الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ثانياً: الأدلة من السنة النبوية على عصمته صلى الله عليه وسلم فى اجتهاده:
…
اعتبر العلماء ما قاله رسول الله صلى الله عليه وسلم باجتهاده مما يعلم أنه من شرع الله تعالى؛ من وحى السنة المطهرة، وسماه الأحناف بالوحي الباطنى (1) وعللوا ذلك بأنه ما كان الله عز وجل ليترك خطأ يصدر من رسوله المبلغ عنه، مما يترتب عليه وقوع الأمة فيه اتباعاً.
وإذا كانت الحكمة من إرسال الرسل أن لا تكون للناس على الله حجة {رسلاً مبشرين ومنذرين لئلاً يكون للناس على الله حجة بعد الرسل} (2) فإن ذلك يتم بعصمة المرسل من الوقوع فى أى خطأ، فإن كان اجتهاده صواباً أقره الوحي، وإن كان غير صواب نبهه الوحي. يدل على ذلك ما يلى:
1-
عن أبى قتادة رضى الله عنه، أن رجلاً سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم، أرأيت إن قتلت فى سبيل الله، تكفر عنى خطاياى؟ فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: نعم. إن قتلت فى سبيل الله، وأنت صابر محتسب، مقبل غير مدبر، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم كيف قلت؟ قال: أرأيت إن قتلت فى سبيل الله، أتكفر عنى خطاياى؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: نعم. وأنت صابر محتسب، مقبل غير مدبر إلا الدين، فإن جبريل عليه السلام قال له ذلك" (3) .
…
فتأمل كيف اجتهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فى الجواب عن سؤال فى الإسلام! وكيف أقره وحى الله؛ مع الاستدراك فى الجواب زيادة "الدين" على ما أجاب به رسول الله صلى الله عليه وسلم! وفى ذلك دلالته على جواز الاجتهاد لرسول الله صلى الله عليه وسلم فى الإسلام وعصمته فيه.
(1) ينظر: أصول السرخسى 2/90.
(2)
الآية 165 النساء.
(3)
سبق تخريجه ص258.
2-
وعن ابن عباس رضى الله عنهما قال: اختصم إلى النبى صلى الله عليه وسلم رجلان. فوقعت اليمين على أحدهما، فحلف بالله الذى لا إله إلا هو، ماله عنده شئ. فنزل جبريل على النبى صلى الله عليه وسلم، فقال: إنه كاذب إن له عنده حقه، فأمره أن يعطيه حقه، وكفارة يمينه معرفته أن لا إله إلا الله أو شهادته" (1) .
…
فتأمل دلالة الحديث على حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم باجتهاده فى أموال الناس، وتأمل كيف أن الحكم فى المسألة الواردة فى الحديث لا بينة فيه، ويتوقف حكمها على يمين أحدهما، فحلف وكان كاذباً فى حقيقة الأمر، فحكم له رسول الله صلى الله عليه وسلم بالناقة – التى سرقها – إذ لا بينة مع المدعى ملكيتها.
(1) أخرجه أحمد فى المسند 1/296، 288، 322، وفى كلها عطاء بن السائب اختلط، وشريك سئ الحفظ لكنه توبع – فالإسناد ضعيف. لكنه تعضده الآيات والأحاديث الواردة فى هذا المبحث والدالة على عصمته صلى الله عليه وسلم فى اجتهاده.
.. وحكمه صلى الله عليه وسلم للحالف – كاذباً فى حقيقة الأمر – لا حرج عليه صلى الله عليه وسلم فى ذلك؛ بناء على الأصل فى الفصل فى الأحكام (البينة على المدعى، واليمين على من أنكر) كما قال صلى الله عليه وسلم: "لو يعطى الناس بدعواهم، لا دعى ناس دماء رجال وأموالهم. ولكن اليمين على المدعى عليه"(1) ولكن تأمل كيف أن الله عز وجل لا يرضى لنبيه صلى الله عليه وسلم إلا أن يكون حكمه الاجتهادى مطابقاً للواقع، ونفس الأمر، ظاهراً وباطناً؛ فنبهه جبريل عليه السلام قبل صدور الحكم. فبان بذلك بطلان ما زعمه بعض الشذاذ أن اجتهاد رسول الله صلى الله عليه وسلم يخل بعصمته.
