الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ثانياً: دلائل عصمته صلى الله عليه وسلم فى تبليغ الوحي
من خلال السنة المطهرة والسيرة العطرة:
…
الدلائل على صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم فى كل ما يخبر به عن الله تعالى من الوحي وعصمته فيه من خلال السنة والسيرة كثيرة منها:
أ- حاله صلى الله عليه وسلم قبل النبوة، فصدقه عليه الصلاة والسلام مع الناس دليل على صدقه فيما يخبر به عن ربه؛ إذ لا يترك إنسان الكذب على الناس ثم يكذب على الله تعالى.
…
وهذا القياس العقلى قد استخدمه هرقل، وهو يسأل أبا سفيان بن حرب أثناء رحلة تجارية بالشام، عن أحوال النبى صلى الله عليه وسلم وصفاته فكان مما سأل عنه: فهل كنتم تتهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال؟ قال أبو سفيان، قلت: لا. (فاستخلص هرقل النتيجة المنطقية لهذا، وهى أن محمداً صلى الله عليه وسلم صادق فى دعواه الرسالة، وفى كل ما يخبر به عن الله تعالى) قائلاً: إنه لم يكن ليذر الكذب على الناس، ويكذب على الله (1) . وقد شهد له صلى الله عليه وسلم بالصدق، الأعداء والأصدقاء على السواء.
…
فمن شهادات الأعداء ما يلى:
عن ابن عباس رضى الله عنهما قال: لما نزلت: {وأنذر عشيرتك الأقربين} (2) خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى صعد الصفا، فهتف: يا صباحاه، فقالوا: من هذا؟ فاجتمعوا إليه، فقال:"أرأيتم إن أخبرتكم أن خيلاً بالوادى تريد أن تغير عليكم أكنتم مصدقى؟ قالوا: نعم، ما جربنا عليك إلا صدقاً!! وفى رواية: ما جربنا عليك كذباً!! قال: فإنى نذير لكم بين يدى عذاب شديد"(3) .
(1) سبق تخريجه ص9.
(2)
الآية 214 الشعراء.
(3)
سبق تخريجه ص10.
هكذا يعترف له قومه أجمعون بالصدق، وعدم عثورهم على ما يناقض هذا الخلق منه، وهم وإن لم يكونوا قد ناصبوه العداء آنذاك، إلا أن هذه الشهادة وغيرها ظلت قائمة لا ينازعون فيها، ولم يسحبوها حينما جاهرهم بالدعوة وناصبوه العداء، وقد حرصوا بعد ذلك على صد الناس عن الإيمان كل الحرص، وبذلوا كل جهد، غير أنهم لم يقدروا أن ينالوا من صدقه وأمانته وعفافه.. حتى قال أبو طالب فى لاميته المشهورة التى قالها إبان المقاطعة التى ضربوها عليه وعلى قومه بنى هاشم، لعدم كفهم رسول الله صلى الله عليه وسلم عن دعوته، أو تخليهم عنه، قال لهم مذكراً بحاله وأخلاقه:
لقد علموا أن ابننا لا مكذب
…
***
…
لدينا ولا يعنى بقول الأباطل (1) .
…
فهم يعلمون هذه الحقيقة حقا، ولكن تعاموا عنها، وأعماهم الباطل والكبر والعناد، كما قال الله تعالى:{وجحدوا بها واستيقانتها أنفسهم ظلماً وعلوّاً} (2) وكما قال عز وجل: {فإنهم لا يكذبونك ولكن الظالمين بآيات الله يجحدون} (3) ومما روى فى ذلك تفسيراً للآية الأخيرة.
أن الأخنس بن شريف سأل أبو جهل، وقد خلا كل منهما بالآخر يوم بدر، فقال: يا أبا الحكم، أخبرنى عن محمد أصادق هو أم كاذب؟ فإنه ليس ههنا من قريش أحد غيرى وغيرك يسمع كلامنا، فقال أبو جهل: ويحك، والله إن محمداً لصادق، وما كذب محمد قط، ولكن إذ ذهب
بنو قصى باللواء، والحجابة، والسقاية، والنبوة، فماذا يكون لسائر قريش؟ فذلك قوله تعالى:{فإنم يكذبونك ولكن الظالمين بآيات الله يجحدون} : قال: "فآيات الله يا محمد: محمد صلى الله عليه وسلم"(4) .
(1) السيرة النبوية لابن هشام مع الروض الأنف 2/28.
(2)
الآية 14 النمل.
(3)
الآية 33 الأنعام.
