الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المطلب الثالث: شبهة الطاعنين فى حديث "نحن أحق بالشك من إبراهيم
"
والرد عليها
…
روى البخارى ومسلم من حديث أبى هريرة رضى الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "نحن أحق بالشك من إبراهيم إذ قال: {رب أرنى كيف تحى الموتى قال أولم تؤمن قال بلى ولكن ليطمئن قلبى} (1) .
…
هذا الحديث طعن فيه أعداء السنة والسيرة قديماً من أهل الأهواء والبدع، وزعموا أن فيه طعناً فى عصمة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام (2) وتابعهم حديثاً أذيالهم إذا يقول عبد الحسين شرف الدين الموسوى:"إن الظاهر من قوله: "نحن أحق بالشك من إبراهيم" ثبوت الشك لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ولسائر الأنبياء، وأنهم جميعاً أولى به من إبراهيم، ولو فرض عدم إرادة الأنبياء جميعاً فإرادة رسول الله صلى الله عليه وسلم مما لابد منها
…
، والحديث نص صريح فى أنه أولى بالشك" (3) .
…
ويجاب عن ما سبق بما يلى:
(1) جزء من الآية 260 البقرة، والحديث أخرجه البخارى (بشرح فتح البارى) كتاب الأنبياء، باب قول الله تعالى:{ونبئهم عن ضيف إبراهيم} 6/473 رقم 3372، وفى كتاب التفسير، باب {وإذ قال إبراهيم رب أرنى كيف تحى الموتى} 8/49 رقم 4537، ومسلم (بشرح النووى) كتاب الإيمان، باب زيادة طمأنينة القلب بتظاهر الأدلة 1/460 رقم 238، وكتاب الفضائل، باب فضائل إبراهيم الخليل عليه السلام 8/134 رقم 2371.
(2)
حكاه عنهم الإمام ابن قتيبة فى كتابه تأويل مختلف الحديث ص91، 92.
(3)
أبو هريرة لعبد الحسين شرف الدين ص90، وينظر: الصحيح من سيرة النبى الأعظم لجعفر مرتضى العاملى 1/20، ودفاع عن الرسول ضد الفقهاء، والمحدثين لصالح الوردانى ص316.
أولاً: إجماع الأمة على عصمة أنبياء الله عز وجل ورسله، من الكفر والشرك، والشك، ومن تسلط الشيطان عليهم، وأن تلك العصمة صفة أساسية فيهم، وشرطاً ضرورياً من شروط الرسالة، كما أنها جزء من الكمال البشرى الذى كملهم الله عز وجل به، حتى يبلغوا رسالة ربهم إلى أقوامهم، وقد سبق تفصيل ذلك فى حقه صلى الله عليه وسلم من خلال القرآن والسنة (1) .
ثانياً: اتفاق علماء المسلمين على أن ظاهر الشك فى قوله صلى الله عليه وسلم: "نحن أحق بالشك من إبراهيم" ليس مراداً، كما أنه ليس فى ظاهر هذا القول اعتراف بالشك، بل نفيه عن نفسه صلى الله عليه وسلم، وعن إبراهيم وسائر أنبياء الله ورسله عليهم الصلاة والسلام، إذ ما يجوز فى حق واحد منهم يجور فى حق الجميع.
…
يقول الحافظ ابن كثير: قوله صلى الله عليه وسلم: "نحن أحق بالشك من إبراهيم" ليس المراد هاهنا بالشك ما قد يفهمه من لا علم عنده، بلا خلاف (2) .
وقال الإمام على القارى (3) : "ليس فى قوله صلى الله عليه وسلم: "نحن أحق بالشك من إبراهيم" اعترافاً منه بالشك لهما، بل نفى لأن يكون إبراهيم عليه السلام شك"(4) .
(1) يراجع: ص47 – 79.
(2)
تفسير القرآن العظيم 1/465، 466.
(3)
هو: أبو الحسن، على بن محمد سلطان الهروى، المعروف بالقارى، نزيل مكة، فقيه حنفى، من صدور العلم فى عصره، من مؤلفاته: تذكرة الموضوعات، وشرح الشفا، وغيره ذلك، مات بمكة المكرمة 1014هـ له ترجمة فى: الرسالة المستطرفة للكتانى ص153، والأعلام للزركلى 5/12.
