الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
.. وبالجملة: ففى هذه القصة ما يشعر بأن اجتهاد رسول الله صلى الله عليه وسلم فى حديثه مع الكافر ليستميله إلى الإيمان، رجاء أن يؤمن بإيمانه عدد ممن يتبعه، كان غير متمش مع طبيعة. الهداية الإلهية، التى عليه صلى الله عليه وسلم أن يعرضها على الناس دون أن يبخع نفسه حرصاً على إيمانهم فجاءت الآية الكريمة تصحح هذا الاجتهاد، وتبين الطريق للدعاة إلى الله تعالى الذن يرثون دعوة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتبليغ رسالته ونهجه فى إيصالها إلى جميع الناس، إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها. وبتصحيح هذا الاجتهاد، يعود حكم اجتهاده صلى الله عليه وسلم إلى وحى الله تعالى، وإن كان ثمَّ عتاب فهو على أمر اجتهادى وقع على خلاف الأولى، لا على ذنب، كما أن المعاتب محبور كما سبق (1) أهـ. والله أعلم.
4-
وأما قوله تعالى فى قصة زيد عن حارثة رضى الله عنه: {وإذ تقول للذى أنعم الله عليه وأنعمت عليه أمسك عليك زوجك واتق الله
وتخفى فى نفسك ما الله مبديه وتخشى الناس والله أحق أن تخشاه
فلما قضى زيد منها وطراً زوجناكها لكيلا يكون على المؤمنين حرج فى أزواج أدعيائهم إذا قضوا منهن وطراً وكان أمر الله مفعولاً} (2) .
…
إن هذه الآية الكريمة ذكر فيها كلاماً من بعض الذين تصدوا لتفسير القرآن الكريم، وتحملوا أمانة تجلية معانيه، وهو كلام لا يليق بمنصب النبوة، ولا بالعصمة، اتخذ فيما بعد منطلقاً لضجيج أهوج، وصيحات هستيرية تطعن فى السنة النبوية وأهلها من أعدائها (3) وترمى بالنقيصة، وعدم العصمة أكمل الناس خلقاً، وأحمدهم سيرة.
(1) يراجع:ص147، وينظر: آيات عتاب المصطفى صلى الله عليه وسلم فى ضوء العصمة والاجتهاد ص286، 287.
(2)
الآية 37 الأحزاب.
(3)
ينظر: الصحيح من سيرة النبى الأعظم لجعفر مرتضى العاملى 1/19، وسيرة المصطفى صلى الله عليه وسلم لهاشم معروف الحسينى ص453.
.. من ذلك أقوال وآراء تضمنتها تفاسير الطبرى، والزمخشرى، والنسفى، ومن نحا نحوهم حول الآية الكريمة.
…
فقد ذكرت هذه التفاسير: أن نبينا صلى الله عليه وسلم رأى زينب بنت جحش رضى الله عنها (1) وهى تحت زيد بن حارثه، على حالة جعلت قلبه يتعلق بها، ويود لو فارقها زيد فيتزوجها، وخشى أن يقول الناس، أمر ابنه بطلاق امرأته، ونكحها حين طلقها، والله أحق أن يخشاه من الناس (2) وفى هذا طعن على نبينا صلى الله عليه وسلم، فتح الباب لأعداء الإسلام قديماً وحديثاً من المبشرين والمستشرقين الذين أطلقوا العنان لخيالهم، وهم يتحدثون عن تاريخ رسول الله صلى الله عليه وسلم فى هذا الموضوع، والذى اتخذوا منه دعامة للطعن فى نبوته، وعصمته صلى الله عليه وسلم (3) .
والجواب:
…
لا حجة لهم فى التعلق بظاهر الآية، ولا بالآراء التى قيلت فى تأويلها ولا سند لها بل هى باطلة لوجوه:
(1) هى زوج النبى صلى الله عليه وسلم، وابنة عمة النبى صلى الله عليه وسلم، وأول نساء رسول الله صلى الله عليه وسلم لحقوقاً به كما أخبر صلى الله عليه وسلم، وتوفيت سنة 20هـ لها ترجمة فى: أسد الغابة 7/126 – 128 رقم 6955، والاستيعاب 4/1849 رقم 3355، والرياض المستطابة ص314، 315.
