصيله (3) .

ثالثها: أن ثمة فرقاً واضحاً بين صور الوحي الذى كان يتلقاه النبى صلى الله عليه وسلم وبين أعراض مرض الصرع الذى زعمه هؤلاء المستشرقون غير المنصفين فصور الوحي قد وقفت عليها من قبل عند الحديث عن كيفياته بما لم أر بك حاجة إلى إعادة الحديث عنها هنا.

(1) الآية 46 سبأ.

(2)

محاسن التأويل للقاسمى 14/ 496.

(3)

يراجع: ص47 – 79، 80 – 107.

ص: 436

.. وأما أعراض مرض الصرع، فهو كما جاء فى كتاب "الموسوعة العربية الميسرة" أن يرى المريض شبحاً، ويسمع صوتاً أو يشم رائحة ويعقب ذلك وقوع المريض صارخاً على الأرض، وفاقداً وعيه ثم تتملكه رعدة تشنجية تتصلب فيها العضلات، وقد يتوقف فيها التنفس مؤقتاً

ويعقب النوبة خور فى القوى، واستغراق فى النوم يصحو منه المريض خالى الذهن من تذكر ما حدث له

الخ (1) .

فإذا كان هذا هو الثابت علمياً، فهو بخلاف أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلا يظهر عليه شئ مما ذكر من أعراض هذا المرض عند نزول الوحي عليه، بل يظل فى تمام وعيه، وكامل قوته العقلية، قبل وأثناء وبعد الوحي، كما قال صلى الله عليه وسلم، لما سأل: كيف يأتيك الوحي؟ قال: "أحياناً يأتينى مثل صلصلة الجرس، وهو أشده على، فيفصم عنى وقد وعيت عنه ما قال"(2) .

وقد كان جبريل عليه السلام يأتى إلى النبى صلى الله عليه وسلم فى صورة الرجل فيحادثه أمام جمع من الحضور وهم يشاهدون ذلك كما ثبت فى حديث جبريل المشهور الذى سأل فيه النبى صلى الله عليه وسلم عن الإيمان والإسلام والإحسان

(3) . وكما جاء فى حديث ابن عمر من إتيان جبريل عليه السلام لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فى صورة الصحابى الجليل دحية الكلبى (4) .

لقد عاش النبى صلى الله عليه وسلم طيلة حياته فى صحة نفسية وعصبية وعقلية دائمة، لم يطرأ عليه أى خلل فى عقله أو أعصابه فى يوم من الآيام، بل كان عليه الصلاة والسلام بشهادة القرآن والسنة والتاريخ، وديعاً صبوراً حليماً، بل كان عظيم الصبر، واسع الحلم، فيسح الصدر حتى أنه صلى الله عليه وسلم، وسع الناس جميعاً ببسطه وخلقه.

(1) الموسوعة العربية الميسرة ليوسف إلياس سركيس حرف الصاد، مادة صرع.

(2)

سبق تخريجه ص28.

(3)

سبق تخريجه ص255.

(4)

سبق ذكرهوتخريجه ص255.

ص: 437

.. وكان شجاعاً مقداماً، سليم الجسم، صحيح البدن، حتى إنه صارع ركانة (1) المشهور بشجاعته فصرعه (2) .

وكان يثبت فى الميدان حتى يفر الشجعان، ويفزع الخلق، ويشتد الأمر ويقول كما حدث فى غزوة حنين، وقد انقشع عنه أصحابه:"أنا النبى لا كذب، أنا ابن عبد المطلب"(3) ويقول "إلى أيها الناس، هلم إلى، أنا رسول الله، أنا محمد بن عبد الله"(4) ولا يزال كذلك حتى ينصره الله فى المعركة.

(1) هو: ركانة بن يزيد بن هاشم القرشى المطلبى، كان من مسلمة الفتح، وكان من أشد الناس، وهو الذى سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يصارعه قبل إسلامه، فصرعه مرتين أو ثلاثاً، مات فى أول خلافة معاوية سنة 42هـ، له ترجمة فى: الاستيعاب 2/507 رقم 801، وأسد الغابة 2/293 رقم 1708، وتجريد أسماء الصحابة 1/186.