(4)
أخرجه ابن جرير فى تفسيره جامع البيان 7/181 عن السدى الكبير، وذكره ابن كثير فى تفسيره 3/246، 247 معزواً إليه، ويعضد هذه الرواية، حديث على بن أبى طالب المذكور بعده أهـ.
وعن على بن أبى طالب قال: قال أبو جهل للنبى صلى الله عليه وسلم، قد نعلم يا محمد أنك تصل الرحم وتصدق الحديث، ولا نكذبك ولكن نكذب الذى جئت به، فأنزل الله عز وجل:{قد نعلم إنه ليحزنك الذى يقولون فإنهم لا يكذبونك ولكن الظالمين بآيات الله يجحدون} (1) .
ومن شهادات الأعداء لرسول الله صلى الله عليه وسلم بالصدق، شهادة أمية بن خلف عندما قال له سعد بن معاذ، إنى سمعت محمداً صلى الله عليه وسلم يزعم أنه قاتلك قال: إياى؟ قال: نعم. قال: والله ما يكذب محمد إذا حدث، وقد تحقق ذلك يوم بدر حيث اشترك فى الغزوة، ورآه المسلمون فقتلوه شر قتلة (2) .
(1) الآية 33 الأنعام، والحديث أخرجه الحاكم فى المستدرك 2/345 رقم 3230 وصححه على شرط الشيخين، وتعقبه الذهبى بأنهما لم يخرجا لناجية بن كعب الأسدى، رواية عن علىّ شيئاً، وهو ثقة، كما قال الحافظ فى تقريب التهذيب 2/236 رقم 7091، وأخرجه الترمذى فى سننه كتاب التفسير، باب سورة الأنعام 5/243 رقم 3064، وتعقبه بنحو كلام الذهبى أهـ.
(2)
أخرجه البخارى (بشرح فتح البارى) كتاب المناقب، باب علامات النبوة فى الإسلام 6/727 رقم 3632، وكتاب المغازى، باب ذكر النبى صلى الله عليه وسلم من يقتل ببدر 7/329 رقم 3950، وفى طريقة قتله، يراجع من نفس المصدر، كتاب الوكالة، باب إذا وكل المسلم حربياً فى دار الحرب 4/560 رقم 2301.
ومن ذلك أيضاً شهادة النضر بن الحارث فى قوله: "يا معشر قريش إنه والله قد نزل بكم أمر ما ابتليتم بمثله، ولقد كان محمد فيكم غلاماً حدثاً، أرضاكم عقلاً، وأصدقكم حديثاً، وأعظمكم أمانة، حتى إذا رأيتم فى صدغيه (1) الشيب، وجاءكم بما جاءكم قلتم: ساحراً! لا والله ما هو بساحر، لقد رأينا السحرة ونفثهم وعقدهم، وقلتم: كاهن! لا والله ما هو بكاهن، قد رأينا الكهنة وحالهم، وسمعنا سجعهم، وقلتم: شاعر! لا والله ما هو بشاعر، لقد رأينا الشعر، وسمعنا أصنافه كلها هزجه ورجزه وقريضه، وقلتم: مجنون! لا والله ما هو بمجنون، لقد رأينا الجنون، فما هو بخنقه ولا وسوسته ولا تخليطه، ثم قال لهم، يا معشر قريش، انظروا فى شأنكم، فإنه والله لقد نزل بكم أمر عظيم"(2) فهذا كلام النضر بن الحارث الذى كان
من شيطاناً من شياطين قريش، وممن كان يؤذى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وينصب له العداوة. وكذا قال غيره كلاماً نحو ذلك من إثبات صدق النبى صلى الله عليه وسلم، وكماله الخلقى والخلقى، كالوليد بن المغيرة (3) وعتبة بن ربيعة (4) وغيرهما.
ومن شهادات الصحابة رضى الله عنهم بصدقه صلى الله عليه وسلم ما يلى:
1-
قول خديجة رضى الله عنها فى قصة بدء الوحي، حيث قالت له صلى الله عليه وسلم وهى الخبيرة به:"كلا، أبشر، فوالله لا يخزيك الله أبداً، فوالله إنك لتصل الرحم، وتصدق الحديث، وتحمل الكل، وتكسب المعدوم، وتقرى الضيف، وتعين على نوائب الحق"(5) .
(1) الصدغ: ما بين العين والأذن، ويسمى الشعر المتدلى فى هذا الموضع صدغاً. مختار الصحاح ص359، والمصباح المنير 1/359.
(2)
أخرجه ابن إسحاق فى السيرة النبوية لابن هشام 1/376 نص رقم 285، والبيهقى من طريقه فى دلائل النبوة 2/201 عن ابن عباس رضى الله عنهما.