(2)
ينظر: جامع البيان للطبرى 22/10، والكشاف للزمخشرى 3/427، 428، والنسفى 3/67، وتفسير الجلالين ص555، ونوادر الأصول للحكيم الترمذى 1/704 – 706 الأصل رقم 147، ومع المفسرين والمستشرقين فى زواج النبى صلى الله عليه وسلم بزينب دراسة تحليلية للدكتور زاهر الألمعى ص9 – 21.
(3)
يراجع: مصادرهم السابقة ص146.
الوجه الأول: أنه ليس فى الآية ما يدل على أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صدر منه فى هذه الواقعة مذمة، ولا عاتبه الله على شئ منه، ولا ذكر أنه عصى أو أخطأ، ولا ذكر استغفار النبى صلى الله عليه وسلم منه، ولا أنه اعترف على نفسه مخطئاً، وأنه لو صدر عنه زلة لوجد من ذلك شئ، كما فى سائر الأنبياء عليهم الصلاة والسلام متى صدرت عنهم زلة – إن صح التعبير – أو ترك مندوب.
الوجه الثانى: أنه ذكر فى القصة بصريح القرآن الكريم: {ما كان على النبى من حرج فيما فرض الله له} (1) ونفى الحرج عن النبى صلى الله عليه وسلم تصريح بأنه لم يصدر منه ذنب البتة، كما أن نفى الحرج رد على من توهم من المنافقين نقصاً فى تزويجه صلى الله عليه وسلم إمرأة زيد مولاه، ودعيه الذى كان قد تبناه (2) .
الوجه الثالث: أنه تعالى ذكر الحكمة والعلة من زواجه صلى الله عليه وسلم من زينب رضى الله عنها بقوله: {فلما قضى زيد منها وطراً زوجناكها كيلا يكون على المؤمنين حرج فى أزواج أدعيائهم إذا قضوا منهم وطراً} (3) ولم يقل: إنى فعلت ذلك لأجل عشقك! أو نحو ذلك.
الوجه الرابع: قوله تعالى: {زوجناكها} ولو حصل فى ذلك سوء لكان قدحاً فى الله تعالى، وهو ما يؤكد أنه لم يصدر منه صلى الله عليه وسلم ذنب البتة فى هذه القصة.
الوجه الخامس: أنه لو كان ما زعموه صحيحاً، لكان قوله صلى الله عليه وسلم لزيد كما حكى القرآن الكريم {أمسك عليك زوجك} نفاقاً، لأنه أظهر بلسانه خلاف ما يضمره فى نفسه! لكن الله عز وجل عصم نبيه صلى الله عليه وسلم من ذلك.
(1) الآية 38 الأحزاب.
(2)
ينظر: تفسير القرآن العظيم لابن كثير 6/ 422.
(3)
جزء من الآية 37 الأحزاب.
الوجه السادس: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكن يرى زينب للمرة الأولى، فهى بنت عمته، ولقد شاهدها منذ ولدت، وحتى أصبحت شابة، أى شاهدها مرات عديدة، فلم تكن رؤيته لها مفاجأة، كما تصور القصة الكاذبة! ولو كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحمل أى ميل نحو زينب رضى الله عنها لتقدم بزواجها، وقد كان هذا أملها، وأمل أخيها حين جاء صلى الله عليه وسلم يخطبها منه، فلما صرح لهما بزيد، أبيا، فأنزل الله تعالى:{وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمراً أن يكون لهم الخيرة من أمرهم} (1) فقالا: رضينا بأمر الله ورسوله (2) وكانت هذه الآية توطئة وتمهيداً لما ستقرره الآيات التالية لها من حكم شرعى يجب على المؤمنين الانصياع له، وامتثاله والعمل به، وتقبله بنفس راضية، وقلب مطمئن، وتسليم كامل.
(1) الآية 36 الأحزاب.
