الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ومن أقوى الأدلة على أن السنة من وحى الله الخالق سبحانه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ أن السنة على كثرة أحاديثها، وذيوعها وانتشارها، لا يجد فيها العقلاء إلا الحق الذى يسعد البشرية فى كل ناحية من نواحى الحياة، فى صحتها، فى اجتماعيتها، فى اقتصادها، فى نسلها، فى عقلها، فى كل شئون حياتها.
إن أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، منذ أن قالها إلى الآن تنهل البشرية من خيرها وصوابها، يعترف بذلك المسلون، والمنصفون من غير المسلمين وهذا دليل قوى على أنها وحى الله سبحانه وتعالى، إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم (1) .
جـ- السلف يؤمنون بأن السنة وحى:
…
وإنى قد ذكرت الأدلة من كتاب ربنا، وسنة نبينا صلى الله عليه وسلم، على أن السنة وحى من الله إلى رسوله، فإنى أزيد ذلك توضيحاً ورسوخاً بإيراد أقوال بعض السلف، بما يفيد أن السنة النبوية وحى من الله عز وجل، إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم.
(1) المدخل إلى السنة النبوية للدكتور عبد المهدى عبد القادر ص61.
فعن حسان بن عطية (1) قال: كان جبريل ينزل على النبى صلى الله عليه وسلم بالسنة، كما ينزل عليه بالقرآن، ويعلمه إياها كما يعلمه القرآن (2) ونحو هذا القول روى عن الأوزعى (3) .
وعن عبد الله بن المبارك (4) قال: كان جبريل إذا نزل بالقرآن على النبى صلى الله عليه وسلم يأخذه كالغشوة، فيلقيه على قلبه، فيسرى عنه وقد حفظه فيقرؤه، وأما السنن فكان يعلمه جبريل ويشافهه بها (5) .
(1) هو: حسان بن عطية المعاربى، أبو بكر الدمشقى، ثقة، فقيه، عابد، ومن أفاضل أهل زمانه، مات بعد العشرين ومائة بعد الهجرة. له ترجمة فى: تقريب التهذيب 1/199 رقم 1028، والكاشف 1/320 رقم 1004، والثقات للعجلى ص112 رقم 269، وحلية الأولياء 6/70 رقم 330، وصفوة الصفوة 4/222 رقم 755.
(2)
أخرجه الدارمى فى سننه المقدمة، باب السنة قاضية على كتاب الله 1/153 رقم 588، والخطيب فى الفقيه والمتفقه 1/266 رقمى 268، 269، وابن المبارك فى زيادات الزهد ص23 رقم 91، والمروزى فى السنة ص32 رقم 102، وابن عبد البر فى جامع بيان العلم 2/191، وأبو داود فى المراسيل ص167 رقم 567، ورجال الخطيب فى أحد أسانيده برقم 268 كلهم ثقات – فالإسناد صحيح.
(3)
أخرجه الخطيب فى الفقيه 1/267 رقم 270، وفيه إسحاق بن إبراهيم قال فيه الدارقطنى ليس بالقوى تاريخ بغداد 6/381 فالإسناد ضعيف لكن يعضده ما سبق من الروايات.
(4)
هو: عبد الله بن المبارك بن واضح الحنظلى التميمى مولاهم، أبو عبد الرحمن، أحد الأئمة الأعلام، وكان ثقة، عالماً، متثبتاً صحيح الحديث. مات سنة 181هـ له ترجمة فى: تذكرة الحفاظ 1/274 رقم 260، والثقات لابن حبان 7/7، والديباج المذهب لابن فرحون ص212 رقم 261، وطبقات المفسرين للداودى 1/250 رقم 232.
(5)
أخرجه المروزى فى السنة ص34 رقم 112.
وعن عمر بن عبد العزيز (1) قال فى إحدى خطبه: "يا أيها الناس، إن الله لم يبعث بعد نبيكم نبياً، ولم ينزل بعد هذا الكتاب الذى أنزله عليه كتاباً، فما أحل الله على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم، فهو حلال إلى يوم القيامة، وما حرم على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم، فهو حرام إلى يوم القيامة
…
" (2) .
وقال أيضاً: "سن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وولاة الأمر من بعده سنناً، الأخذ بها اتباع لكتاب الله عز وجل، واستكمال لطاعة الله، وقوة على دين الله، ليس لأحد من الخلق تغييرها، ولا تبديلها، ولا النظر فى شئ خالفها، من اهتدى بها فهو المهتد، ومن انتصر بها فهو منصور، ومن تركها اتبع غير سبيل المؤمنين، وولاه الله ما تولاه، وأصلاه جهنم، وساءت مصيراً"(3) .
