الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وقد علق أبو حيان (1) - رحمه الله تعالى فى البحر، على هذا المسلك من التفكير والتعبير فقال:"وكلام الزمخشرى فى تفسير قوله {عفا الله عنك لم أذنت لهم} مما يجب إطراحه، فضلاً عن أن يذكر فيرد عليه"(2) قال الألوسى (3) : "وكم لهذه السقطة فى الكشاف من نظائر"(4) .
وأما قوله تعالى: فى أسارى بدر:
{ما كان لنبى أن يكون له أسرى حتى يثخن فى الأرض
تريدون عرض الدنيا والله يريد الآخرة والله عزيز حكيم} (5) فليس فى هذه الآية الكريمة وما بعدها إلزام ذنب لرسول الله صلى الله عليه وسلم، لتصديرها بجملة "ما كان لنبى" وهذا الأسلوب المكون من "كان" المنفية بـ "ما" الآتى بعدها لام الجحود، تأكيداً لتقوية النفى فيها قد ورد فى القرآن الكريم، وكلام العرب على وجهين، كما قال المفسرون، وأهل المعانى (6) .
(1) هو: محمد بن يوسف بن على، أثير الدين، أبو حيان، الغرناطى، من كبار العلماء بالعربية والتفسير، والحديث، من مؤلفاته: البحر المحيط فى التفسير، والتذكرة فى العربية، وغير ذلك مات سنة 745هـ. له ترجمة فى: ذيل تذكرة الحفاظ للحسينى الدمشقى ص23، وطبقات الشافعية لابن السبكى 6/31، وشذرات الذهب 6/145، والرسالة المستطرفة للكتانى ص101، وطبقات المفسرين للداودى 2/287 رقم 608.
(2)
البحر المحيط 5/47.
(3)
هو: محمود شكرى بن عبد الله بن شهاب الدين، محمود الألوسى، الحسينى، أبو المعالى، عالم بالأدب والدين، والتاريخ، ومن الدعاة إلى الإصلاح، من مصنفاته: روح المعانى، ومختصر التحفة الإثنى عشرية، مات بغداد سنة 1342هـ، له ترجمة فى الأعلام للزركلى 7/172، 173.
(4)
روح المعانى 10/109.
(5)
الآية 67 الأنفال.
(6)
تفسير القرطبى 8/274، وفتح القدير للشوكانى 2/410.
الوجه الأول: النفى كما هو ظاهر أسلوبها كقوله تعالى {ما كان لكم أن تنبتوا شجرها} (1) وقوله: {وما كان الله ليضيع إيمانكم} (2) وهذا هو الأصل فى معنى هذا الأسلوب، لأن توكيد فعل الكون بلام الجحود هو "أبلغ لفظ يستعمل فى النفى"(3) ومعناه انصباب النفى على ما قبل اللام وما بعدها نفياً مطلقاً "يشمل جميع الحالات المعنوية التى يتضمنها الكلام"(4) .
…
ويفيد هذا التركيب معنى زائداً على نفى مجرد الفعل، وهو نفى التهيؤ للفعل المنفى عنه وإرادته والصلاحية له، كما أوضح ذلك أبو حيان وغيره (5) .
…
ولا شك أن نفى التهيئة والإرادة للفعل أبلغ من نفى الفعل، لأن نفى الفعل لا يستلزم نفى إرادته، ونفى التهيئة والصلاح والإرادة للفعل تستلزم نفى الفعل، فلذلك كان النفى مع لام الجحود أبلغ" (6) .
…
أما الوجه الثانى: من وجهى استعمال هذا الأسلوب فى القرآن الكريم، فهو النهى الضمنى عن أن يقع متعلق الخبر، كقوله تعالى:{وما كان لكم أن تؤذوا رسول الله} (7) .
…
وقد جعل منه بعض العلماء آية بحثنا هذا {ما كان لنبى أن يكون له أسرى} (8) ومعنى الآية على الوجه الأول: أن الله عز وجل يبرئ نبيه صلى الله عليه وسلم، وينزه ساحته عن أن يكون له تهيئة وقصد فى أخذ الأسرى، وإنهاء المعركة قبل الإثخان فى الأرض.
