الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ثالثاً: العصمة سبيل الاقتداء بالنبى صلى الله عليه وسلم:
…
إذا كانت العصمة فى التبليغ للنبى صلى الله عليه وسلم لها دلالتها على حجية كل ما يبلغ من الوحي سواء كان متلواً من القرآن الكريم، أو غير متلواً من السنة المطهرة، فالعصمة لرسول الله صلى الله عليه وسلم فى أقواله، وأفعاله، وتقريراته، وأوامره ونواهيه، مما هو ليس من باب البلاغ، مما كان فى أمور الدنيا، وأحوال نفسه الشريفة، لها أيضاً دلالتها على الاقتداء به صلى الله عليه وسلم 0
…
ومن هنا جرت عادة علماء الأصول قبل كلامهم عن أفعاله صلى الله عليه وسلم أن يقدموا عليها الكلام على العصمة؛ لأجل أنه ينبنى عليها وجوب التأسى بأفعاله صلى الله عليه وسلم (1) .
…
وعصمة رسول الله صلى الله عليه وسلم من الكبائر والصغائر فى أقواله وأفعاله مما ليس سبيله البلاغ دل عليها القرآن الكريم، والسيرة العطرة، والسنة المطهرة، وإجماع الأمة.
أ- ففى القرآن الكريم تجد شهادة رب العزة لأنبيائه ورسله - عليهم الصلاة والسلام بعصمتهم من الصغائر فى سلوكهم.
1-
قال تعالى: {أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده} (2) فما كان عز وجل أن يحث نبيه
صلى الله عليه وسلم على الاقتداء والأسوة بأنبيائه ورسله إلا وهم معصومون من الصغائر.
(1) ينظر: الإحكام للآمدى 1/156، والبرهان للجوينى 1/181، والمستصفى للغزالى 2/212، والمحصول فى علم اٍلأصول للرازى 1/501، والمعتمد فى أصول الفقه 1/342، والبحر المحيط 4/169، وإرشاد الفحول 1/159، وأفعال النبى صلى الله عليه وسلم ودلالتها على الأحكام الشرعية للدكتور عمر سليمان الأشقر 1/139 - 140.
(2)
الآية 90 الأنعام.
2-
وقال سبحانه: {لقد كان لكم فى رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر وذكر الله كثيرا} (1) ففى تلك الآية الكريمة جعل المولى عز وجل التأسى بنبيه صلى الله عليه وسلم من لوازم رجائه تعالى واليوم الآخر، وما كان سبحانه يجعل الاقتداء بنبيه صلى الله عليه وسلم من لوازم رجاءه تعالى واليوم الآخر، إلا وهو صلى الله عليه وسلم معصوم فى سلوكه من الصغائر.
3-
وقال عز وجل: {قل إن كنتم تحبون الله فاتبعونى يحببكم الله} (2) .
4-
وقال سبحانه: {فآمنوا بالله ورسوله النبى الأمى الذى يؤمن بالله وكلماته واتبعوه لعلكم تهتدون} (3) فقوله: "فاتبعونى"، "واتبعوه" أى اسلكوا مسلكه، واحذوا حذره صلى الله عليه وسلم فى جميع أموره من قول وفعل.
ووجه الاستدلال فى الآيتين أنه تعالى جعل الاقتداء والمتابعة لرسوله صلى الله عليه وسلم لازمة من محبته عز وجل الواجبة، ولازمة للهداية والفلاح فى الدنيا والآخرة. وما تلك الملازمة وسابقتها إلا شهادة من رب العزة لرسوله صلى الله عليه وسلم على عصمته من الصغائر فى كل أقواله وأفعاله.
(1) الآية 21 الأحزاب.
(2)
الآية 31 آل عمران.
(3)
الآية 158 الأعراف.