(1) هو: عمر بن عبد العزيز بن مروان بن الحكم بن أبى العاص الأموى، أمير المؤمنين، أمه: أم عاصم بنت عاصم بن عمر بن الخطاب، ولى إمرة المدينة للوليد، وكان مع سليمان كالوزير، وولى الخلافة بعده، فعد من الخلفاء الراشدين، مدة خلافته سنتان ونصف، مات سنة 101هـ له ترجمة فى: طبقات الحفاظ للسيوطى ص53 رقم 101، وتقريب التهذيب 1/722 رقم 4956، ومشاهير علماء الأمصار ص209 رقم 1411.
(2)
أخرجه الدارمى فى سننه المقدمة، باب ما يتقى من تفسير حديث النبى صلى الله عليه وسلم وقول غيره عند قوله صلى الله عليه وسلم 1/126 رقم 433.
(3)
الشريعة للآجرى ص48، 65، وجامع بيان العلم لابن عبد البر 2/186، 187.
فتأمل ما قاله خامس الخلفاء الراشدين على ملأ من الحاضرين لخطبته: "فما أحل الله على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم، فهو حلال إلى يوم القيامة، وما حرم
…
الخ، وقوله: "الأخذ بما سن رسول الله صلى الله عليه وسلم
…
اتباع لكتاب الله، واستكمال لطاعة الله، وقوة على دين الله
…
الخ. تأمل ذلك تعلم عن يقين إيمان السلف جميعاً، بأن سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحى من عند الله عز وجل، واجبة الاتباع إلى يوم الدين.
وهكذا توضح الآيات القرآنية، والأحاديث النبوية، وأقوال السلف أن السنة النبوية وحى من الله تعالى، إلى رسوله صلى الله عليه وسلم، وهى صالحة لكل زمان ومكان، وواجبه الاتباع كالقرآن سواء بسواء، وعلى ذلك إجماع الأمة (1) منذ عهد نبيها صلى الله عليه وسلم، إلى يومنا هذا، وإلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، دون اعتبار لقول من شذ، من المرجفين فى دين الله، العاملين على هدم كيان السنة المطهرة، والسيرة العطرة.
رابعاً: إذا تقرر لك أن لرسول الله صلى الله عليه وسلم، سنة، هى وحى من ربه عز وجل، واجب قبولها واتباعها، فقد حان الوقت لبيان حقيقة وهدف تمسح أعداء السنة، بإيمانهم ببيان نبوى لرسول الله صلى الله عليه وسلم فى رسالته.
…
(1) ينظر: إرشاد الفحول للشوكانى 1/158، وتيسير التحرير لمحمد أمين 3/22، والتقرير والتحبير لابن أمير الحاج 2/225، والتلويح فى كشف حقائق التنقيح لسعد الدين التفتازانى 1/38، وفواتح الرحموت لعبد العلى الأنصارى 1/16، 17.
إن من يتسترون بعباءة القرآن، ويستدلون بظاهره، على أن مهمة الرسول الوحيدة هى تبليغ القرآن فقط، وجدوا أنفسهم فى مأزق من القرآن الكريم، حيث يصرح بتبيان لرسول الله صلى الله عليه وسلم فى رسالته زائد على مجرد البلاغ، فاعترف بعضهم بهذا التبيان، إلا أنهم لا يعترفون بأن هذا التبيان، المراد به الحكمة، والتى فسرت بأنها سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنها بوحى من الله تعالى على ما سبق قريباً ومن هنا كان إيمانهم بهذا التبيان النبوى إيماناً كاذباً من وجهين:
الوجه الأول: أنهم يشترطون لهذا البيان النبوى أن يوافق القرآن الكريم بمفهومهم هم، القائم على إنكار السنة المطهرة؛ بدليل أنهم ينكرون جميع أنواع بيان السنة للقرآن؛ من تأكيد السنة لما جاء فى القرآن الكريم، وتفصيل لمجمله، وتقييد لمطلقه، وتخصيص لعامه، وتوضيح لمشكله، سواء كان هذا البيان فى العبادات من طهارة، وصلاة، وزكاة، وحج، أو فى المعاملات من بيع وشراء، ورهن، وسلم
…
الخ أو فى الحدود من قطع، ورجم،
…
الخ، أو فى الأحوال الشخصية من نكاح، وطلاق، ورضاع، وميراث. وغير ذلك (1) .