(2)

الحديث أخرجه أبو داود فى سننه كتاب اللباس، باب العمائم 4/55 رقم 4078، والترمذى فى سننه كتاب اللباس، باب العمائم على القلانس 4/217 رقم 1784 وقال حديث حسن غريب، والحاكم فى المستدرك 3/511 رقم 5903 وسكت عنه، وحذفه الذهبى من التلخيص، وأخرجه أبو نعيم فى دلائل النبوة 2/394 رقم 299، والبيهقى فى دلائل النبوة 6/250.

(3)

أخرجه البخارى (بشرح فتح البارى) كتاب المغازى، باب قول الله تعالى:{ويوم حنين إذا أعجبتكم كثرتكم} الآية 7/622 رقم 4315 ومسلم (بشرح النووى) كتاب الجهاد، باب غزوة حنين 6/356 رقم 1776 من حديث البراء بن عازب رضى الله عنه.

(4)

أخرجه أحمد فى المسند 3/376، وابن إسحاق فى السيرة النبوية لابن هشام 4/78 نص رقم 1745 والبيهقى فى دلائل النبوة 5/127، والبزار وأبو يعلى – وفيه ابن إسحاق وقد صرح بالسماع فى رواية أبى يعلى، وبقية رجال أحمد رجال الصحيح كما قال الهيثمى فى مجمع الزوائد 6/180 والحديث من رواية جابر رضى الله عنه.

ص: 438

.. وبالجملة: كان كمال عقله وخلقه صلى الله عليه وسلم، مضرب الأمثال لعصمة الله له على ما سبق تفصيله (1) .

ولكل منصق أن يتساءل: هل يتفق هذا المرض وما هو معروف عن النبى صلى الله عليه وسلم من أنه كان أمة وحده، فى أخلاقه، وثباته، وحلمه، وسلامة جسمه وقوة بنائه؟.

ثم كيف يتفق ذلك الداء العضال الذى أعيا الأطباء، وما انتدب له رسول الله صلى الله عليه وسلم من تكوين شموس أبيه، وتربيتها على أسمى نواميس الهداية وقوانين الأخلاق، وقواعد النهضة والرقى، مع أنها أمة صحراوية النفوس، صخرية الطباع؟!.

أضف إلى ذلك أنه نجح فى هذه المحاولة المعجزة، إلى درجة جعلت تلك الأمة، بعد قرن واحد من الزمان، هى أمة الأمم، وصاحبة العلم، وربة السيف والقلم.

فهل المريض المتهوس الذى لا يصلح لقيادة نفسه يتسنى له أن يقوم بهذه القيادة العالمية الفائقة، ثم ينجح فيها هذا النجاح المعجز المدهش؟.

قد تنكر العين ضوء الشمس من رمد

وينكر الفم طعم الماء من سقم (2) .

(1) يراجع ص69 – 79.

(2)

مناهل العرفان فى علوم القرآن للزرقانى 1/81، 82 بتصرف، وينظر: النبى محمد صلى الله عليه وسلم لعبد الكريم الخطيب ص139، والسيرة النبوية فى ضوء القرآن والسنة للدكتور أبى شهبة 1/274.

ص: 439

.. يقول المستشرق ماكس مايرهوف (1) : "أراد بعضهم أن يرى فى محمد رجلاً مصاباً بمرض عصبى أو بداء الصرع، ولكن تاريخ حياته من أوله إلى آخره، ليس فيه شئ يدل على هذا، كما أن ما قام به فيما بعد من التشريع والإدارة يناقض هذا القول"(2) .

رابعها: لو كان النبى صلى الله عليه وسلم مصاباً بمرض الصرع، لذكر ذلك أصحابه الذين لم يتركوا صغيرة ولا كبيرة إلا نقلوها عنه، أو ذكره أعداؤه فى ذلك العصر، هؤلاء الذين كانوا يتربصون بالنبى صلى الله عليه وسلم الدوائر، ويودون أن يظفروا منه ولو بشئ نذر يسير يعيرونه به.

أليس هم القائلون: {لولا نزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم} (3) فأقصى ما عابوه فيه – كما ترى – أنه فقير ومثله فى نظرهم لا يحق أن يكون نبياً.