(4)
شرح الشفا للقارى 2/176، وينظر: الشفا 2/98.
ثالثاً: إن سبب قوله صلى الله عليه وسلم "نحن أحق بالشك من إبراهيم" على ما جاء فى الحديث ما ذكره صلى الله عليه وسلم من قوله تعالى على لسان سيدنا إبراهيم عليه السلام: {رب أرنى كيف تحى الموت قال أولم تؤمن قال بلى ولكن ليطمئن قلبى} (1) وهذه الآية وما بعدها قد يسبق إلى بعض الأذهان الفاسدة منها احتمال الشك، فأراد صلى الله عليه وسلم نفى هذا الشك عن سيدنا إبراهيم، وإبعاد للخواطر الضعيفة أن تظن هذا به عليه السلام.
…
ويؤكد ذلك أنه ليس فى سؤال سيدنا إبراهيم عليه السلام ما يدل على أنه شك، إذ السؤال وقع بـ "كيف" الدالة على حال شئ موجود مقرر عند السائل والمسئول، كما تقول: كيف علم فلان؟ فكيف فى الآية، سؤال عن هيئة الإحياء، لا عن نفس الإحياء، فإنه ثابت مقرر لدى سيدنا إبراهيم عليه السلام (2) وهو ما شهد به رب العزة لسيدنا إبراهيم رداً على سؤاله، بقوله عز وجل:"أولم تؤمن" والاستفهام هنا تقريرى للمنفى، وهو الشك، كأنه قال له: ألست مؤمناً بالبعث؟ فكان جوابه عليه السلام بـ "بلى" لإثبات المنفى وهو الشك، والمعنى: أنا مؤمن بالبعث كما علمت ما فى قلبى، لكننى أريد أن يطمئن قلبى برؤية الكيفية فقط، واعتبر بذلك.
…
فما شك إبراهيم عليه السلام، ولم يكن لديه أى شبهة فى قدرة الله تعالى على إحياء الموتى، إذ لم يقل لله تعالى: أتستطيع أن تحى الموتى؟ وإنما أراد أن يرى الهيئة، كما أننا لا نشك فى وجود الفيل، والتمساح، والكسوف، وزيادة النهر، ورسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم يرغب من لم يرى ذلك منا، فى أن يرى كل ذلك، ولا يشك فى أنه حق، لكن ليرى العجب الذى يتمثله فى نفسه، ولم تقع عليه حاسة بصره قط (3) .
(1) جزء من الآية 260 البقرة.
(2)
فتح البارى 6/475 رقم 3372، وينظر: تنزيه الأنبياء لعلى السبتى ص96.
(3)
ينظر: الفصل فى الملل والنحل لابن حزم 2/292.
.. فواضح فى السؤال والجواب، أنه عليه السلام، لم يسأل لشك أو شبهة أو تردد وهذا ظاهر من سؤاله، إذ لم يقل لله تعالى: "هل تقدر أن تحى الموتى، أم لا تقدر؟.
…
وهذا يشبه قولك لرسام كبير: دعنى أنظر إليك وأنت ترسم لوحة، أو لخطاط فنان: خط أمامى لكى أرى كيف تخط مثل هذه الخطوط الجميلة.
…
فليس فى مثل هذا الطلب أى ناحية تعجيزية، بل هو تعبير عن الافتنان بفنه الجميل، واعتراف به، ولهفة على رؤية دقائق فنه، وسعادة كبيرة فى تأمل كيفية ظهور لوحة رائعة، مرحلة مرحلة. أجل: فالسؤال كان حول كيفية الإحياء، وليس حول إمكانيته أو عدم إمكانيته" (1) .
…
قلت: وكيف يشك من وصفه ربه عز وجل فى كتابه بقوله تعالى: {ولقد آتينا إبراهيم رشده من قبل وكنا به عالمين} (2) وقوله سبحانه: {وكذلك نرى إبراهيم ملكوت السماوات والأرض وليكون من الموقنين} (3) والرشد، والإيقان، اسمى مراتب العلم الذى لا يصح معه شك أو حتى شبهة!.