…
وبالجملة: ينكرون جميع أنواع بيان رسول الله صلى الله عليه وسلم، لما اشتمل عليه القرآن الكريم، من عقائد وأحكام فى الدين والدنيا (2) .
(1) ينظر: تفصيل كل ما سبق بأمثلته فى: منزلة السنة من الكتاب للأستاذ محمد سعيد منصور ص125 – 466، والمدخل إلى السنة النبوية للدكتور عبد المهدى عبد القادر ص135 – 148، ومنزلة السنة فى التشريع الإسلامى للدكتور محمد الجامى ص22 – 30.
(2)
يراجع: مصادرهم السابقة ص327 – 328.
والوجه الثانى: أنهم حتى مع تظاهرهم بالإيمان بالبيان النبوى؛ فقيمة هذا الإيمان كعدمه. وتأمل كلام إسماعيل منصور بعد قوله السابق: "أن لرسول الله، بيان نبوى للقرآن، نرفعه على العين والرأس، متى ثبت تحقيقاً، لا يخالف بأى حال، أحكام ومدلولات القرآن الكريم
…
الخ (1) قال فى وصف قيمة هذه السنة البيانية: "إنها للاستئناس لا للاستدلال، وللبيان لا للإثبات، الأمر الذى يجعل الآخذين بها والرافضين لها، أمام الشرع على حد سواء. فلا إلزام لأى طرف منهما على قبول رأى الآخر، فالأخذ بها فعله مقبول، والرافض لها فعله مقبول كذلك"(2) .
…
قلت: فإذا كان هذا البيان لكتاب الله، الآخذ به والرافض له سواء! فأى قيمة لهذا البيان، حتى لو اعترفوا بأن هذا البيان هو السنة؟!.
(1) يراجع: ص339.
(2)
تبصير الأمة بحقيقة السنة ص663.
وتأمل أيضاً ما قاله عبد العزيز الخولى: "وأما ما ورد فى السنة من أحكام، فإن كان مخالفاً لظاهر القرآن، فالقرآن مقدم عليه، ويعتبر ذلك طعناً فى الحديث من جهة متنه ولفظه، وإن صح سنده، فإن الحديث لا يكون حجة إلا إذا سلم سنده ومتنه من الطعن، ولذلك أجاز بعض المسلمين (1) نكاح المرأة على عمتها أو خالتها
…
إلى أن قال: "وإن كل ما فى السنة لا يخالف ظاهر القرآن، فهو اجتهاد من الرسول، يرجع إلى أصل قرآنى عرفه الرسول، وجهلناه نحن أو عرفناه"(2) فتأمل قوله فى البيان النبوى: "وجهلناه نحن أو عرفناه" إذ العبرة عنده فى أول الأمر وآخره، هى: ظاهر القرآن، سواء عرف السنة البيانية أم جهلها، فهى فى حالة معرفته بها، لم تضف جديداً، وفى هذه الحالة العبرة بالقرآن، وفى حالة استقلالها بتشريع أحكام جديدة، تكون السنة مخالفة لظاهر القرآن؛ فلا حجة فيها. هكذا حال لسانه! ولا أدرى من أين فهموا قيمة هذا البيان النبوى للقرآن الكريم؟ حيث أن آيات القرآن الكريم السابق ذكرها، والتى تسند مهمة البيان، تصرح بأن هذا البيان وحى من الله عز وجل:{ثم إن علينا بيانه} (3){إن أنزلنا إليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس بما أراك الله} (4) وغير ذلك من الآيات (5) .
…
فهل فى الإسلام، وحى واجب الاتباع؛ ووحى الآخذ به، فعله مقبول والرافض له، فعله مقبول أيضاً؟!!.
(1) صرح فى هامش كتابه مفتاح السنة ص7، بأنهم الخوارج، والشيعة، والروافض فهل هؤلاء مسلمون؟!! ينظر: نيل الأوطار للشوكانى 6/148 حيث نقل عن الإمام القرطبى إجماع المسلمين على التحريم، واستثنى الخوارج. قال: ولا يعتد بخلافهم لأنهم مرقوا من الدين أهـ.
(2)
مفتاح السنة ص6 – 11.
(3)
الآية 19 القيامة.
(4)
الآية 105 النساء.
(5)
يراجع: ص342، 343.
.. وإذا كان هذا البيان النبوى يحل مشاكل الاختلاف التى يمكن أن تحدث بين العباد، فى فهم وتطبيق، المراد من مجمل القرآن، وعامة، ومطلقة، ومشكلة
…
الخ كما صرح بذلك القرآن الكريم فى قوله تعالى: {وما أنزلنا عليك الكتاب إلا لتبين لهم الذى اختلفوا فيه وهدى ورحمة لقوم يؤمنون} (1) .
