الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
.. فكلام هذا الإمام - رحمه الله تعالى - يدل على أن مادة (عصم) فى القرآن الكريم حيثما وردت بشتى تصريفاتها تدور على المنع والامتناع، وهو أصلها فى الوضع اللغوى. وقال ابن الأثير (1) : العصمة: المنعة، والعاصم: المانع الحامى، والاعتصام الامتساك بالشئ افتعال منه. ومنه شعر أبى طالب (2) يمدح النبى صلى الله عليه وسلم:
وأبيض يستسقى الغمام بوجهه
…
***
…
ثمال (3) اليتامى عصمة للأرامل
أى يمنعهم من الضياع والحاجة (4) .
ب- المعنى الشرعى:
…
عرَّف المتكلمون والمحدثون من أهل السنة العصمة فى الشرع بتعريفات بعضها يختلف عن بعض لفظاً إلا أن المعنى واحد، وقد يختلف بعضها لفظاً ومعنى، والاختلاف فى المعنى يعود إلى من سلب اختيار المعصوم فى أفعاله، ومن أوجبه.
(1) هو المبارك بن محمد الشيبانى الجزرى، يكنى أبا السعادات، ويلقب مجد الدين، ويعرف بابن الأثير وهو واحد من الأئمة الأعلام فى الحديث والفقه والنحو، قال ابن خلكان: كان فقيهاً محدثاً ورعاً مهيباً من مؤلفاته الغزيرة والنافعة النهاية فى غريب الحديث، وأسد الغابة وغير ذلك مات سنة 606هـ له ترجمة فى: وفيات الأعيان 3/289 - 291، وشذرات الذهب 5/22 - 23، وطبقات الفقهاء والشافعيين لابن كثير 2/776، 777.
(2)
هو عم رسول الله صلى الله عليه وسلم واسمه عبد مناف. مات على دين قومه فى السنة العاشرة من البعثة، ينظر: السيرة النبوية لابن هشام 2/30 نص رقم 416، والبداية والنهاية 3/24.
(3)
الثمال بالكسر الملجأ والغياث. وقيل هو المطعم فى الشدة. النهاية فى غريب الحديث 1/216.
(4)
النهاية فى غريب الحديث 3/225، وينظر: السيرة النبوية لابن هشام 1/352، 353 نص رقم 271.
.. وهذه التعريفات وإن اختلفت مناحيها فى التعبير، وتنوعت جوانب تناولها لمعنى عصمة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، فإنها جميعها تنتهى إلى حفظ الله تعالى إياهم من مواقعة الذنوب والمخالفات بعد البعثة باتفاق المحققين المحقين، وقبل البعثة على التحقيق.
…
ولعل من أحسن التعريفات للعصمة وأسلمها ما ذكره صاحب كتاب نسيم الرياض فى شرح الشفا للقاضى عياض بأنها: "لطف من الله تعالى يحمل النبى على فعل الخير، ويزجره عن الشر مع بقاء الاختيار تحقيقاً للابتلاء"(1) ومن المستحسن فى تعريفها أيضاً من قال: "هى حفظ الله عز وجل للأنبياء بواطنهم وظواهرهم من التلبس بمنهى عنه، ولو نهى كراهة ولو فى حال الصغر مع بقاء الاختيار تحقيقاً للابتلاء (2) .
…
إن العصمة تعنى حفظ الله تعالى لأنبيائه عن مواقعة الذنوب الظاهرة والباطنة، وأن العناية الإلهية لم تنفك عنهم فى كل أطوار حياتهم قبل النبوة وبعدها، على ما هو المعتمد كما سيأتى تحقيقه، فهى محيطة بهم تحرسهم من الوقوع فى منهى عنه شرعاً أو عقلاً، وصدق القائل حين قال:
وإذا العناية لاحظتك عيونها
…
***
…
نم فالمخاوف كلهن أمان
(1) نسم الرياض فى شرح الشفا للقاضى عياض 4/39، وينظر: التعريفات للجرجانى ص150، ومعجم مفردات ألفاظ القرآن للراغب الأصفهانى ص377، وفتح البارى 11/ 510 رقم 6611، وشرح العقائد للسعد التفتازانى 1/200، وشرح المواقف للجرجانى 8/280، 281، والمسامرة بشرح المسايرة لكمال بن الهمام ص227، والنفحات الشذية فيما يتعلق بالعصمة والسنة النبوية لمحمد الطاهر الحامدى ص18 – 20.
(2)
شرح الخريدة مع حاشية الصاوى للدردير ص104 بتصرف، وينظر: إتحاف المريد شرح جوهرة التوحيد بهامش حاشية محمد الأمير على جوهرة التوحيد ص114.
وهذا ما ظهر أثره فى الخارج، فقد كان أنبياء الله تعالى ورسله عليهم الصلاة والسلام محفوظى الظواهر والبواطن من التلبس بمنهى عنه ولو نهى كراهة أو خلاف الأولى.
…
فهم محفوظون ظاهراً من الزنا وشرب الخمر والكذب والسرقة، وغير ذلك من المنهيات المستقبحات فى الخارج، ومحفوظون فى الباطن من الحسد والكبر والرياء وغير ذلك من منهيات الباطن (1) .
…
فلم تُعرف لهم زَلة، ولا سُجلت عليهم هفوة فى مجتمعاتهم المليئة بالشحناء والعداوة والبغضاء لهم، ولو أن أعدائهم علموا من ذلك شيئاً لطاروا به فرحاً، ليدفنوا ما زاع لهم من مكارم الأخلاق، وصالح القول والعمل، كشأن الغوغائيين الذين قال فيهم الشاعر:
إن يسمعوا زلة طاروا بها فرحاً
…
***
…
منى وما علموا من صالح دفنوا
صُمُ إذا سمعوا خيراً ذكرت به
…
***
…
وإن ذكرت بسوء عندهم أُذن
فقد كانوا فى غاية التربص لتصيد عثراتهم إن وجدوها، فلما أعياهم البحث والانتظار، ويئسوا من العثور على شئ من ذلك، طفقوا يفترون الكذب، ويقولون الزور، فيرمونهم بالسحر تارة، والكهانة أخرى، والجنون حيناً، والافتراء حيناً آخر، وغير ذلك بما طاب لهم التفوه به مما سجله عليهم القرآن الكريم، وحفظه التاريخ، ولكن سرعان ما كان يكذبهم الواقع، فتبور أقوالهم، وترجع عليهم بالخزى والعار، ويبقى جانب الأنبياء مصوناً بالعصمة الإلهية، والعناية الربانية، ليكونوا أطهاراً أتقياء قادة الخلق إلى مكارم الأخلاق.
وما كان لهم بذلك من يد لولا العصمة الربانية التى أحاطت بهم قبل نبوتهم وبعدها فمنعتهم من الوقوع فيما لا يحمد مما يكون منفرداً للناس عن أتباعهم إلى ما يدعونهم إليهم من الدين والأخلاق الفاضلة (2) .
(1) ينظر: إتحاف المريد بحاشية الأمير ص114، وتحفة المريد على جوهرة التوحيد للباجورى ص75.
(2)
ينظر: أخلاق النبى صلى الله عليه وسلم فى القرآن والسنة للدكتور أحمد الحداد 2/990، 991.