(3)
ينظر: دلائل النبوة للبيهقى 2/200.
(4)
ينظر: المصدر السابق 2/203.
(5)
سبق تخريجه ص198.
.. فهذه شهادة من خبر أخلاقه وسبر أحواله صلى الله عليه وسلم، ولا ينبئك مثل خبير، ولذلك كانت مثل هذه الشهادات على صدقه صلى الله عليه وسلم من أقرب الناس إليه تعد من أبلغ الدلائل على صدق دعواه صلى الله عليه وسلم الرسالة، وعصمته فى بلاغ الوحي، وكانت تلك الشهادات محل ثقة أعدائه.
…
قال الكتاب المستشرق الإنجليزى (هـ جى ويلز) : "إن من أرفع الأدلة على صدق محمد كون أهله وأقرب الناس إليه يؤمنون به، فقد كانوا مطلعين على أسراره، ولو شكوا فى صدقه لما آمنوا به"(1) .
2-
ومن أقوال الصحابة رضى الله عنهم عن صدقه صلى الله عليه وسلم وعصمته فى بلاغ الوحي، ما كان يعبر عنه ابن مسعود رضى الله عنه بقوله:"حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو الصادق المصدوق: "إن أحدكم يجمع خلقه فى بطن أمه أربعين يوماً، ثم يكون علقة مثل ذلك، ثم يكون مضغة مثل ذلك
…
الحديث" (2) .
3-
وكذا كان يقول أبو هريرة رضى الله عنه، كقوله:"سمعت أبا القاسم الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم، صاحب هذه الحجرة يقول: "لا تنزع الرحمة إلا من شقى" (3) .
(1) الإسلام والرسول فى نظر منصفى الشرق والغرب لأحمد بن حجر آل بوطامى ص132.
(2)
أخرجه البخارى (بشرح فتح البارى) كتاب الأنبياء، باب قول الله تعالى:{وإذ قال ربك للملائكة إنى جاعل فى الأرض خليفة} 6/418 رقم 3332، ومسلم (بشرح النووى) كتاب القدر، باب كيفية خلق الآدمى فى بطن أمه 8/440 رقم 2643.
(3)
أخرجه أبو داود فى سننه كتاب الأدب، باب الرحمة 4/286 رقم 4942، والترمذى فى سننه كتاب البر، باب ما جاء فى رحمة الناس 4/285 رقم 1923 وقال: حديث حسن.
4-
وكذلك ما كان من أبى بكر رضى الله عنه من التصديق الكامل بكل ما يقوله النبى صلى الله عليه وسلم منذ أول دعوته، حتى شهد له بذلك صلى الله عليه وسلم بقوله: "إن الله بعثنى إليكم فقلتم كذبت، وقال أبو بكر: صدق، وواسانى بنفسه وماله، فهل أنتم تاركو لى صاحبى؟ مرتين
…
" (1) .
…
وبالجملة: فقد كانت هيئته صلى الله عليه وسلم تدل على مبلغ مكانته من الصدق، ودليلاً كافياً على صدق دعواه الرسالة، وعصمته فى كل ما يبلغه من وحى الله عز وجل، يعرفه بذلك كل من صفت فكرته، وتجرد عن الأنانية كما كان من الحبر عبد الله بن سلام رضى الله عنه (2) فإنه ما إن رآه عند مقدمة المدينة حتى استيقن صدقه كما قال: "لما قدم النبى صلى الله عليه وسلم المدينة انجفل (3) الناس إليه، وقيل قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم، قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم، قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجئت فى الناس لأنظر إليه، فلما استبنت وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم، عرفت أن وجهه ليس بوجه كذاب، وكان أول شئ تكلم
(1) أخبره البخارى (بشرح فتح البارى) كتاب فضائل الصحابة، باب فضل أبى بكر بعد النبى صلى الله عليه وسلم 7/22 رقم 3661.
(2)
ابن الحارث الإسرائيلى، ثم الأنصارى الخزرجى بالولاء، كان أحد أحبار يهود، شهد شهادة الحق ولم يكابر أو يعاند، ونزل فى فضله آيات من كتاب الله تعالى منها قوله تعالى:{وشهد شاهد من بنى إسرائيل على مثله فآمن واستكبرتم} جزء من الآية 10 الأحقاف، وقوله:{ويقول الذين كفروا لست مرسلا قل كفى بالله شهيداً بينى وبينكم ومن عنده علم الكتاب} الآية 43 الرعد، وشهد له النبى صلى الله عليه وسلم بالجنة وهو حى، توفى سنة 43هـ له ترجمة فى: أسد الغابة 3/265 رقم 2986، والاستيعاب 3/921 رقم 1561، وتذكرة الحفاظ 1/26 رقم 12.