(2)
فعن قتادة رحمه الله قال: خطب النبى صلى الله عليه وسلم زينب بنت عمته، وهو يريدها لزيد، فظنت أنه يريدها لنفسه، فلما علمت أنه يريدها لزيد أبت، فأنزل الله تعالى: {وما كان لمؤمن ولا مؤمنة
…
الآية} فرضيت وسلمت. رواه الطبرانى بأسانيد، ورجال بعضها رجال الصحيح كما قال الهيثمى فى مجمع الزوائد 7/91، 92، وهكذا قال مجاهد، ومقاتل بن حيان، وابن عباس: إنها نزلت فى زينب بنت جحش حين خطبها رسول الله صلى الله عليه وسلم لمولاه زيد بن حارثة، فامتنعت ثم أجابت. ينظر: رواية الطبرانى فى مجمع الزوائد 9/246، 247، وجامع البيان للطبررى 22/9 – 12، وتفسير القرآن العظيم لابن كثير 6/417، وشرح الزرقانى على المواهب 7/167.
الوجه السابع: أن ما أخفاه النبى صلى الله عليه وسلم، وأبداه الله تعالى هو: أمره بزواج زينب ليبطل حكم التبنى، هذا ما صرحت به الآية، لا شئ آخر غيره، قال تعالى:{فلما قضى زيد منها وطراً زوجناكها لكيلا يكون على المؤمنين حرج فى أزواج أدعيائهم إذا قضوا منهن وطراً} (1) .
…
فكيف يعدلون عن صريح القرآن الكريم إلى روايات لا زمام لها ولا خطام؟! (2) وليس فى هذا الإخفاء ما يعاب عليه صلى الله عليه وسلم أصلاً، وإلا لكان ذنباً تجب منه التوبة، وليس فى الآية الكريمة ما يشعر بشئ من ذلك.
…
وعليه فالإخفاء هو غاية العقل، وعين الكمال، لأن ذلك إنما كان سراً بينه وبين خالقه عزوجل، لم يأمره بإذاعته قبل أوانه، فكتمانه فى الحقيقة، قبل مجئ وقته هو الكمال الذى لا ينبغى غيره.
(1) جزء من الآية 37 الأحزاب.
(2)
قال الحافظ ابن كثير فى تفسيره 6/420 "ذكر ابن جرير، وابن أبى حاتم، ها هنا أى فى تفسير قوله تعالى {وتخفى فى نفسك ما الله مبديه} آثاراً عن بعض السلف أحببنا أن نضرب عنها صفحاً لعدم صحتها فلا نوردها" أهـ وقال الحافظ ابن حجر فى فتح البارى 8/384 رقم 4787 "ووردت آثار أخرى أخرجها ابن أبى حاتم، والطبرى، ونقلها كثير من المفسرين، لا ينبغى التشاغل بها، والذى أوردته منها هو المعتمد" والحافظ يشير إلى رواية السدى التى أخرجها ابن أبى حاتم، والتى سيأتى ذكرها قريباً فى الهامش. أهـ.
.. ويوضح هذا ويبينه ما وقع منه صلى الله عليه وسلم فى قصة عائشة رضى الله عنها، حين أتاه جبريل عليه السلام، قبل أن يتزوجها بأمد بعيد، بصورتها على ثوب من حرير، وقال له:"هذه امرأتك"، وقد عرفها رسول صلى الله عليه وسلم يقيناً، ولم يشك فى أنها ستكون من أزواجه الطاهرات، ومع ذلك فقد ترك هذا الأمر سراً مكتوماً بينه وبين ربه، وقال:"إن يك هذا من عند الله يمضه"(1) أى أنه من الله ولابد، فلأتركه إلى أن يجئ وقته الموعود، فلما جاء هذا الوقت أظهره الله تعالى، وتم ما أراد عزوجل.
إذن ليس فى الإخفاء المذكور منقصة، ولا خيانة للوحى، كلا، بل لو أنه صلى الله عليه وسلم كان قد أذاع هذا السر المكنون، والأمر المصون، لكان ذلك هو الخروج عن دائرة الحزم والكمال.
(1) قيل: التردد هنا فى: هل هى رؤيا وحى على ظاهرها وحقيقتها، أو هى رؤيا وحى لها تعبير؟ وهذا هو المعتمد فى تأويلها. ينظر: فتح البارى 9/88 رقم 5125، والحديث فى صحيح مسلم (بشرح النووى) كتاب فضائل الصحابة، باب فضل عائشة رضى الله عنها 8/217 رقم 2438، والبخارى (بشرح فتح البارى) كتاب النكاح، باب النظر إلى المرأة قبل التزويج 9/86 رقم 5125.