…
فهل يعقل أو يقبل بعد ذلك أن يكون هذا البيان النبوى غير ملزم؛ ولا واجب الاتباع؟! وما فائدة تنويه القرآن إلى هذا البيان النبوى حينئذ؟! وما قيمة المبين (القرآن) مع عدم حجية البيان (السنة) ؟ إن البيان النبوى (السنة المطهرة) متى صح تكون منزلته، ومنزلته القرآن، سواء بسواء فى حجيته، ووجوب العمل به؛ وعلى هذا انعقد إجماع من يعتد به من علماء الأمة قديماً وحديثاً (2) .
خامساً: زعم بعضهم أن ما استقلت به السنة المطهرة من أحكام، مرفوض بحجة مخالفته للقرآن الكريم، وفيه تشويه لسيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم بجعله مشرعاً (3) ويضربون أمثلة بحد المحصن "الرجم" وحد الردة "القتل".
…
وهذه المزاعم يجاب عنها بما يلى:
(1) الآية 640 النحل مع آية 39 من نفس السورة {ليبين لهم الذى يختلفون فيه وليعلم الذين كفروا أنهم كانوا كاذبين} 0
(2)
ينظر: منزلة السنة من الكتاب للأستاذ محمد سعيد منصور ص469، 470، وحجية السنة للدكتور عبد الغنى عبد الخالق ص444، 445.
(3)
يراجع: كلام صالح الوردانى ص339.
يتفق العلماء أجمع على وجود أحكام، لم ترد فى القرآن، لا نصاً ولا صراحة، ولكنهم يختلفون خلافاً لفظياً، حول تسمية تلك الأحكام الواردة فى السنة. فالجمهور من العلماء يقولون: إن هذا هو الاستقلال فى التشريع بعينه؛ لأنه إثبات لأحكام لم ترد فى القرآن، وأن هذه الأحكام واجبة الاتباع، عملاً بعشرات الآيات التى تأمر بطاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم، واتباعه، وتحذر من مخالفته، وهذه الآيات جميعها (1) تستلزم أن يكون هناك أمور من الدين تأتى بها السنة، وهى حجة، وإلا فلا معنى للأمر بطاعته صلى الله عليه وسلم.
أما الإمام الشاطبى (2) ومن نحا نحوه: فإنهم مع إقرارهم بوجود أحكام لم ترد فى القرآن إلا أنهم يقولون: إنها ليست زيادة على شئ ليس فى القرآن، وإنما هى زيادة الشرح، المستنبط من المشروح بإلهام إلهى، ووحى ربانى وتأييد سماوى، وبعبارة أخرى: هى داخلة تحت أى نوع من أنواع السنة البيانية، أو داخلة تحت قاعدة من قواعد القرآن الكريم. وهم بذلك يرون أن تلك الأحكام لا تخالف القرآن الكريم.
(1) سيأتى تفصيل تلك الآيات فى المطلب التالى ص364.
(2)
هو إبراهيم بن موسى الغرناطى، الشهير بالشاطبى، أبو إسحاق، مفسر، أصولى، لغوى، محدث، ورع زاهد، من مؤلفاته النفيسة: الموافقات فى أصول الفقه، والاعتصام فى الحوادث والبدع، مات سنة= =790هـ له ترجمة فى: شجرة النور الزكية لمحمد مخلوف 231 رقم 828، والمجددون فى الإسلام لعبد المتعال الصعيدى ص305، والفتح المبين لعبد الله المراغى 2/204، وأصول الفقه وتاريخه للدكتور شعبان إسماعيل ص384.
وفى ذلك يقول الإمام الشاطبى رداً على دعوى مخالفة الرجم للقرآن الكريم يقول: "قولهم (1) هذا مخالف لكتاب الله عز وجل، لأنه قضى صلى الله عليه وسلم بالرجم والتغريب (2) وليس للرجم ولا للتغريب فى كتاب الله ذكر، فإن كان الحديث باطلاً فهو ما أردنا، وإن كان حقاً فقد ناقض كتاب الله بزيادة الرجم والتغريب. يقول الشاطبى: فهذا اتباع للمتشابه، لأن الكتاب فى كلام العرب، وفى الشرع يتصرف على وجوه منها: الحكم والفرض كقوله تعالى: {كتاب الله عليكم} (3) أى فرض الله عليكم وقوله: {كتب عليكم الصيام} (4) أى فرض عليكم، وكذا قوله {وقالوا ربنا لم كتبت علينا القتال} (5) فكان المعنى: "لأقضين بينكما بكتاب الله" أى بحكم الله وفرضه الذى شرع لنا، ولا يلزم أن يوجد هذا الحكم فى القرآن، كما أن الكتاب يطلق على القرآن، فتخصيصهم الكتاب بأحد المحامل من غير دليل اتباع لما تشابه من الأدلة"(6) .