ب- أما السيرة العطرة: فتشهد أيضاً بعصمته صلى الله عليه وسلم من الصغائر فى أحواله كلها حيث لم يعلم عنه صلى الله عليه وسلم الوقوع فى صغيرة ولا الدنو من شئ منها، مع أن سبل النقل عنه صلى الله عليه وسلم أحصت كل حركة من حركاته، وكل قول من أقواله، فما ترك الصحابة رضى الله عنهم فعلاً من أفعاله، ولا قولاً من أقوله، دق أو جلَّ إلا نقلوه إلينا عنه، حتى أنهم وصفوا يقظته، ونومه، كما وصفوا حديثه وصمته، وقيامه وجلوسه، وسيره وركوبه وترجله وجميع شمائله، إلى غير ذلك مما هو مدون فى كتب الحديث والمشائل والمغازى والسير، لأنهم كانوا يرون ذلك تبليغاً عنه، وقد أمرهم صلى الله عليه وسلم بالتبليغ عنه بقوله صلى الله عليه وسلم فى حجة الوداع:"ألا ليبلغ الشاهد الغائب، فلعل بعض من يبلغه أن يكون أوعى له من بعض من سمعه"(1) .
(1) أخرجه مسلم (بشرح النووى) كتاب القسامة، باب تغليظ تحريم الدماء والأعراض 6/182 رقم 1679، والبخارى (بشرح فتح البارى) كتاب التوحيد، باب قال الله تعالى {وجوه يومئذ ناضرة إلى ربها ناظرة} 13/433 رقم 7447 من حديث أبى بكرة رضى الله عنه.
.. وقولهم صلى الله عليه وسلم: "نضر الله امرءاً سمع منا حديثاً؛ فحفظه حتى يبلغه غيره، فرب حامل فقه إلى من هو أفقه منه، ورب حامل فقه ليس بفقيه"(1) فلو رأى الصحابة – رضى الله عنهم – أو سمعوا منه شيئاً مما أجازه عليه بعض أهل العلم من قربه الصغائر – وحاشاه من ذلك – لما فاتهم نقل ذلك عنه ضمن ما نقلوه من أقواله، وأفعاله، وتقريراته، وصفاته.
…
ولكنهم رضى الله عنهم لم ينقلوا عنه شيئاً من ذلك – فيما علمنا – ولو رأوا منه شيئاً من ذلك أو علموه عنه لنقلوه إلينا، وعُلم عنهم لتوافر دواعى النقل عنه.
(1) أخرجه أبو داود فى سننه كتاب العلم، باب فضل نشر العلم 3/322 رقم 3660، والترمذى فى سننه كتاب العلم، باب ما جاء فى الحث على تبليغ السماع 5/33 رقم 2656 وقال حديث حسن، وابن ماجه فى سننه المقدمة، باب من بلغ علماً 1/84 رقم 230 من حديث زيد بن ثابت رضى الله عنه، وللحديث شاهد من حديث ابن مسعود رضى الله عنه أخرجه ابن حبان فى صحيحه (الإحسان بترتيب صحيح ابن حبان) كتاب العلم، باب دعاء المصطفى صلى الله عليه وسلم لمن أدى من أمته حديثاً سمعه 1/268 رقم 66.
.. فالقول بعصمة رسول الله صلى الله عليه وسلم من جميع الذنوب كبيرها وصغيرها، سرها، وجهرها، عمدها وسهوها هو ما أَدين لله تعالى به؛ فقد كانت أقواله وأفعاله صلى الله عليه وسلم وأحواله كلها تشريعاً تقتضى المتابعة والاقتداء، إلا ما ورد الدليل فيها على أنه من خصائصه صلى الله عليه وسلم (1) أو ما ورد الدليل فيه أنه ليس من جنس ما يشرع لهم التأسى به فيه إلا عند وجود السبب (2) .
(1) نحو نكاحه أكثر من أربع، وكالوصال فى الصوم، وأن ماله بعده صدقة لا ميراث، ونحو ذلك من خصائصه صلى الله عليه وسلم الكثيرة. إن شئت فانظرها فى الخصائص الكبرى للسيوطى والمواهب اللدنية وشرحها للزرقانى 7/140 – 185.
(2)
نحو ما روى عن أبى هريرة رضى الله عنه قال: أقيمت الصلاة وعدلت الصفوف قياماً، فخرج إلينا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما قام فى مصلاة ذكر أنه جنب، فقال لنا:"مكناكم" ثم رجع فاغتسل، ثم خرج إلينا ورأسه يقطر، فكبر فصلينا معه". فالصحابة رضى الله عنهم فى هذا الموقف لم ينصرف واحد منهم يفعل فعل النبى صلى الله عليه وسلم، لعملهم أن هذا ليس من جنس ما يشرع لهم التأسى به فيه، إلا عند وجوب السبب أهـ ينظر: المحقق من علم الأصول لأبى شامة ص99، 100، والحديث أخرجه البخارى (بشرح فتح البارى) كتاب الغسل، باب إذا ذكر فى المسجد أنه جنب خرج 1/456 رقم 275،ومسلم (بشرح النووى) كتاب المساجد، باب متى يقوم الناس للصلاة 3/110 رقم 1106.