وهنا نصل إلى أصح المحامل فى قصة زينب رضى الله عنها، وهو: أن الله تعالى قد أعلم نبيه صلى الله عليه وسلم أنها ستكون من أزواجه، فلما شكاها له زيد، وشاوره فى طلاقها، ومفارقتها، قال له على سبيل النصيحة والموعظة الخالصة "أمسك عليك زوجك واتق الله" أى واتق الله فى شكواك منها (1) واتهامك لها بسوء الخلق، والترفع عليك، لأنه شكا منها ذلك، وأخفى رسول الله صلى الله عليه وسلم فى نفسه ما كان أعلمه الله به من أنه سيتزوجها، مما الله مبديه، ومظهره بتمام التزويج، وطلاق زيد لها (2) .
(1) ينظر: السنن الكبرى للبيهقى 7/138.
(2)
فعن السدى الكبير (إسماعيل بن عبد الرحمن بن أبى كريمة) قال: بلغنا أن هذه الآية: {وتخفى فى نفسك ما الله مبديه} نزلت فى زينب بنت جحش، وكانت أمها أميمة بنت الحارث عبد المطلب، عمة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأراد أن يزوجها زيد بن حارثة مولاه، فكرهت ذلك، ثم إنها رضيت بما صنع رسول الله صلى الله عليه وسلم فزوجها إياه، ثم أعلم الله عز وجل نبيه بعد أنها من أزواجه، فكان يستحى أن يأمر بطلاقها، وكان لا يزال يكون بين زيد وزينب ما يكون من الناس، فأمره رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يمسك عليه زوجه، وأن يتقى الله، وكان يخشى الناس أن يعيبوا عليه، ويقولوا: تزوج امرأة ابنه، وكان قد تبنى زيداً" أخرجه ابن أبى حاتم فى تفسيره 9/3137 رقم 17696 وقد أثنى الحافظ ابن حجر فى فتح البارى 8/384 رقم 4787، على رواية السدى هذه دون غيرها من التى أخرجها ابن أبى حاتم فى تفسيره، وقال الحافظ فى رواية السدى: هى أوضح سياقاً، وأصح إسناداً، من التى اطنب الترمذى الحكيم فى تحسينها من رواية ابن أبى حاتم عن على بن زيد بن جدعان الضعيف، يقول الحافظ: وكأنه أى الحكيم الترمذى لم يقف على تفسير السدى الذى أوردته أهـ.
ويصحح هذا قول المفسرين فى قوله تعالى بعد هذا {وكان أمر الله مفعولاً} (1) أى لابد لك أن تتزوجها، ويوضح هذا أيضاً أن الله عز وجل لم يبد من أمره صلى الله عليه وسلم معها غير زواجه لها، فدل أنه الذى أخفاه صلى الله عليه وسلم مما كان أعلمه به ربه عز وجل.
وبهذا القول: الذى تعطيه التلاوة من أن الذى أخفاه النبى صلى الله عليه وسلم هو إعلام الله له أنها ستكون زوجة له بعد طلاقها من زيد، قال به جمهور السلف، والمحققون من أهل التفسير، والعلماء الراسخون كابن العربى والقرطبى (2) والقاضى عياض (3) والقسطلانى فى المواهب والزرقانى فى شرحها (4) وغيرهم (5) ممن يعنون بفهم الآيات القرآنية وفقهها، وتنزيه الرسل عما لا يليق بهم من الروايات البعيدة عن منطق الحق والواقع.
(1) أحكام القرآن لابن العربى 3/1531.
(2)
الجامع لأحكام القرآن 14/190، 191.
(3)
الشفا 2/191.
(4)
شرح الزرقانى على المواهب 7/170.
(5)
ينظر: روح المعانى للألوسى 22/ 23، 24، ومحاسن التأويل للقاسمى 13/ 4864 – 4877، وآيات عتاب المصطفى صلى الله عليه وسلم فى ضوء العصمة والاجتهاد ص243، 244.