3-
ومن اجتهاداته صلى الله عليه وسلم المعصوم فيها اجتهاده فى غزوة بدر الكبرى، وكان ذلك فى ثلاثة مواضع: أحدها: فى الإقدام على المعركة، وثانيها: فى موضع نزول جيشه فى بدر، وثالثها: فى شأن الأسرى.
(1) أخرجه مسلم (بشرح النووى) كتاب الأقضية، باب اليمين على المدعى عليه 6/243 رقم 1711، والبخارى (بشرح فتح البارى) كتاب التفسير، باب إن الذين يشترون بعهد الله وأيمانهم ثمناً قليلاً أولئك لا خلاف لهم 8/61 رقم 4552.
أما الموضع الأول: الاستشارة فى القتال، فكانت عندما "خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم يريد عير قريش، حتى جمع الله بينهم وبين عدوهم على غير ميعاد"(1) عندئذ استشار أصحابه فى مواجهتهم فعن أنس بن مالك؛ أن رسول الله شاور حين بلغه إقبال أبى سفيان. قال: فتكلم أبو بكر فأعرض عنه. ثم تكلم عمر فأعرض عنه. فقام سعد بن عبادة فقال: إيانا تريد؟ يا رسول الله! والذى نفسى بيده لو أمرتنا أن نخيضها البحر لأخضناها. ولو أمرتنا أن نضرب أكبادها إلى برك الغماد (2) لفعلنا" (3) فسر النبى صلى الله عليه وسلم بذلك ودعى له بخير، غير أنه عليه الصلاة والسلام لم يقنعه قول المهاجرين، لأن قتالهم معه أمر لا يشك فيه، فقد باعوا أنفسهم لله وخرجوا من ديارهم وأموالهم فراراً بعقيدتهم ونصرة نبيهم.
(1) أخرجه البخارى (بشرح فتح البارى) كتاب المغازى، باب قصة غزوة بدر 7/333 رقم 3951 من قول كعب بن مالك رضى الله عنه.
(2)
موضع وراء مكة بخمس ليال مما يلى البحر، وقيل بلد باليمن. أهـ. مراصد الاطلاع على أسماء الأمكنة والبقاء لعبد المؤمن البغدادى 1/187.
(3)
أخرجه مسلم (بشرح النووى) كتاب الجهاد، باب غزوة بدر 6/365 رقم 1779، وأخرجه البخارى (بشرح فتح البارى) كتاب المغازى، باب قول الله تعالى:{إذ تستغيثون ربكم فاستجاب لكم} 7/335 رقم 3952 من حديث ابن مسعود رضى الله عنه.
.. لكن الأنصار لم يكونوا كذلك، إذ إنما عاهدوا رسول الله صلى الله عليه وسلم على نصرته فى مدينتهم وديارهم، أما وهو فى بدر فذلك ما لم تقتضه نصوص المعاهدة، فأراد صلى الله عليه وسلم استشارتهم فيما هو محدق به وبهم من الخطر، ليكتشف رأيهم فيما يعد خارجاً عن بنود المعاهدة، فكرر طلب الاستشارة قائلاً:"أشيروا على أيها الناس" ففهمت الأنصار أنه يعنيهم، فبادر سعد بن معاذ فقال: يا رسول الله والله لكأنك تريدنا يا رسول الله؟ فقال: أجل. فقال: لقد آمنا بك وصدقناك وشهدنا أن ما جئت به هو الحق، وأعطيناك على ذلك عهودنا ومواثيقنا على السمع والطاعة، فامض يا رسول الله لما أردت فنحن معك، فوالذى بعثك بالحق، لو استعرضت بنا هذا البحر فخضته لخضناه معك ما تخلف منا رجل واحد، وما نكره أن تلقى بنا عدونا غداً، إنا لصبر فى الحرب، صدق فى اللقاء، لعل الله يريك منا ما تقر به عينك، فسر بنا على بركة الله.
…
فسر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقول سعد ونشطه ذلك، ثم قال:"سيروا وأبشروا فإن الله تعالى قد وعدنى إحدى الطائفتين. والله لكأنى الآن أنظر إلى مصارع القوم"(1) .