(1) يحكى الإمام هذا الكلام عن أهل الابتداع قديماً، وحديثاً تابعهم من سبق ذكرهم ص339، 340.
(2)
إشارة إلى قوله صلى الله عليه وسلم، لوالد الزانى بامرأة الرجل الذى صالحه على الغنم والخادم:"والذى نفسى بيده لأقضين بينكما بكتاب الله، الوليدة والغنم رد. وعلى ابنك، جلد مائة، وتغريب عام" أخرجه من حديث أبى هريرة وزيد بن خالد الجهنى، مسلم (بشرح النووى) كتاب الحدود، باب من اعترف على نفسه بالزنا 6/214 رقمى 1697، 1698، والبخارى (بشرح فتح البارى) كتاب الحدود، باب الاعتراف بالزنا 12/140 رقمى 6827، 6828.
(3)
جزء من الآية 24 النساء.
(4)
جزء من الآية 183 البقرة.
(5)
جزء من الآية 77 النساء.
(6)
الاعتصام 1/199، 200، 2/558، 559، وينظر: تأويل مختلف الحديث لابن قتيبة ص88 – 90، وضلالات منكرى السنة للدكتور طه حبيشى ص295.
ثم قال الإمام الشاطبى: "وقول من زعم (1) أن قوله تعالى فى الإماء: {فإن أتين بفاحشة
فعليهن نصف ما على المحصنات من العذاب} (2) لا يعقل مع ما جاء فى الحديث: أن النبى صلى الله عليه وسلم رجم، ورجمت الأئمة بعده (3) ؛ لأنه يقتضى أن الرجم ينتصف، وهذا غير معقول، فكيف يكون نصفه على الإماء؟ هذا ذهاباً منهم إلى أن المحصنات هن ذوات الأزواج، وليس كذلك، بل المحصنات هنا المراد بهن الحرائر، بدليل قوله أول الآية:{ومن لم يستطع منكم طولاً أن ينكح المحصنات المؤمنات فمن ما ملكت أيمانكم من فتياتكم المؤمنات} (4) وليس المراد هنا إلا الحرائر؛ لأن ذوات الأزواج لا تنكح" (5) .
(1) حكاية منه عن أهل الابتداع قديماً، وتابعهم حديثا. توفيق صدقى فى مقاله:"الإسلام هو القرآن وحده" فى مجلة المنار المجلد 9/523، 524، وأحمد حجازى السقا فى كتابيه إعجاز القرآن ص79، ودفع الشبهات ص108، والسيد صالح أبو بكر فى الأضواء القرآنية ص313، 314، ومصطفى المهدوى فى البيان بالقرآن 1/334، 356، ونيازى عز الدين فى دين السلطان ص948، وأحمد صبحى منصور فى لماذا القرآن ص112 وغيرهم.
(2)
جزء من الآية 25 النساء.
(3)
يشير إلى قول عمر بن الخطاب: "رجم رسول الله صلى الله عليه وسلم، ورجم أبو بكر، ورجمت
…
الحديث أخرجه الترمذى فى سننه، كتاب الحدود، باب ما جاء فى تحقيق الرجم 4/29 رقم 1431 وقال حسن صحيح، ومالك فى الموطأ كتاب الحدود، باب ما جاء فى الرجم 2/628 رقم 10، والشافعى فى مسنده ص294 رقم 792، والبيهقى فى السنن الكبرى 8/213.
(4)
الآية 25 النساء.
(5)
الاعتصام 2/509، 560، وينظر: تأويل مختلف الحديث ص177، 178.