.. ولا يكون لأقواله وأفعاله صلى الله عليه وسلم ذلك الوصف التشريعى إلا بالقول بوجوب العصمة لرسول الله صلى الله عليه وسلم من الصغائر خلافاً لمن أجازها من الفقهاء والمحدثين والمتكلمين (1) تمسكاً منهم بظواهر من القرآن الكريم، وبعض الأحاديث الصحاح التى ذكر فيها ما يشعر بوقوع الخطيئة من بعضهم، وسيأتى الجواب عن ذلك تفصيلاً (2) ويكفى فى الرد عليهم هنا إجمالاً ما سبق من شهادة القرآن الكريم والسيرة العطرة على عصمته صلى الله عليه وسلم من الصغائر، فضلاً عن إجماع الأمة.
ج- إجماع الأمة على عصمته صلى الله عليه وسلم من الصغائر:
(1) ينظر: جامع أحكام القرآن للقرطبى1/308، والمنهاج شرح مسلم للنووى 3/72، 73 رقم 574.
(2)
ص 111 – 181، 182 – 243.
.. حكى القاضى عياض (1) اتفاق السلف وإجماعهم على أنه لا يصدر عنه صلى الله عليه وسلم خبر بخلاف إخباره عنه فقال: "أما ما ليس سبيله البلاغ من الأخبار التى لا مستند لها إلى الأحكام، ولا أخبار المعاد، ولا تضاف إلى وحى، بل فى أمور الدنيا، وأحوال نفسه الشريفة؛ فالذى يجب تنزيه النبى صلى الله عليه وسلم عن أن يقع خبره فى شئ من ذلك بخلاف مخبره لا عمداً، ولا سهواً، ولا غلطاً، وأنه معصوم من ذلك فى حال رضاه، وفى حال سخطه، وجده مزحه، وصحته ومرضه، ودليل ذلك اتفاق السلف وإجماعهم عليه، وذلك أنى نعلم من دين الصحابة وعادتهم مبادرتهم إلى تصديق جميع أحواله، والثقة بجميع أخباره فى أى باب كانت، وعن أى شئ وقعت، وأنه لم يكن لهم توقف ولا تردد فى شئ منها، ولا إستثبات عن حاله عند ذلك هل وقع فيها سهو أم لا"(2) .
(1) هو: أبو الفضل عياض بن موسى اليحصبى، البستى المالكى، إمام حافظ، متمكن فى علم الحديث والأصول، والفقه، والعربية، له مصنفات عدة منها: طبقات المالكية، وشرح مسلم، ومن أجلها الشفا فى حقوق المصطفى صلى الله عليه وسلم، مات سنة 544هـ، له ترجمة فى: تهذيب الأسماء واللغات للنووى 2/43، وتذكرة الحفاظ للذهبى 4/1304 رقم 1083، وطبقات المفسرين للداودى 2/21 رقم 398 والديباج المذهب لابن فرحون المالكى ص270 رقم 351.
(2)
الشفا 2/135.
.. واستدل على ذلك بما جرى لسيدنا عمر بن الخطاب رضى الله عنه (1) مع ابن أبى الحقيق اليهودى حين إجلاهم من خيبر، حيث احتج عليه عمر رضى الله عنه بقوله صلى الله عليه وسلم:"كيف بك إذا أخرجت من خيبر تعدو بك قلوصك (2) ليلة بعد ليلة؟ ! " فقال اليهودى: كانت هزيلة (3) من أبى القاسم صلى الله عليه وسلم فقال له عمر: كذبت يا عدو الله! فأجلاهم عمر وأعطاهم قيمة ما كان لهم من الثمر مالاً وإبلاً وعروضاً من أقتاب وحبال وغير ذلك" (4) .