…
وهكذا تمخضت المشاورة هذه برأى صائب سديد، وافقت ما قدره الله تعالى، لنبيه وعباده المؤمنين، واراه إياه، حتى كأنه يرى نتيجة ما هو قادم عليه رأى العين.
(1) السيرة النبوية لابن هشام 2/272 نص رقم 728، وينظر: زاد المعاد لابن قيم الجوزية 3/173، وعيون الأثر لابن سيد الناس 1/247، 248، وإمتاع الأسماع للمقريزى ص81 – 83.
.. ويشهد بصحة هذه المشاورة، وأنها وافقت ما قدره الله تعالى قوله تعالى:{كما أخرجك ربك من بيتك بالحق وإن فريقاً من المؤمنين لكارهون. يجادلونك فى الحق بعد ما تبين كأنما يساقون إلى الموت وهم ينظرون. وإذ يعدكم الله إحدى الطائفتين أنها لكم وتودون أن غير ذات الشوكة تكون لكم ويريد الله أن يحق الحق بكلماته ويقطع دابر الكافرين} (1) .
الموضع الثانى: الاستشارة فى المنزل، فعندما نزل النبى صلى الله عليه وسلم على أقرب ماء من بدر وعرض الأمر على الصحابة، فجاء الحباب بن المنذر (2) وقال: يا رسول الله! أرأيت هذا المنزل؛ أمنزلاً انزلكه الله تعالى ليس لنا أن نتقدمه ولا نتأخر عنه، أم هو الرأى والحرب والمكيدة؟ قال:"بل هو الرأى والحرب والمكيدة" فقال: يا رسول الله، فإن هذا ليس بمنزل، فانهض بالناس حتى نتأتى أدنى ماء من القوم فننزله، ثم نغور ما وراءه من القلب، ثم نبنى عليه حوضاً فنملؤه ماء، ثم نقاتل فنشرب ولا يشربون، فقال النبى صلى الله عليه وسلم:"لقد أشرت بالرأى"(3) .
(1) الآيات 5 – 7 الأنفال.
(2)
صحابى جليل له ترجمة فى: أسد الغابة 1/665 رقم 1023، والاستيعاب 1/458 رقم 483 ومشاهير علماء الأمصار ص32 رقم 112، والإصابة 1/302 رقم 1557.
(3)
السيرة النبوية لابن هشام 2/278 نص رقم 735.
.. وهذه المشاورة وافقت ما قدره الله تعالى، بدليل ما جاء فى مغازى الأموى، أن حباب بن المنذر لما أشار على النبى صلى الله عليه وسلم بتغير مكان نزوله يوم بدر؛ ورجع النبى صلى الله عليه وسلم إلى رأيه، نزل ملك من السماء، وجبريل جالس عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال ذلك الملك: يا محمد إن ربك يقرئك السلام ويقول لك: إن الرأى ما أشار به الحباب بن المنذر" (1) أليس فى ذلك أعظم دليل على أن اجتهاده صلى الله عليه وسلم معصوم فيه، بدلاله مراقبة الوحي لهذا الاجتهاد، حيث وافق مراد الله تعالى فجاء الإقرار؟!.
الموضع الثالث: الاستشارة فى شأن الأسرى، فقد انجلت المعركة عن قتل سبعين وأسر سبعين، فضلاً عن الغنائم الكثيرة، وكانت الأسرى أمراً ذى بال، استدعى أن يجمع له الرأى ويفكر فى أمره، لعددهم الكبير، وما يترتب على الإقدام فى شأنهم من نفع للإسلام والمسلمين.
…
(1) ينظر: تفسير القرآن العظيم لابن كثير 3/564.