قلت: وكذلك حد الردة الذى يزعمون أنه يناقض القرآن الكريم تجد أصله فى كتاب الله عز وجل، وتأمل قوله تعالى:{إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون فى الأرض فساداً أن يقتلوا} (1) والمحاربة والإفساد يكون باليد وباللسان، بل إن محاربة الله ورسوله باللسان أشد، والسعى فى الأرض لفساد الدين باللسان أوكد، ومن هنا كان المرتد عن دين الإسلام، المحارب لله ورسوله، أولى باسم المحارب المفسد من قاطع الطريق. ويؤيد أن المحارب لله ورسوله باللسان قد يفسر بالمحارب قاطع الطريق، ما رواه أبو داود فى سننه مفسراً لقوله صلى الله عليه وسلم:"التارك لدينه المفارق للجماعة"(2) عن عائشة رضى الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا يحل دم امرئ مسلم، يشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، إلا بإحدى ثلاث، رجل زنى بعد إحصان، فإنه يرجم، ورجل خرج محارباً لله ورسوله، فإنه يقتل أو يصلب، أو ينفى من الأرض، أو يقتل نفساً فيقتل بها"(3) .
ويؤيد أن المرتد عن دين الإسلام، المشكك والطاعن فى كتاب الله عز وجل، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، محارب لله ورسوله، وتشمله الآية الكريمة ما روى عن أنس، وابن عمر، وابن عباس، وغيرهم. أن آية المحاربة نزلت فى قوم عرينة: سرقوا، وقتلوا، وكفروا بعد إيمانهم، وحاربوا الله ورسوله.
(1) الآية 33 المائدة.
(2)
عن ابن مسعود مرفوعاً: "لا يحل دم امرئ مسلم، يشهد أن لا إله إلا الله، وأنى رسول الله، إلا بإحدى ثلاث، الثيب الزانى، والنفس بالنفس، والتارك لدينه المفارق للجماعة" أخرجه مسلم (بشرح النووى) كتاب القسامة، باب ما يباح به دم المسلم 6/179 رقم 1676، والبخارى (بشرح فتح البارى) كتاب الديات، باب قوله تعالى:"أن النفس بالنفس" 12/209 رقم 6878.
(3)
أخرجه أبو داود فى سننه كتاب الحدود، باب الحكم فيمن ارتد 4/126 رقم 4353، ورجاله كلهم ثقات فالإسناد صحيح.
فعن ابن عمر: أن ناساً أغروا على إبل النبى صلى الله عليه وسلم، فاستقوها، وارتدوا عن الإسلام، وقتلوا راعى رسول الله صلى الله عليه وسلم، مؤمناً، فبعث فى آثارهم، فأخذوا، فقطع أيديهم وأرجلهم، وسَمَلَ أعينهم، قال: ونزلت فيهم آية المحاربة (1) .
ويدل أيضاً على قتل المرتد قوله تعالى: {لئن لم ينته المنافقون والذين فى قلوبهم مرض والمرجفون فى المدينة لنغرينك بهم ثم لا يجاورونك فيها إلا قليلاً ملعونين أينما ثقفوا أخذوا وقتلوا تقتيلا سنة الله فى الذين خلوا من قبل ولن تجد لسنة الله تبديلاً} (2) .
قال الحسن البصرى (3) : أراد المنافقون أن يظهروا ما فى قلوبهم من النفاق، فأوعدهم الله فى هذه الآية، فكتموه وأسروه (4) وهذا يعنى: أن المنافق حين يظهر كفره، ويطعن فى دين الله عز وجل؛ يأخذ ويقتل عقاباً له.
(1) أخرجه أبو داود فى سنته كتاب الحدود، باب ما جاء فى المحاربة 4/131 رقم 4369، وينظر: الروايات الأخرى أرقام: 4364 – 4372، ففيها أيضاً التصريح بنزول آية المحاربة فيمن ارتدوا وحاربوا. وأصل قصة العرنيين فى الصحيحين. ينظر: صحيح البخارى (بشرح فتح البارى) كتاب الحدود، باب المحاربين من أهل الكفر والردة 12/111 – 114 أرقام 6802 – 6805، ومسلم (بشرح النووى) كتاب القسامة، باب حكم المحاربين المرتدين 6/167 رقم 1671.
(2)
الآية 60 الأحزاب.
(3)
هو: أبو سعيد الحسن بن أبى الحسن يسار البصرى، مولى زيد بن ثابت، كان عالماً رفيعاً، ثقة، حجة، ولد لسنتين بقيتا من خلافة عمر. مات سنة 110هـ له ترجمة فى: تذكرة الحفاظ 1/71 رقم 66، ووفيات الأعيان 2/69 رقم 156، وتهذيب التهذيب 2/263 رقم 488، وطبقات المفسرين للداودى 1/150 رقم 144.
(4)
الصارم المسلول على شاتم الرسول لابن تيميه ص348، 349، وينظر: الدر المنثور 5/222، وروح المعانى 22/ 90، 91.