(1) مستشرق ألمانى، من كبار أطباء العيون العالميين، وفى طليعة مؤرخى الطب العربى، تعد اكتشافاته فيه، وكتابته عنه، بالفرنسية والإنجليزية والألمانية، مرجعاً دقيقاً وافياً، سكن مصر، وانتخب نائباً لرئيس المعهد المصرى، والجمعية الطبية المصرية. توفى بالقاهرة سنة 1945م. له ترجمة فى: المستشرقون الأمانى تراجمهم ص141 – 144، والأعلام للزركلى 5/256، 257.

(2)

ينظر: الإسلام والرسول فى نظر منصفى الشرق والغرب لأحمد بوطامى ص162.

(3)

الآية 31 الزخرف.

ص: 440

.. فلو كان صلى الله عليه وسلم مريضاً بالصرع كما زعم هؤلاء الحاقدون، لوجد أعداؤه فى ذلك فرصة سانحة للطعن عليه، لكن ما حدث ممن خلصت ضمائرهم بعض الوقت، وكانوا مع أنفسهم صادقين قبل ما يطرأ عليهم من إرهاب فكرى من أمثال الوليد بن المغيرة، والنضر بن الحارث الذى نفى فى إشارة بليغة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وما جاء به، السحر، والكهانة، والشعر، والجنون، حيث أنهم يعلمون علم اليقين حقيقة هذه الألفاظ، واعترف النضر بن الحارث بإقرار صناديد قريش، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وما جاء به، بعيدان كل البعد عن حقيقة الألفاظ السابقة (1) .

وهنا يحق لنا أن نتساءل: إذا لم يذكر لنا التاريخ أن النبى صلى الله عليه وسلم أصيب بهذا النوع من الأمراض المنفرة؛ فليأتنا أعداء الإسلام بما يكذب ذلك؟ ولكن أنى لهم ذلك! اللهم إلا ما كان من هؤلاء المأفونين من المستشرقين الذين زعموا هذا الزعم بناءً على تصورهم للحالة التى كانت تعتريه عند نزول الوحي عليه، وهى حالة واحدة من حالات متعددة كان يأتيه عليها الوحي كما علمت، وبينها وبين ما تصوروه عنها بعد المشرقين.

وأتساءل أيضاً: هل الذين آمنوا برسول الله صلى الله عليه وسلم منذ خمسة عشر قرناً، واتبعوا الدين الذى جاء به من قادة الفكر على امتداد العصور؛ كلهم أغبياء مغرورون، لم يميزوا بين الحق والباطل، والصدق والكذب، والصحة والمرض، والكمال والنقص؟!.

خامسها: ثم ما رأى هؤلاء الطاعنين وفيهم من ينتمى إلى بعض الأديان فى أنهم لا ينالون من نبوة وعصمة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم وحده؛ وإنما ينالون من جميع أنبياء الله ورسله الذين كانت لهم كتب أو صحف، أوحى بها من عند الله سبحانه.

(1) يراجع: نص كلام النضر بن الحارث ص272.

ص: 441

.. فهل تطيب نفوس المقرين بالأديان منهم أن يخربوا بيوتهم قبل أن يخربوا بيوت غيرهم؟ فما رأيهم فيما جاء فى كتب العهد القديم والجديد، من إيحاءات ونبوءات؟.

وهل يقولون فى وحى نبى الله موسى وعيسى عليهما السلام ما يقولون فى وحى نبينا محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم؟.

إن الرسول صلى الله عليه وسلم، ليس بدعاً من الرسل فى باب الوحي، إنه أوحى إليه كما أوحى إليهم، وصدق الحق تبارك وتعالى حيث يقول:{إنا أوحينا إليك كما أوحينا إلى نوح والنبيين من بعده} (1) .

اللهم إن هذا الطعن لا يقول به إلا أحد رجلين: إما رجل مخرف، وإما رجل مخرب مدمر يريد هدم الأديان (2) .

قلت: فلا نبينا صلى الله عليه وسلم، ولا أحد من إخوانه من الأنبياء أصيب بمثل هذه الأمراض المنفرة، لعصمة ربهم لهم (3) وإنما المرضى – حقيقة – هم أعداؤهم من كل أمة. أهـ.

والله تعالى أعلى وأعلم

(1) الآية 163 النساء.

(2)

السيرة النبوية فى ضوء القرآن والسنة للدكتور محمد أبو شهبة 1/278، 279.

(3)

يراجع ما سبق فى المراد بعصمة الأنبياء فى بدنهم ص80.

ص: 442