(1) جزء من الآية 60 النمل.
(2)
جزء من الآية 143 البقرة.
(3)
أسرار التكرار فى القرآن لمحمود بن حمزة الكرمانى ص99.
(4)
النحو الوافى لعباس حسن 4/299.
(5)
البحر المحيط 1/426، وينظر: مغنى اللبيب لابن هشام 1/211.
(6)
البحر المحيط 1/426.
(7)
جزء من الآية 53 الأحزاب.
(8)
الآية 67 الأنفال. وينظر: البحر المحيط 4/518، وروح المعانى للألوسى 4/109، والأنصاف لابن المنير بهامش الكشاف 1/476.
.. والمعنى على الوجه الثانى: نهيه صلى الله عليه وسلم عن أن يكون له أسرى قبل الإثخان فى الأرض، والمبالغة فى إضعاف قوة العدو، ولا يستلزم هذا النهى وقوع المنهى عنه من المخاطب، لجواز
أن يكون وقوع المنهى عنه، كان ممن له صلة تبعية بالمخاطب، ويؤيد هذا أن "التنكير – أى تنكير نبى فى قوله "ما كان لنبى" إبهاماً فى كون النفى لم يتوجه عليه معيناً"(1) تلطفاً به صلى الله عليه وسلم، وإشارة إلى أن هذا سنة من سنن الله تعالى مع أنبيائه وبياناً لأنه لم يكن صلى الله عليه وسلم متوجه القصد، إلى أن يكون له أسرى قبل الإثخان فى العدو، وإكثار القتل، والجراح فيه، وعلى ذلك يكون الخطاب – فى ظاهره – موجهاً لرسول الله صلى الله عليه وسلم مع هذا التلطف الذى يبرئ سماحته صلى الله عليه وسلم مما يوجب العتاب، ويكون الخطاب - فى حقيقته - موجهاً إلى الذين أسرعوا فى إنهاء المعركة، وأخذ الغنائم والأسرى بمجرد ظهور طلائع النصر، ولم يصبروا حتى يكثروا القتل فى العدو كسراً لشوكته. وقد نزه الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم عن إرادة شئ من الدنيا بتوجيه الكلام بطريق الإفراد فى أول الكلام فى قوله "ما كان لنبى" الذى أخرج مخرج الغيبة، مع أن المقصود به هو النبى صلى الله عليه وسلم، إلى الجمع فى قوله:{تريدون عرض الدنيا والله يريد الآخرة} الذى قصد به بعض الصحابة، ممن تجرد غرضه لعرض الدنيا وحده، والاستكثار منها، وليس المراد بهذا النبى صلى الله عليه وسلم ولا علية أصحابه رضى الله عنهم (2) .
(1) البحر المحيط 4/518.
(2)
الشفا 2/159، والمواهب اللدنية وشرحها 9/46، 47.
.. وهذا يدل على أن النبى صلى الله عليه وسلم لم يدر بخلده، أن ينهى المعركة قبل الإثخان فى العدو ليأخذ الأسرى، ويغنم أصحابه المغانم، ويؤكده ما رواه ابن إسحاق فى سيرته:"ولما وضع القوم أيديهم يأسرون، ورسول الله صلى الله عليه وسلم فى العريش (1) وسعد بن معاذ قائم على باب العريش الذى فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم متوحشاً السيف فى نفر من الأنصار، يحرسون رسول الله صلى الله عليه وسلم، يخافون عليه كرة العدو، ورأى رسول الله صلى الله عليه وسلم فى وجه سعد بن معاذ الكراهية لما يصنع الناس، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم لكأنك يا سعد تكره ما يصنع القوم؟ قال: أجل، والله يا رسول الله، كانت أول وقعة أوقعها الله بأهل الشرك، فكان الإثخان فى القتل أحب إلى من استبقاء الرجال"(2) .
(1) هو: كل ما يستظل به. النهاية فى غريب الحديث 3/187.