…
قال القاضى: "وأيضاً فإن أخباره وآثاره وسيره وشمائله معتنى بها مستقصى تفاصيلها، ولم يرد فى شئ منها استدراكه صلى الله عليه وسلم لغلط فى قول قاله، أو اعترافه بوهم فى شئ أخبر به.
(1) صحابى جليل له ترجمة فى: أسد الغابة 4/137 رقم 3830 والاستيعاب 3/1144 رقم 1878، وتاريخ الصحابة ص23 رقم 2، ومشاهير علماء الأمصار ص10 رقم3، والإصابة 2/456 رقم 5195.
(2)
القلوص: بفتح القاف، والصاد المهملة: هى الناقة الصابرة على السير، وقيل الشابة، وقيل أول ما يركب من إناث الإبل، وقيل الطويلة القوائم. ينظر القاموس المحيط 2/213، ومختار الصحاح ص548؛ والحديث أشار به رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى إخراجهم من خيبر، وكان ذلك من إخباره بالمغيبات قبل وقوعها.
(3)
تصغير هزلة، وهى المرة الواحدة من الهزل ضد الجد. القاموس المحيط 4/68، ومختار الصحاح ص695.
(4)
أخرجه البخارى (بشرح فتح البارى) كتاب الشروط، باب إذا اشترط فى المزارعة إذا شئت أخرجتك 5/385 رقم 2730.
.. قال: ولو كان ذلك لنقل كما نقل من قصته صلى الله عليه وسلم عما أشار به على الأنصار فى تلقيح النخل (1) وكان ذلك رأياً لا خبراً" يعنى فلا يدخله الصدق والكذب إلى أن قال: "فانقطع عن يقين بأنه لا يجوز على الأنبياء خلف فى قول أو فعل فى وجه من الوجوه لا بقصد، ولا بغير قصد، ولا تسامح فى تجويز ذلك عليهم حال السهو فيما ليس طريقه البلاغ" (2) .
…
قلت وما قاله القاضى عياض هو الذى أَدين لله تعالى به فى أحوال رسول الله صلى الله عليه وسلم كلها؛ فقد كانت جميع أقواله وأفعاله المتعلقة بأمور الدنيا، وأحوال نفسه الشريفة تشريعاً تقتضى المتابعة والاقتداء، وعلى ذلك سلفنا الصالح من الإيمان بعصمته فى أحواله كلها، ولهذا كانوا يسارعون إلى التأسى به. والأمثلة على ذلك كثيرة ومعلومة منها ما يلى:
1-
حرصهم على مضاهاته صلى الله عليه وسلم فى العبادة، كما فى قصة وصاله صلى الله عليه وسلم ورغبة بعض الصحابة
الوصال نحوه، على ما بين وصاله صلى الله عليه وسلم، ووصالهم من الفرق؛ حيث إنه صلى الله عليه وسلم إذا واصل يطعمه ربه ويسقيه بخلافهم، ومع ذلك فحرصوا على التأسى به فيه.
(1) يشير إلى ما أخرجه مسلم (بشرح النووى) كتاب الفضائل، باب وجوب امتثال ما قاله النبى صلى الله عليه وسلم شرعاً دون ما ذكره من معايش الدنيا على سبيل الرأى 8/128 رقم 2363 من حديث أنس وعائشة رضى الله عنهما أن النبى صلى الله عليه وسلم مر بقوم يلقحون، فقال: لو لم تفعلوا لصلح، قال: فخرج شيصاً – يعنى تمراً رديئاً – فمر بهم فقال: ما لنخلكم؟ فقالوا: قلت: كذا وكذا، فقال:"أنتم أعلم بأمور دنياكم" وسيأتى مزيد من بيان المراد بهذا الحديث فى شبهة أن اجتهاده صلى الله عليه وسلم يؤيد أن السنة النبوية ليست كلها وحى ص412.
(2)
الشفا 2/136 بتصرف يسير، وينظر: المنهاج شرح مسلم 3/73 رقم 574.
فعن أم المؤمنين عائشة رضى الله عنهما (1) قالت: "نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الوصال رحمة لهم، فقالوا: إنك تواصل. قال: إنى لست كهيئتكم، إنى يطعمنى ربى ويسقينى"(2) .