(3)
أى: ذهبوا مسرعين نحوه. النهاية فى غريب الحديث 1/270.
به أن قال: "أيها الناس: أفشوا السلام، وأطعموا الطعام، وصلوا والناس نيام، تدخلون الجنة بسلام"(1) .
…
فلم يسعه بعد ذلك غير أن يعلن إسلامه، ويتبرأ من كيد يهود وعنادهم ففعل ذلك مقتنعاً مختاراً، ولقد أجاد عبد الله بن رواحة رضى الله عنه حيث قال:
لو لم تكن فيه آيات مبينة
…
***
…
لكان منظره ينبيك بالخبر (2) .
…
فانظر إلى حكاية الصحابة رضى الله عنهم عن صدقه صلى الله عليه وسلم حيث يسمونه بالصادق المصدوق، أى الصادق فى نفسه، المصدوق أى المعصوم فيما يجئ به عن ربه عز وجل، ويرون صدقه وعصمته ينبئ عنه مظهره وجواره، قبل أن تنبئ عنه أقواله.
ب- من دلائل عصمته صلى الله عليه وسلم فى نقل الوحي، ما ثبت من أخباره وآثاره، وسيره وشمائله، المعتنى بها، المستوفاة تفاصيلها، ولم يرد فى شئ منها تداركه صلى الله عليه وسلم لخبر صدر عنه، رجوعاً عن كذبة كذبها أو اعترافاً بخلف فى خبر أخبر به، ولو وقع منه شئ من ذلك لنقل إلينا. وإن الصحابة رضوان الله عليهم قد اتفقوا على أنه لم يصدر عن النبى خبر بخلاف الواقع فى أى أمر من الأمور، ولم يتثبتوا عن حاله عند ذلك، هل وقع فيها سهواً أم لا، ولم يتوقفوا حتى يتأكدوا إن كان ذلك جداً أو هزلاً، لأنه عليه الصلاة والسلام صادق معصوم فى كل ذلك عندهم، كل الصدق، وكل العصمة.
(1) أخرجه الترمذى فى سننه كتاب القيامة، باب منه 4/562 رقم 2485 وقال حديث صحيح، وأخرجه ابن ماجه فى سننه كتاب الإقامة، باب ما جاء فى قيام الليل 1/419 رقم 1334، والحاكم فى المستدرك 3/14 رقم 4283 وقال صحيح على شرط الشيخين، ووافقه الذهبى.
(2)
ديوان عبد الله بن رواحه ص94.
.. قال القاضى عياض: "ودليل ذلك اتفاق السلف، وإجماعهم عليه، وذلك أنا نعلم من دين الصحابة وعادتهم مبادرتهم إلى تصديق جميع أقواله، والثقة بجميع أخباره فى أى باب كانت، وعن أى شئ وقعت، وأنه لم يكن لهم توقف، ولا تردد فى شئ منها ولا استثبات عن حاله عند ذلك، هل وقع فيها سهو أم لا"(1) وقد استدل على ذلك بما جرى لسيدنا عمر بن الخطاب رضى الله عنه، مع ابن أبى الحقيق اليهودى، حين أجلاهم من خيبر، حيث احتج عليه عمر رضى الله عنه، بقوله صلى الله عليه وسلم:"كيف بك إذا أخرجت من خيبر تعدو بك قلوصك ليلة بعد ليلة؟! " فقال اليهودى: كانت هذه هزيلة من أبى القاسم صلى الله عليه وسلم فقال له عمر: كذبت يا عدو الله! فأجلاهم عمر، وأعطاهم قيمة ما كان لهم من الثمر مالاً وإبلاً وعروضاً من أقتاب وحبال وغير ذلك" (2) .
…
قلت: فثبت عن يقين عصمته صلى الله عليه وسلم فى بلاغ وحى الله من كتاب وسنة إلى الناس، ولا يجوز عليه خلف فيما أخبر به من الوحي، لا بقصد، ولا بغير قصد، ولا فى حال الجد والهزل، ولا فى حال الصحة والمرض أو أى حال كان.