(2)
أخرجه ابن إسحاق فى السيرة النبوية لابن هشام، 2/290 نص رقم 753، وذكره ابن كثير فى البداية والنهاية 3/284 نقلاً عن ابن إسحاق.
.. وهذا يدل على أن النبى صلى الله عليه وسلم لم ينكر على سعد بن معاذ ما رأى فى وجهه من كراهية ما يصنع القوم، فاستفسره عن ذلك، فقال له:"والله لكأنك يا سعد تكره ما يصنع القوم؟ " فقال سعد: أجل يا رسول الله، وعلل سعد ذلك بأن هذه أول وقعة فى الإسلام نصر الله فيها المسلمين على أعدائهم من المشركين، فكان الإثخان فى القتل أحب إليه من استبقاء الرجال. وفيه دلالة على أن المعاتب عليه عدم الإثخان فى القتل، والإسراع إلى الغنيمة، لا أخذ الفداء، لأن سعداً أبان عن رأيه قبل الاستشارة فى أخذ الفداء، وهذا كالصريح فى أن أخذ الفداء من الأسرى لا عتاب عليه، وقد بين الله تعالى هذا بقوله {لولا كتاب من الله سبق لمسكم فيما أخذتم عذاب عظيم} (1) فإنه تعالى لعظيم فضله، وبالغ رحمته، منع عذابه العظيم عن المؤمنين المجاهدين يوم بدر، الذى استحقوه بما مالت إليه أنفسهم من الإسراع فى جميع الغنائم، قبل إكثار القتل فى عدوهم.
…
وهذه الآية الكريمة: {ما كان لنبى أن يكون له أسرى حتى يثخن فى الأرض} (2) كما هو ظاهر منها لا تمنع الأسر، وأخذ الفداء نهائياً، ولكنها تقرر أنهما لا يكونان إلا بعد الإثخان فى الأرض بظهور المسلمين على أعدائهم.
…
وهى لا تتنافى مع آية سورة محمد {فإذا لقيتم الذين كفروا فضرب الرقاب حتى إذا أثخنتموهم فشدوا الوثاق فإما مناً بعد وإما فداء} (3) فلا زيادة فى حكم هذه الآية، على آية الأنفال، لأن كلتا الآيتين متوافقتان "فإن كلتيهما تدلان على أنه لابد من تقديم الإثخان ثم بعده أخذ الفداء"(4) فلا نسخ إذن كما يزعم البعض.
…
ولكن بعض الصحابة رضى الله عنهم حين اشتغلوا بجمع الغنائم قدموا عرض الدنيا على الآخرة فخالفوا ما أراده الله تعالى لهم من عظيم الظهور وقوة الشوكة.
(1) الآية 68 الأنفال.
(2)
الآية 67 الأنفال.
(3)
الآية 4 محمد.
(4)
التفسير الكبير للرازى 15/202.
.. أما الكتاب المذكور فى قوله تعالى: {لولا كتاب من الله سبق لمسكم فيما أخذتم عذاب عظيم} فقد أدى إبهامه إلى اختلاف العلماء فيه على أقوال كثيرة أوصلها الشوكانى (1) إلى ستة أقوال، لعل أرجحها وأقربها إلى المعقول، وأولاها بالقبول هو: ألا يعذب الله أحداً إلا بعد أن يقدم إليه أمراً أو نهياً فيخالف ما قدمه الله إليه (2) .
…
والمعنى: لولا أنه سبق منى أن لا أعذب أحداً إلا بعد النهى لعذبتكم على ما أخذتم من الفداء. إذ لو كان منهياً عنه محرماً لاستحقوا بمخالفته العذاب، فالمراد بالكتاب: حكم الله الذى كتبه وقدره، وهذا التفسير ينفى أن يكون أمر فداء الأسارى معصية لعدم النهى (3) .