2-
ومنها قصة اتخاذه صلى الله عليه وسلم خاتماً من ذهب حيث اتخذ الناس خواتيم كذلك، فطرحه النبى صلى الله عليه وسلم، فطرح الناس خواتيمهم.
فعن عبد الله بن عمر رضى الله عنهما (3) قال: "اتخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم خاتماً من ذهب، فاتخذ الناس خواتيم من ذهب، فقال النبى صلى الله عليه وسلم: "إنى اتخذت خاتماً من ذهب، فنبذه، وقال:"إنى لن ألبسه أبداً" فنبذ الناس خواتيمهم" (4) .
(1) لها ترجمة فى: تذكرة الحفاظ 1/27 رقم 12، وتاريخ الصحابة ص201 رقم 1072، وأسد الغابة 7/186 رقم 7093، والاستيعاب 4/1881 رقم 3476، والإصابة 8/16 رقم 11461.
(2)
أخرجه البخارى (بشرح فتح البارى) كتاب الصوم، باب الوصال 4/238 رقم 1964، ومسلم (بشرح النووى) كتاب الصيام، باب النهى عن الوصال فى الصوم 4/229 رقم 1105.
(3)
صحابى جليل له ترجمة فى: أسد الغابة 3/336 رقم 3082، والاستيعاب 3/340 رقم 1630، ومشاهير علماء الأمصار ص23 رقم 55، والإصابة 2/347 رقم 4852.
(4)
أخرجه البخارى (بشرح فتح البارى) فى عدة أماكن منها كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة، باب الاقتداء بأفعال النبى صلى الله عليه وسلم 13/288 رقم 7298، ومسلم (بشرح النووى) كتاب اللباس والزينة، باب تحريم الذهب على الرجال 7/315 رقم 2091.
3-
وعن أبى سعيد الخدرى رضى الله عنه (1) قال: "بينما رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلى بأصحابه إذ خلع نعليه فوضعهما عن يساره، فلما رأى ذلك القوم ألقوا نعالهم، فلما قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاته، قال: "ما حملكم على إلقائكم نعالكم؟ " قالوا: رأيناك ألقيت نعليك فألقينا نعالنا، فقال: صلى الله عليه وسلم إن جبريل عليه السلام أتانى فأخبرنى أن فيهما قذراً، وقال: إذا جاء أحدكم إلى المسجد فلينظر: فإن رأى فى نعليه قذراً أو أذى فليمسحه وليصل فيهما"(2) ويلاحظ هنا فى الحديث مسارعة صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى متابعته صلى الله عليه وسلم فى خلع نعليه، وهو فعل من أفعال العادة، وفى ذلك أقوى دليل على فهمهم واعتقادهم بعصمة رسول الله صلى الله عليه وسلم من الصغائر حتى فى أفعاله الجبلية.
(1) هو سعد بن مالك، صحابى جليل له ترجمة فى: تذكرة الحفاظ 1/44 رقم 22، ومشاهير علماء الأمصار ص17 رقم 26، وأسد الغابة 2/451 رقم 2036، والاستيعاب 2/1671 رقم 958.
(2)
أخرجه أبو داود فى سننه كتاب الصلاة، باب الصلاة فى النعل 1/175 رقمى 650، 651، والدارمى فى سننه كتاب الصلاة، باب الصلاة فى النعلين 1/370 رقم 1378، وفيه عمرو بن عيسى أبو نعامة – صدوق – كما قال الحافظ فى التقريب 1/742 رقم 5105 وبقية رجاله ثقات – فالإسناد حسن.
4-
ولقد كان من كمال تأسى الصحابة رضى الله عنهم برسول الله صلى الله عليه وسلم واعتقادهم بعصمته صلى الله عليه وسلم من الصغائر فى كل أحواله، شدة حرصهم على تأسهم به صلى الله عليه وسلم حتى فى أمور بيته، وذلك كاختلافهم فى جواز القبلة للصائم (1) ، وفى طلوع الفجر على الجنب وهو صائم (2) فسألوا أم المؤمنين عائشة رضى الله عنها فأخبرتهم أن ذلك وقع من النبى صلى الله عليه وسلم فرجعوا إلى ذلك، وعلموا أنه لا حرج على فاعله لعصمته.