بقى فى القصة: قوله تعالى: {وتخشى الناس والله أحق أن تخشاه} (1) فليس مرد هذه الخشية عند رسول الله صلى الله عليه وسلم رهبة شئ يحول بينه وبين تبليغ رسالته من قريب أو بعيد، ولا يصح أن يفهم منها أنه صلى الله عليه وسلم لم يكن يخشى الله تعالى، بدليل ما ورد فى القرآن الكريم فى أكثر من آية الشهادة له صلى الله عليه وسلم بالخشية والخوف قال تعالى:{قل إنى أخاف إن عصيت ربى عذاب يوم عظيم} (2) وقوله عز وجل: {الذين يبلغون رسالات الله ويخشونه ولا يخشون أحداً إلا الله وكفى بالله حسيبا} (3) وهذه الآية الكريمة تشمله صلى الله عليه وسلم شمولاً أولياً لأنها فى صدر الحديث عنه (4) ومن هنا فالخشية فى آية بحثنا {وتخشى الناس والله أحق أن تخشاه} مردها إلى شدة حياءه صلى الله عليه وسلم، فقد كان يتحرج حياء من بيان ما قد اطلعه الله عليه، مما سيؤول إليه أمر زينب رضى الله عنها، لأن الناس كانوا يعدون ذلك أمراً كبيراً، ولكن لما كان شرعاً محكماً، كان لابد من بيانه.
(1) جزء من الآية 37 الأحزاب.
(2)
الآية 15 الأنعام.
(3)
الآية 39 الأحزاب.
(4)
يراجع تفصيل ذلك ص130 – 132.
أما ما ارتضاه كثير من المفسرين فى معنى الخشية بأنها: مجرد خوفه من قالة المنافقين، وطعنهم فى ذاته الكريمة بقولهم: تزوج زوجة ابنه، أى من تبناه (1) . فهذا التأويل ترده سيرته العطرة مما تعالم وعرف فى تاريخ تبليغه الرسالة على مدى مدة الإقامة فى مكة – ثلاثة عشر عاماً – وما مضى من مدة قدومه صلى الله عليه وسلم المدينة إلى حين وقوع قصة زيد وزينب، وهى قد وقعت فى السنة الثالثة أو الرابعة من الهجرة، من مناهضة الكفر والشرك والوثنية، وطغيان ملأ قريش وعتوهم وفجور سفهائهم من مواقف حفظها تاريخ السيرة النبوية العطرة من صبر على البلاء، ومجابهة الأعداء فى وقائع وأحداث كثيرة تدل قطعاً على أن النبى صلى الله عليه وسلم ما كان فى حياته المباركة يخشى أحداً غير الله تعالى، ولا يقيم وزناً لأقوال الناس فيه، وأفعالهم معه، وفى مهاجره صلى الله عليه وسلم لقى من أعداء الإسلام اليهود والمنافقين وبقايا المشركين مالا يقل فى عنفونه وعتوه، عن فجور مشركى مكة، فلم يحفل به، ولا خشى أحداً من الناس، ولو لم يكن من صور صبره صلى الله عليه وسلم على سفاهة السفهاء، وقالة السوء من أعدى أعداء الإسلام المنافقين واليهود إلا صبره فى قصة الإفك (2)
(1) فعن عائشة رضى الله عنها قالت: لما تزوج صلى الله عليه وسلم زينب، قالوا تزوج حليلة ابنه، فنزل:{ما كان محمد أبا أحد من رجالكم ولكن رسول الله وخاتم النبيين وكان الله بكل شئ عليما} الآية 40 الأحزاب، والحديث أخرجه الترمذى فى سننه كتاب التفسير، باب سورة الأحزاب 5/328 رقم 3207 وقال: حديث غريب. وينظر: فتح البارى 8/384 رقم 4787، والسيرة النبوية فى ضوء الكتاب والسنة للدكتور محمد أبو شهبة 2/297، 298.
(2)
القصة أخرجها البخارى (بشرح فتح البارى) كتاب التفسير، باب {لولا إذا سمعتموه ظن المؤمنون والمؤمنات بأنفسهم خيراً وقالوا هذا إفك مبين
…
الآية} 8/306 رقم 4750، ومسلم (بشرح النووى) كتاب التوبة، باب حديث الإفك – 9/115 رقم2770من حديث عائشة رضى الله عنها.