(1) هو: محمد بن على بن محمد الشوكانى، فقيه مجتهد، من كبار علماء اليمن، من أهل صنعاء، من مؤلفاته: فتح القدير فى التفسير، وإرشاد الفحول فى أصول الفقه، مات سنة 1250هـ له ترجمة فى: البدر الطالع للشوكانى 2/214 – 225 رقم 482، والفتح المبين لعبد الله المراغى 3/144 – 145، والرسالة المستطرفة للكتانى ص152، ومعجم المؤلفين لكحالة 11/533.
(2)
فتح القدير 2/325، 326.
(3)
ينظر: تفسير القرآن العظيم لابن كثير 4/34، وروح المعانى للألوسى 10/ 34، والبحر المحيط لأبى حيان 4/519.
.. وفى الآية بيان لما كان مسطوراً فى غيبه تعالى من إحلال الغنيمة، وتطييبها لعبادة المؤمنين من هذه الأمة، وهذا كان من خصائصه صلى الله عليه وسلم على سائر الأنبياء فكأنه قال:"ما كان أخذ الفداء لنبى غيرك" وهو ما أكده صلى الله عليه وسلم بقوله: "أعطيت خمساً لم يعطهن أحد من الأنبياء قبلى، أحلت لى الغنائم، ولم تحل لأحد قبلى – الحديث"(1) .
…
فقال الله تعالى تطيباً لنفوس أولئك المجاهدين {فكلوا مما غنمتم حلالاً طيباً واتقوا الله إن الله غفور رحيم} (2) وهذا كله ينفى الذنب والمعصية، لأن من فعل ما أحل الله لم يعص (3) .
(1) أخرجه البخارى (بشرح فتح البارى) كتاب الصلاة، باب قول النبى صلى الله عليه وسلم جعلت لى الأرض مسجد وطهوراً 1/634 رقم 438، ومسلم (بشرح النووى) كتاب المساجد، 3/5 رقم 521 من حديث جابر بن عبد الله رضى الله عنه.
(2)
الآية 69 الأنفال.
(3)
الشفا 2/159، 160.
.. أما ما روى فى أسباب نزول آيات بحثنا، من مشاورة رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه فى أمر أسرى بدر، واختياره صلى الله عليه وسلم لرأى أبى بكر ومن معه القائلين بقبول الفداء، من الأسرى تقوية لجيش المسلمين على الكفار بالفداء، ورجاء أن يهديهم الله تعالى للإسلام أو أن يخرج من أصلابهم بعد وقعة بدر من يؤمن بالله، ويهتدى بهداه، ثم بكاءه صلى الله عليه وسلم وصاحبه أبى بكر شفقة لأجل ما عرض عليه صلى الله عليه وسلم من عذاب أصحابه لأخذهم الفداء، ونزول الآيات بذلك (1) فليس فى ذلك ما يفيد أصلاً بأن النبى صلى الله عليه وسلم أشار بأخذ الفداء، وإنما شاور أصحابه، فأشارت الكثرة منهم بأخذ الفداء، وهم الذين عوتبوا بقوله تعالى:{تريدون عرض الدنيا والله يريد الآخرة} (2) فلما خرج إليهم بعد المشاورة قال لهم: {أنتم عالة، فلا يبقين أحد إلا بفداء أو ضربة عنق} (3) .
(1) ينظر الحديث فى صحيح مسلم (بشرح النووى) كتاب الجهاد، باب الإمداد بالملائكة 6/327 رقم 1763 من حديث ابن عباس رضى الله عنهما.
(2)
جزء من الآية 67 الأنفال.
(3)
أخرجه أحمد فى مسنده 1/383، والحاكم فى المستدرك 3/24 رقم 4304 وقال: صحيح الإسناد ووافقه الذهبى، وعزاه الهيثمى فى مجمع الزوائد 6/87 إلى أحمد وأبى يعلى والطبرانى وقال: وفيه أبو عبيده ولم يسمع من أبيه ولكن رجاله ثقات أهـ، من حديث ابن مسعود رضى الله عنه.
.. وهذه المشاورة مأمور بها النبى صلى الله عليه وسلم كما يدل على ذلك صريح حديث على بن أبى طالب رضى الله عنه قال: جاء جبريل عليه السلام يوم بدر إلى النبى صلى الله عليه وسلم، فقال:"خير أصحابك فى الأسرى إن شاءوا فى القتل، وإن شاءوا فى الفداء، على أن يقتل منهم فى العام المقبل مثلهم، فقالوا: الفداء ويقتل منا"(1) .