والسؤال هنا: هل هناك شك فى أن المرتد عن دين الإسلام منافق؟ يسعى إلى تفريق جماعة المسلمين، وإفساد دينهم عليهم!.
إن المرتد، إن كانت ردته بينه وبين نفسه، دون أن ينشر ذلك بين الناس، ويثير الشكوك فى قلوبهم، فلا يستطيع أحد أن يتعرض له بسوء، فالله وحده هو المطلع على ما تخفى الصدور. أما إذا أظهر المرتد عن دين الإسلام ردته، وأثار الشكوك فى نفوس المسلمين بالنطق بكلمة الكفر، وإنكار ما هو معلوم من الدين بالضرورة، كان حاله حينئذ، حال المنافق الذى يظهر ما فى قلبه من الكفر والنفاق، وجهاده واجب عملاً بقوله تعالى:{يا أيها النبى جاهد الكفار والمنافقين واغلظ عليهم ومأواهم جهنم وبئس المصير. يحلفون بالله ما قالوا ولقد قالوا كلمة الكفر وكفروا بعد إسلامهم وهموا بما لم ينالوا وما نقموا إلا أن أغناهم الله ورسوله من فضله فإن يتوبوا يك خيراً لهم وإن يتولوا يعذبهم الله عذاباً أليماً فى الدنيا والآخرة وما لهم فى الأرض من ولى ولا نصير} (1) .
ووجه الدليل فى الآيتين: أن الله عز وجل، أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، بجهاد المنافقين كما أمره بجهاد الكافرين، وأن جهادهم إنما يمكن إذا ظهر منهم، من القول أو الفعل ما يوجب العقوبة، فإنه ما لم يظهر منهم شئ ألبتة لم يكن لنا سبيل عليهم. فإذا ظهر منهم كلمة الكفر. كما قال عز وجل:{وكفروا بعد إسلامهم} فجهادهم بالقتل؛ وهو العذاب الأليم الذى توعدهم به رب العزة فى الدنيا بقوله: {وإن يتولوا يعذبهم الله عذاباً أليماً فى الدنيا والآخرة} 0
(1) الآيتان 73، 74 التوبة.
وهذه الآية نظير قوله تعالى: {قل هل تربصون بنا إلا إحدى الحسنيين ونحن نتربص بكم أن يصيبكم الله بعذاب من عنده أو بأيدينا} (1) قال أهل التفسير: "أو بأيدينا" بالقتل؛ إن أظهرتم ما فى قلوبكم قتلناكم، وهو كما قالوا؛ لأن العذاب على ما يبطنونه من النفاق بأيدينا لا يكون إلا بالقتل لكفرهم (2) .
فهل بعد كل هذه الآيات الكريمات شك فى أن المرتد عن الإسلام إذا أظهر كلمة الكفر مثل المنافق جزاؤه القتل بصريح القرآن الكريم؟! وهل بعد ذلك شك فى أن حد الردة الوارد فى السنة المطهرة لا يناقض القرآن الكريم؟!.
إن ما زعمه أدعياء العلم، من مخالفة حد الرجم، وحد الردة، لكتاب الله عز وجل، زعم باطل، فتلك الأحكام الجديدة التى جاءت بها السنة المطهرة، هى تبيان لكتاب الله عز وجل، ولا تخالفه على ما سبق، وهذا على رأى من لا يسمى الأحكام الزائدة أو الجديدة فى السنة استقلالاً. أما من يسميها استقلالاً، فيقر بها، ويرى أنها واجبة الاتباع، عملاً بنص القرآن على وجوب طاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ووجوب قبول كل ما أخبر به أو قضى به.
وأنت ترى هنا أن الخلاف بين العلماء فى الأحكام الجديدة الواردة فى السنة المطهرة، الخلاف بينهم لفظى، فالكل يعترف بوجود أحكام فى السنة المطهرة، لم تثبت فى القرآن الكريم، ولكن بعضهم لا يسمى ذلك استقلالاً، والبعض الآخر يسميه. والنتيجة واحدة؛ وهى حجية تلك الأحكام الزائدة، ووجوب العمل بها.
(1) الآية 52 التوبة؛ وهذه الآية نظير قوله تعالى: {سنعذبهم مرتين ثم يردون إلى عذاب عظيم} الآية 101 التوبة، والمراد بالمرة الأولى فى الدنيا بقتلهم، والثانية فى البرزخ فى قبورهم. ينظر: تفسير القرآن العظيم 4/143، وفتح البارى 3/286 رقم 1369.