وعدم المبالاة بتقول المتقولين، وافتراء المفترين، لكفاه صلى الله عليه وسلم ذلك فى مواقف الفخر بالاعتصام بالله، وأفراده وحده بالخشية منه دون خشية أحد من خلقه.
والذى أرتضيه فى المراد بالخشية فى قوله تعالى: {وتخشى الناس} هو ما أشار إليه ابن حزم (1) فى كتابه الفصل فى الملل والنحل:"أنه صلى الله عليه وسلم خشى ضرر الناس، ووقوعهم فى الهلاك
(1) هو على بن أحمد بن سعيد بن حزم الظاهرى، أبو محمد، عالم الأندلس فى عصره، وأحد أئمة الإسلام، روى ابنه أبو رافع أن مصنفات والده بلغت الأربعمائة، من أشهرها: الإحكام فى أصول الأحكام، والفصل فى الملل والنحل، مات سنة 456هـ له ترجمة فى: لسان الميزان لابن حجر 4/724 رقم 5782، والبداية والنهاية لابن كثير 12/91، وتذكرة الحفاظ للذهبى 3/1146 رقم 1016، وطبقات الحفاظ للسيوطى ص435 رقم 981، ووفيات الأعيان لابن خلكان 3/325 رقم448.
بسبب إساءة ظنهم به، وبسط ألسنتهم فيه بالسوء" (1) كما وقع له صلى الله عليه وسلم، أنه كان واقفاً مرة مع زوجته صفية بنت حى بن أخطب رضى الله عنها، ليلاً، فمر عليه رجلان من أصحابه، فلما أبصراه واقفاً معها أسرعا فى المشى، فقال لهما رسول الله صلى الله عليه وسلم، "على رسلكما، إنها صفية بنت حى" فقالا: سبحان الله يا رسول الله، وكبر عليهما ذلك (2) فقال النبى صلى الله عليه وسلم:"إن الشيطان يبلغ من ابن آدم مبلغ الدم، وقد خشيت (3) أن يقذف فى قلوبكما شيئاً"(4) فالخشية كانت من سوء الظن، والإشاعات الكاذبة التى قد تؤثر على بعض ضعفاء الإيمان، أو تقف عقبة فى سبيل تبليغ الرسالة، فيستغلها الذين قالوا آمنا بأفواههم ولم تؤمن قلوبهم، وهذا هو المعقول اللائق بعظيم منزلته صلى الله عليه وسلم، وإلا فمجرد الخوف من قالة الناس، وخشية الطعن منهم، مما يجب أن ينزه عنه مقام النبوة
(1) الفصل فى الملل والنحل 2/312.
(2)
أى: عظم عليهما توضيح الرسول صلى الله عليه وسلم لهما، لأنه صلى الله عليه وسلم فوق الشك.
(3)
ليس فى هذه الروايات ما يشير إلى أنه صلى الله عليه وسلم ظن بهما سوءاً، لم تقرر عنده من صدق إيمانهما، ولكن خشى عليهما أن يوسوس لهما الشيطان، ذلك لأنهما غير معصومين، فقد يفضى بهما ذلك إلى الهلاك، فبادر إلى إعلامهما حسما للمادة، وتعليماً لمن بعده إذا وقع له مثل ذلك، فهذه الخشية كانت من قبيل الرحمة والإحسان إلى المؤمنين ليحفظ صلى الله عليه وسلم إيمانهم أهـ. ينظر: فتح البارى 4/328 رقم 2035.
(4)
أخرجه البخارى (بشرح فتح البارى) فى عدة أماكن منها كتاب الاعتكاف، باب هل يخرج المعتكف لحوائجه إلى باب المسجد 4/326 رقم 2035، ومسلم (بشرح النووى) كتاب السلام، باب بيان أنه يستحب لمن رؤى خالياً بامرأة وكانت زوجته أو محرماً له أن يقول: هذه فلانة ليدفع ظن السوء به 7/411 رقم 2175.