(1) أخرجه النسائى فى سننه الكبرى، كتاب السير، باب قتل الأسرى 5/200 رقم 8662، والترمذى فى سننه كتاب السير، باب ما جاء فى قتل الأسارى والفداء 4/114 رقم 1567 وقال: حديث حسن غريب، وعن أبى عبيدة مرسلاً فى الطبقات الكبرى لابن سعد2/14.
.. ومن هنا يظهر جلياً أن النبى صلى الله عليه وسلم لم يختر أخذ الفداء ولا حبذه، بدليل ما رواه البخارى من قوله صلى الله عليه وسلم فى أسارى بدر:"لو كان المطعم بن عدى (1) حياً، ثم كلمنى فى هؤلاء النتنى (2) لتركتهم له"(3) .
…
وهذا يدل على أن لا عتاب على أخذ الفداء لعزم رسول الله صلى الله عليه وسلم على ترك الأسرى، وإطلاقهم بدون فداء، فيما لو كان المطعم بن عدى حياً، وكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم فيهم.
(1) هو المطعم بن عدى بن نوفل بن عبد مناف، دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة فى جواره مرجعه من الطائف، وبات رسول الله صلى الله عليه وسلم فى بيته ليلة دخوله مكة، وفى الصباح خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومعه المطعم بن عدى، وبنوه السبعة فطاف رسول الله صلى الله عليه وسلم بالبيت، وهم محتبون بحمائل سيوفهم فى المطاف لحمايته، فلما انصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم انصرفوا معه وأعلن ذلك فى قريش. وقد توفى المطعم بن عدى بعد هجرة رسول الله بيسير وهو على دين قومه، وخبر ذلك فى البداية والنهاية لابن كثير 3/135، 136.
(2)
يعنى أسارى بدر، وأحدهم: نتن كزمن وزمنى، سماهم نتنى لكفرهم كقوله تعالى:{إنما المشركون نجس} جزء من الآية 28 التوبة، وينظر: النهاية فى غريب الحديث 5/12.
(3)
أخرجه البخارى (بشرح فتح البارى) كتاب فرض الخمس، باب ما من النبى صلى الله عليه وسلم على الأسارى من غير أن يخمس 6/280 رقم 3139، وفى كتاب المغازى 7/375 رقم 4024 من حديث جبير بن مطعم رضى الله عنه.
.. كما يؤخذ أيضاً من حديث تخيير جبريل فى أمر الأسرى، أن أخذ الفداء، لا عتاب عليه، إذ لو كان أخذ الفداء موضع مؤاخذة، ما جاء جبريل عليه السلام بالتخيير بينه، وبين القتل، لأنه لا يخير بين جائز مطلق، وبين مؤاخذ عليه. وبالتالى فهم لم يفعلوا إلا ما أذن لهم فيه، لكن بعض الصحابة مال إلى أضعف الوجهين، فى حين كان الأصلح غيره من الإثخان فى القتل، فعوتبوا على ذلك، وتبين لهم ضعف اختيارهم، وتصويب اختيار غيرهم، وكلهم غير عصاة ولا مذنبين (1) .
(1) الشفا 2/160، وينظر: جامع البيان عن تأويل آى القرآن لابن جرير 6/289.