5-
وعن أبى بكر الصديق رضى الله عنه (3) قال: لست تاركاً شيئاً كان رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يعمل به إلا عملت به، فإنى أخشى إن تركت شيئاً من أمره أن أزيغ" (4) .
(1) روى فى الصحيح أن عائشة رضى الله عنها سُألت عن قبلة الصائم، فقالت:"كان النبى صلى الله عليه وسلم يقبل، ويباشر وهو صائم، وكان أملككم لإربه" أخرجه البخارى (بشرح فتح البارى) كتاب الصوم، باب المباشرة للصائم 4/176 رقم 1927، ومسلم (بشرح النووى) كتاب الصيام، باب بيان أن القبلة فى الصوم ليست محرمة 4/230 رقم 1106.
(2)
روى أن مروان بن الحكم أرسل إلى عائشة، وأم سلمة رضى الله عنهما، ليسألنهما عن ذلك، فأخبرتاه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يدركه الفجر وهو جنب من أهله ثم يغتسل ويصوم" أخرجه البخارى (بشرح فتح البارى) كتاب الصيام، باب الصائم يصبح جنباً 4/169، 170 رقمى 1925، 1926، ومسلم (بشرح النووى) كتاب الصيام، باب صحة صوم من طلع عليه الفجر وهو جنب 4/236 رقم 1109.
(3)
صحابى جليل له ترجمة فى: الاستيعاب 3/963 رقم 1633، وأسد الغابة 3/310 رقم 3066، وتذكرة الحفاظ 2/1 رقم 1، ومشاهير علماء الأمصار ص10 رقم 2، والإصابة 2/341 رقم 4835.
(4)
جزء من حديث طويل أخرجه البخارى (بشرح فتح البارى) كتاب فرض الخمس، باب فرض الخمس 6/227 رقم 3093.
6-
ولما وقف عمر بن الخطاب رضى الله عنه أمام الحجر الأسود يقبله خاطبه بقوله: "لولا أنى رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم قبلك ما قبلتك"(1) .
7-
وجاء رجل يجادل ابن عمر فى شأن تقبيل الحجر من أجل الزحمة قائلاً له: أرأيت إن
زحمت، أرأيت إن غلبت؟ فقال له ابن عمر "اجعل "أرأيت" باليمن، رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يستلمه ويقبله"(2) .
8-
ولقد بلغ من كمال امتثال ابن عمر رضى الله عنه لهدى رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه كان يتأسى به حتى فى حركاته وسكناته العادية التى هى من أفعال الجبلية، حيث كان يتبع آثار رسول الله صلى الله عليه وسلم فى كل مكان حتى أنه كان يأتى شجرة بين مكة والمدينة فَيُقِيل تحتها، ويخبر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يفعل ذلك (3) .
9-
ولما حج فأفاض وانتهى إلى المضيق دون المأزمين، أناخ، وذكر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما انتهى إلى ذلك المكان قضى حاجته، فهو يحب أن يقضى حاجته (4) .
10-
وكان مرة فى سفر فمر بمكان فحاد عنه، فسئل: لما فعلت ذلك؟ قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فعل هذا ففعلت (5) .
(1) أخرجه البخارى (بشرح فتح البارى) كتاب الحج، باب تقبيل الحجر 3/555 رقم 1610، ومسلم (بشرح النووى) كتاب الحج، باب استحباب تقبيل الحجر الأسود 5/20 رقم 1270.
(2)
أخرجه البخارى (بشرح فتح البارى) فى نفس أماكن الحديث السابق برقم 1611.
(3)
أخرجه البزار فى مسنده بإسناد رجاله ثقات، كما قال الهيثمى فى مجمع الزوائد 1/175.
(4)
أخرجه أحمد فى مسنده 2/131، ورجاله رجال الصحيح كما قال الهيثمى فى مجمع الزوائد 1/174، 175.
(5)
أخرجه أحمد فى مسنده 2/32، والبزار فى مسنده (كشف الأستار) كتاب العلم، باب اتباع رسول الله صلى الله عليه وسلم 1/81 رقم 128، ورجاله ثقات كما قال الهيثمى فى مجمع الزوائد 1/174.
وكل ذلك له دلالته على عصمته صلى الله عليه وسلم من الصغائر، ومن ثمَّ فالعصمة سبيل الاقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم 0
والله تبارك وتعالى أعلى وأعلم