الأسمى، فإنه أى خوف الناس، لا ينشأ إلا من حب المحمدة والثناء، والحرص على الجاه عند الناس، وحسن الأحدوثة بينهم، وهذا مما يترفع عنه آحاد الأتقياء، فضلاً عن سيد الأنبياء، وعلى ذلك فليست قصة زينب المذكورة، مسوقة مساق العتاب له صلى الله عليه وسلم، كما توهمه المفسرون، وإنما سيقت فى الحقيقة لبيان كماله وحزمه صلى الله عليه وسلم، وشدة شفقته على الناس، وحرصه على سلامتهم من الأذى، كما يومئ إليه قوله تعالى قبل هذه القصة {وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمراً أن يكون لهم الخيرة من أمرهم} (1) فإن إعطاء النبى صلى الله عليه وسلم هذا المنصب العظيم، وإحلاله هذه المنزلة الرفيعة، التى جعلت رأيه فوق رأى الجميع، بحيث لا يكون لمؤمن ولا مؤمنة الخيرة فى شئ ما، بعد قضائه ورأيه صلى الله عليه وسلم، يدل على دلالة ظاهرة على أن هذه القصة، وهى قصة زينب المذكورة، إنما ذكرت هنا كالتعليل لاستحقاقه صلى الله عليه وسلم ما ذكر، فلابد حينئذ أن يكون
مضمونها مدحاً له صلى الله عليه وسلم، وتنزيهاً له عن جميع الأغراض والحظوظ النفسية، فما قيل من أنه صلى الله عليه وسلمأبصرها فتعلق قلبه بها وأخفاه، فهو قول باطل كما قال بعض العلماء، لا يلتفت إليه، وإن جل ناقلوه، فإن أدنى الأولياء لا يصدر عنه مثل هذا، وكذلك لا يجدى فيه الاعتذار، بأن ميل القلب غير مقدور، فإنه هنا أيضاً مما يجب صيانة النبى صلى الله عليه وسلم وعصمته عنه، ويرد هذا القيل: أن الله سبحانه وتعالى لم يبده، أى لم يبد الميل القلبى كما زعمتم، وإنما أبدى نكاحه إياها نسخاً لما كان عليه الجاهلية من تحريم أزواج الأدعياء (2) .
(1) الآية 36 الأحزاب.
(2)
الأدعياء: هم الذين ينسبون إلى غير آبائهم.
فإن قيل: فما تصنع بقوله تعالى: {والله أحق أن تخشاه} فإنه يدل على معاتبة النبى صلى الله عليه وسلم، بأنه خشى الناس، ولم يخش الله الأحق بالخشية؟.
فالجواب: بأن ظاهر الآية غير مراد، وإنما المعنى: والله أحق أن تخشاه، أى: جدير بأن تخشاه كما فعلت يا رسول الله، وذلك لأن خشية ضرر الناس، وتوقى هلاكهم على ما وقع منه صلى الله عليه وسلم فى قصة صفية بنت حى السابقة، إنما نشأت من مراقبته لله تعالى، وقيامه بحق الرعاية التى جعلها الله تعالى له عليهم، فهو فى الواقع إنما خشى الله فى الناس، فجاء قوله عز وجل:{والله أحق أن تخشاه} تعزيزاً له صلى الله عليه وسلم على ما فعل، وإخباراً بأن الله تعالى جدير بأن يخشاه مثلك يا رسول الله فى عباده، بأن يقيهم أسباب الضرر والهلاك، ويحرص على هدايتهم وسعادتهم فى الدارين.
قلت: وهذا الوجه الأخير من أحسن ما تنزل عليه الآية الكريمة، لأنه اللائق بما جبل عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم من الرأفة والرحمة، وبما كان فى المسلمين من حدثاء الإسلام، الذين لم تتعمق جذور الإيمان فى قلوبهم بعد، فخشى رسول الله صلى الله عليه وسلم عليهم ذلك (1) . أهـ
…
...
(1) ينظر: النفحات الشذية فيما يتعلق بالعصمة والسنة النبوية لمحمد الطاهر الحامدى ص66 – 68، وآيات عتاب المصطفى صلى الله عليه وسلم فى ضوء العصمة والاجتهاد ص240 – 247، وخواطر دينية لعبد الله الغمارى ص45، 46، والشفا 2/188 – 191، وعصمة الأنبياء للرازى ص100 – 104، ومحمد رسول الله لفضيلة الشيخ عرجون 2/438 – 441، وتنزيه الأنبياء لعلى السبتى ص50 – 63، وعصمة الأنبياء للدكتور محمد أبو النور الحديدى ص453 – 466.