جـ- ومما يشهد بعصمته صلى الله عليه وسلم فى بلاغ الوحي، وأنه لا يقول إلا حقاً سواء فى الرضى والغضب، والصحة والمرض "فترة الوحي فى قصة الإفك" لقد كانت تنزل برسول الله صلى الله عليه وسلم نوازل من شأنها أن تحفزه إلى القول، وكانت حاجته القصوى تلح عليه أن يتكلم بحيث لو كان الأمر إليه، لوجد له مقالاً ومجالاً، ولكنه كانت تمضى الليالى والأيام تتبعها الليالى والأيام، ولا يجد فى شأنها وحياً من قرآن أو سنة يقرؤه على الناس.
(1) الشفا / 135، 136.
(2)
سبق تخريجه ص18.
.. ألم يرجف المنافقون بحديث الإفك عن زوجه عائشة رضى الله عنها، وأبطأ الوحي، وطال الأمر والناس يخوضون، حتى بلغت القلوب الحناجر، وهو لا يستطيع إلا أن يقول بكل تحفظ واحتراس:"إنى لا أعلم عنها إلا خيراً" ثم إنه بعد أن بذل جهده فى التحرى والسؤال، واستشارة الأصحاب، ومضى شهر بأكمله، والكل يقولون ما علمنا عليها من سوء، لم يزد على أن قال آخر الأمر:"يا عائشة، أما إنه بلغنى كذا وكذا، فإن كنت بريئة فسيبرئك الله، وإن كنت ألممت بذنب فاستغفرى الله"(1) .
…
هذا كلامه صلى الله عليه وسلم بوحى ضميره، وهو كما ترى كلام البشر الذى لا يعلم الغيب إلا بوحى ربه، وكلام الصديق المتثبت الذى لا يتبع الظن، ولا يقول ما ليس له به علم.
…
على أنه صلى الله عليه وسلم، لم يغادر مكانه بعد أن قال هذه الكلمات حتى نزل صدر سورة النور معلناً براءتها، ومصدراً الحكم المبرم بشرفها وطهارتها. فماذا كان يمنعه، لو أن أمر الوحي إليه، أن يتقول هذه الكلمة الحاسمة من قبل، ليحمى بها عرضه، ويذب بها عن عرينه، وينسبها إلى الوحي الإلهى لتنقطع ألسنة المتخرصين؟ ولكنه ما كان ليذر الكذب على الناس، ويكذب على الله، قال تعالى:{ولو تقول علينا بعض الأقاويل. لأخذنا منه باليمين. ثم لقطعنا منه الوتين. فما منكم من أحد عنه حاجزين} (2) .
(1) ينظر قصة الحديث فى: صحيح البخارى (بشرح فتح البارى) كتاب التفسير، باب لولا إذ سمعتموه ظن المؤمنون والمؤمنات بأنفسهم خيراً الآية 8/306 رقم 4750، ومسلم (بشرح النووى) كتاب التوبة، باب حديث الإفك وقبول توبة القاذف 9/115 رقم 2770.
(2)
الآيات 44 – 47 الحاقة، وينظر: النبأ العظيم للدكتور محمد عبد الله دراز ص20 – 24 بتصرف يسير.
د- هذا حاله صلى الله عليه وسلم فى أفعاله يشهد بصدقه وعصمته فى كل ما يبلغ عن ربه عز وجل، ومن أقواله صلى الله عليه وسلم على عصمته فى بلاغ وحى الله عز وجل من كتاب وسنة ما يلى:
حديث طلحة بن عبيد الله رضى الله عنه وجاء فيه قوله صلى الله عليه وسلم: "إذا حدثتكم عن الله شيئاً فخذوا به، فإنى لن أكذب على الله"(1) والحديث نص على عصمته صلى الله عليه وسلم من الكذب فيما يخبر به عن الله تعالى.
حديث عبد الله بن عمرو رضى الله عنهما قال: كنت أكتب كل شئ أسمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم أريد حفظه، فنهتنى قريش وقالوا: أتكتب كل شئ تسمعه؟ ورسول الله صلى الله عليه وسلم بشر يتكلم فى الغضب والرضى؟! قال: فأمسكت عن الكتابة، فذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فأومأ بأصبعه إلى فيه، فقال:"أكتب فواللذى نفسى بيده ما يخرج منه إلا الحق"(2) .
حديث أبى هريرة رضى الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إنى لا أقول إلا حقاً" قال بعض أصحابه: فإنك تداعبنا يا رسول الله. قال: "إنى لا أقول إلا حقاً"(3) .
(1) سبق تخريجه ص12.
(2)
سبق تخريجه ص238.
(3)
أخرجه أحمد فى مسنده 2/340، 360، والترمذى فى سننه كتاب البر والصلة، باب ما جاء فى المزاح 4/314 رقم 1990 وقال: حسن صحيح.