.. ويؤيد أنه لا عتاب على رسول الله صلى الله عليه وسلم فى أخذ الفداء، أنه صلى الله عليه وسلم سبق أن فادى الحكم بن كيسان (1) وعثمان بن عبد الله بن المغيرة (2) اللذين أسرتهما سرية عبد الله بن جحش الأسدى رضى الله عنه (3) حين أرسله رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعه ثمانية من المهاجرين – إلى وادى نخلة بين مكة والطائف لرصد عير قريش – وذلك قبل غزوة بدر الكبرى بأكثر من شهرين، فالتقوا بهم فى آخر يوم من رجب، من السنة الثانية من الهجرة، فغنموا العير، واقتادوا معهم الأسيرين إلى المدينة، فوقف رسول الله صلى الله عليه وسلم العير والأسيرين، وقال أهل الكفر: استحل محمد وأصحابه الشهر الحرام، وأكثروا فى ذلك، فرد الله عليهم قولهم فأنزل: {يسألونك عن الشهر الحرام قتال فيه قل قتال فيه كبير وصد عن سبيل الله وكفر به والمسجد الحرام وإخراج أهله منه أكبر عند الله والفتنة أكبر من القتل ولا يزالون يقاتلونكم حتى يردوكم عن دينكم إن استطاعوا ومن يرتدد منكم عن دينه فيمت وهوكافر فأولئك حبطت أعمالهم فى الدنيا والآخرة وأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون" (4) .
(1) قدم به أسيراً على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأسلم وحسن إسلامه، وأقام عند رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى قتل يوم بئر معونة، شهيداً. له ترجمة فى: أسد الغابة 2/54 رقم 1226، والاستيعاب 1/355 رقم 522.
(2)
ذهب حين فدى إلى مكة، فمات بها كافراً. السيرة النبوية لابن هشام 2/259 نص رقم 709 والدرر فى اختصار المغازى والسير لابن عبد البر ص101.
(3)
صحابى جليل له ترجمة فى: تجريد أسماء الصحابة 1/302، وتاريخ الصحابة ص160 رقم 777، وأسد الغابة 3/194 رقم 2858، والاستيعاب 3/877 رقم 1484.
(4)
الآية 217 البقرة.
فقبل رسول اللهصلى الله عليه وسلم العير والأسيرين، وأخذ الغنيمة، وهى أول غنيمة غنمها أصحاب رسول اللهصلى الله عليه وسلم فى الإسلام" (1) ولم يعاتب الله تعالى أحداً على شئ من ذلك، فلو كان الفداء ممنوعاً لعتب (2) .
وعلى ذلك فلا عتاب لسيدنا رسول اللهصلى الله عليه وسلم فى فداء الأسرى يوم بدر لعدم العتاب على أخذه، وأخذ الغنيمة، فيما سبق هذه الغزوة أولاً، هذا بالإضافة إلى أن اختيار أخذ الفداء يوم بدر، وقع من الصحابة رضى الله عنهم كما فى حديث تخيير جبريل عليه السلام.
على أن بعض الأئمة من الذين يرون أن فى الآية عتاباً، أخذاً بظاهر رواية مسلم المشار إليها (3) رجحوا رأى الصديق رضى الله عنه بأخذ الفداء.
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: "وقد اختلف السلف فى أى الرأيين كان أصوب؟ فقال بعضهم: كان رأى أبى بكر لأنه وافق ما قدر الله فى نفس الأمر، ولم استقر الأمر عليه، ولدخول كثير منهم فى الإسلام، إما بنفسه، وإما بذريته التى ولدت له بعد الوقعة، ولأنه وافق غلبة الرحمة على الغضب، كما ثبت ذلك عن الله تعالى فى حق من كتب له الرحمة"(4) قالوا: وأما بكاء النبىصلى الله عليه وسلم، فإنما كان شفقة لنزول العذاب، لمن أراد بذلك عرض الدنيا، ولم يرد ذلك رسول اللهصلى الله عليه وسلم ولا أبو بكر، وغيره من عليَّة أصحابه (5) أ. هـ. والله أعلم.
(1) ينظر: السيرة النبوية لابن هشام2/255-259 نص رقم 705-709، ودلائل النبوة للبيهقى3/17-19، والدرر فى اختصار المغازى والسير لابن عبد البر ص99،100، وتاريخ الطبرى2/410-413.
(2)
ينظر: الشفا2/160،161، وشرح الزرقانى على المواهب9/49،50.
(3)
يراجع: ص155.
(4)
فتح البارى7/377 رقم4022.
(5)
ينظر: زاد المعاد لابن قيم الجوزية3/111.