(2)
الصارم المسلول على شاتم الرسول صلى الله عليه وسلم ص345.
ب- ليس فى الأحكام الزائدة على كتاب الله عز وجل، ما يشوه سيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم، بجعله مشرعاً؛ كما يزعم أعداء السنة المطهرة! لأن الله تعالى قد جعل من جملة صفات رسوله صلى الله عليه وسلم، ومن مهامه الكبار، أنه يحلل ويحرم، وهكذا جاء وصفه صلى الله عليه وسلم فى الكتب السماوية السابقة، وهو عليه الصلاة والسلام، لا يشرع من عند نفسه، إنما يشرع حسب ما يريه الله تعالى ويوحيه إليه، لأنه لا ينطق عن الهوى، وتأمل قوله تعالى:{الذين يتبعون الرسول النبى الأمى الذى يجدونه مكتوباً عندهم فى التوراة والإنجيل يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث ويضع عنهم إصرهم والأغلال التى كانت عليهم فالذين آمنوا به وعزروه ونصروه واتبعوا النور الذى أنزل معه أولئك هم المفلحون} (1) .
…
فقوله تعالى: "يحل، يحرم، يضع" هذه من خصائص المشرع الحقيقى، ولكنه صلى الله عليه وسلم، لا يفعل من عند نفسه كما قلت، إنما يوحى الله تعالى إليه. فأطايب اللحم، كان محرماً على بنى إسرائيل:{إلا ما حرم إسرائيل على نفسه} (2) فقد أباحه النبى صلى الله عليه وسلم، كلحم الإبل، وشحم البقر، والغنم، على التفصيل المذكور فى قوله تعالى:{وعلى الذين هادوا حرمنا كل ذى ظفر ومن البقر والغنم حرمنا عليهم شحومهما إلا ما حملت ظهورهما أو الحوايا أو ما اختلط بعظم ذلك جزيناهم ببغيهم وإنا لصادقون} (3) .
(1) الآية 157 الأعراف.
(2)
جز من الآية 93 آل عمران.
(3)
الآية 146 الأنعام.
.. وقوله تعالى: {ويحرم عليهم الخبائث} كالميتة، والخنزير، والخمر، والربا
…
الخ وقوله تعالى: {ويضع عنهم إصرهم} أى ثقلهم {والأغلال} أى القيود التى كانت عليهم، كوجوب قتل النفس فى التوبة، بينما فى ديننا هو الاستغفار والندم، وغسل النجاسة بالماء، بينما كانت تقرض بالمقراض، فهذا كله تخفيف من الله تعالى ورحمة، أوحى به إلى نبيه صلى الله عليه وسلم، وعلينا السمع والطاعة والامتثال.
…
وبالجملة: إذا قيل إن رسول الله صلى الله عليه وسلم، له حق التشريع، فمرد هذا التشريع عند من يقول بذلك إلى الله عز وجل. لأن ما يصدر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فى تبيانه لكتاب الله، لا يخلو عن أن يكون هذا البيان النبوى – حتى ولو كان بأحكام زائدة – أوحى الله تعالى بمعناه إلى رسوله صلى الله عليه وسلم، وعبر عنه رسول الله، بألفاظ من عنده، وهذا هو الأعم الأغلب فى السنة النبوية، فيجب قبوله، لما تقرر من عصمته صلى الله عليه وسلم فى بلاغه لوحى الله تعالى – قرآناً وسنة – وإما أن يقول رسول الله تبياناً أو حكماً باجتهاده مما يعلم أنه من شرع الله تعالى، فإن وافق قوله أو فعله أو حكمه مراد الله عز وجل، فالأمر كما أخبر به عليه الصلاة والسلام. وإن كان الأمر يحتاج إلى صحيح أو توضيح؛ أوحى الله تعالى إلى نبيه بالتصحيح. وهذا هو الأقل النادر فى السنة النبوية.
…
وبهذا التصحيح تصبح السنة فى هذه الحالة؛ حكم الله فى النهاية، حجة على العباد إلى يوم الدين، وتجب طاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم. فى هذه السنة، بيانية كانت، أو زائدة على كتاب الله عزوجل. يدل على ذلك عشرات الآيات القرآنية التى تحض على طاعته صلى الله عليه وسلم وتحذر من مخالفته.
…
وإذا كان أعداء السنة المطهرة، والسيرة العطرة، ينكرون ذلك. ويزعمون أن طاعته صلى الله عليه وسلم تنحصر فى القرآن فقط.
فإلى بيان شبهتهم فى المطلب التالى والرد عليها