…
وكيف يصح الشك، وقد وصفه ربه تعالى بقوله:{وإن من شيعته لإبراهيم إذ جاء ربه بقلب سليم} (4) فبين رب العزة كما ترى أنه جاء ربه بقلب سليم، وإنما أراد به، أنه كان سليماً من الشك، وخالصاً للمعرفة واليقين، ثم ذكر المولى عز وجل، أنه عاب قومه على عبادة الأصنام فقال تعالى:{ماذا تعبدون. أإفكاً آلهة دون الله تريدون} (5) فسمى عبادتهم بأنها إفك وباطل، ثم قال سبحانه:{فما ظنكم برب العالمين} (6) وهذا قول عارف بالله تعالى غير شاك!.
…
فكيف يكون قوله {رب أرنى كيف تحى الموتى} (7) شك فى البعث وإحياء الموتى؟!.
الحديث حجة لنا لا علينا:
(1) ينظر: النور الخالد محمد مفخرة الإنسانية لمحمد كولن 2/186، وفى ظلال القرآن لسيد قطب 1/301، 302.
(2)
الآية 51 الأنبياء.
(3)
الآية 75 الأنعام.
(4)
الآية 83 الصافات.
(5)
الآيتان 85، 86 الصافات.
(6)
الآية 87 الصافات.
(7)
جزء من الآية 260 البقرة.
.. ومن هنا كان قوله صلى الله عليه وسلم: "نحن أحق بالشك من إبراهيم" حجة لنا إذ فيه نفى للشك عن سيدنا إبراهيم عليه السلام، وعن نفسه صلى الله عليه وسلم، وهذا من أحسن الأقوال وأصحها وأرجحها عندى فى معنى قوله صلى الله عليه وسلم، "نحن أحق بالشك من إبراهيم" فكأنه صلى الله عليه وسلم يقول: إن الشك مستحيل فى حق إبراهيم عليه السلام، فإن الشك فى إحياء الموتى لو كان متطرقاً إلى الأنبياء، لكنت أنا أحق به من إبراهيم، لأن ما يجوز فى حق واحد من الأنبياء يجوز فى حقهم جميعهم، وقد علمتم أنى لم أشك، فاعلموا أن إبراهيم عليه السلام لم يشك!.
أو أراد صلى الله عليه وسلم بقوله: "نحن أحق بالشك من إبراهيم" أن يقول: إن هذا الذى تظنونه شكاً، أنا أولى به، ولكنه ليس بشك، وإنما هو طلب لمزيد اليقين.
…
وهذا الكلام مما جرت به العادة فى المخاطبة، لمن أراد أن يدفع عن آخر شيئاً، قال: مهما أردت أن تقوله لفلان فقله لى، ومقصوده صلى الله عليه وسلم لا تقل ذلك.
…
وإنما خص إبراهيم عليه السلام، لكون الآية قد يسبق إلى بعض الأذهان الفاسدة، منها احتمال الشك، وإنما رجح إبراهيم عليه السلام على نفسه صلى الله عليه وسلم، تواضعاً وأدباً، أو قبل أن يعلم صلى الله عليه وسلم أنه خير وسيد ولد آدم عليه السلام (1) .
…
هذا: وقيل غير ذلك من الأقوال فى توجيه قوله صلى الله عليه وسلم: "نحن أحق بالشك من إبراهيم" لكنها أقوال ضعيفة (2) ومن هنا اقتصرت على ذكر ما سبق منها، لكونها أصحها، وأوضحها، وأرجحها أهـ.
والله تعالى أعلى وأعلم
(1) ينظر: المنهاج شرح مسلم 1/461 رقم 238، وفتح البارى 6/475 رقم 3372، وفيض البارى 1/35، وتنزيه الأنبياء لعلى الحسين الموسوى ص27.
(2)
ينظر: فتح البارى 6/474، 475 رقم 3372، وعصمة الأنبياء للدكتور محمد أبو النور الحديدى ص277 - 283.