وذلك ما جعل النبى صلى الله عليه وسلم يستشير ذوى الرأى والحجا من أصحابه فى الأمر الذى يصنعه بهم من قتل أو من أو فداء، فقال صلى الله عليه وسلم: لأبى بكر وعمر: "ما ترون فى هؤلاء الأسارى؟ " فقال أبو بكر: يا نبى الله! هم بنو العم والعشيرة، أرى أن تأخذ منهم فدية، فتكون لنا قوة على الكفار، فعسى الله أن يهديهم للإسلام، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"ما ترى يا ابن الخطاب؟ " قال: فقلت: لا والله يا رسول الله! ما أرى الذى رأى أبو بكر، ولكنى أرى أن تمكنا فنضرب أعناقهم، فتمكن علياً من عقيل فيضرب عنقه، وتمكنى من فلان (نسيب لعمر) فأضرب عنقه، فإن هؤلاء أئمة الكفر وصناديدها، قال: فهوى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما قال أبو بكر، ولم يهو ما قلت، قال: فلما كان من الغد جئت، فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأبو بكر قاعدين يبكيان، فقلت يا رسول الله! أخبرنى من أى شئ تبكى أنت وصاحبك، فإن وجدت بكاء بكيت، وإن لم أجد بكاء تباكيت لبكائكما؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"ابكى للذى عرض على أصحابك من أخذهم الفداء، لقد عرض على عذابهم أدنى من هذه الشجر" شجرة قريبة من نبى الله صلى الله عليه وسلم وأنزل الله عز وجل: {ما كان لنبى أن يكون له أسرى حتى يثخن فى الأرض تريدون عرض الدنيا والله يريد الآخرة والله عزيز حكيم. لولا كتاب من الله سبق لمسكم فيما أخذتم عذاب عظيم. فكلوا مما غنمتم حلالاً طيباً واتقوا الله إن الله غفور رحيم} (1) فأحل الله الغنيمة لهم" (2) .
(1) الآيات 67 – 79 الأنفال.
(2)
أخرجه مسلم (بشرح النووى) كتاب الجهاد، باب الإمداد بالملائكة فى غزوة بدر 6/327 – 329 رقم 1763 من حديث ابن عباس رضى الله عنهما.
.. وفى نزول هذه الآيات دليل على مراقبة الوحي لما يجتهد فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم وفى ذلك شاهد على عصمته صلى الله عليه وسلم فى اجتهاده؛ حيث جاء الوحي بإمضاء حكم اجتهاده صلى الله عليه وسلم مع التنبيه على ما ينبغى (1) .
4-
ومن اجتهاداته صلى الله عليه وسلم التى عصم فيها وجاء الوحي بإقرارها ما روى عن ابن عباس رضى الله عنهما أن امرأة جاءت إلى النبى صلى الله عليه وسلم فقالت: أن أمى نذرت أن تحج فماتت قبل أن تحج أفأحج عنها؟ قال: نعم حجى عنها، أرأيت لو كان على أمك دين أكنت قاضيته؟ قالت نعم. قال: فاقضوا الذى له فإن الله أحق بالوفاء" (2) .
…
ووجه الاستدلال بالحديث أنه صلى الله عليه وسلم اجتهد فى إجابة السائلة واعتبر دين الله بدين العباد، وذلك بيان بطريق القياس، ولم يأت ما يخالف ذلك مما يدل على أن اجتهاده صلى الله عليه وسلم وافق مراد الله عز وجل فصار إقراراً.
…
وبهذا الإقرار صار اجتهاده صلى الله عليه وسلم حجة على العباد لعصمة الله له فيه، وبحكمه صلى الله عليه وسلم (قضاء الدين عن الميت) قالت الأمة، وأجمعت عليه (3) .
5-
ومن هذا النوع أيضاً أجابته صلى الله عليه وسلم عمر بن الخطاب حين قبل عمر امرأته وهو صائم؛ فظن أنه فعل أمراً عظيماً.
(1) يراجع: ما سبق فى توجيه هذه الآيات بما لا يتعارض مع عصمته صلى الله عليه وسلم ص151 – 158.
(2)
أخرجه البخارى (بشرح فتح البارى) كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة، باب من شبه أصلاً معلوماً بأصل مبين 13/309 رقم 7315، ومسلم (بشرح النووى) كتاب الصيام، باب قضاء الصيام عن الميت 4/279 رقم 1148 وفيه أنها سألته عن قضاء الصوم عن أمها.
(3)
ينظر: المنهاج شرح مسلم 4/282 رقم 1148، وفتح البارى 4/228 رقم 1952.
.. فعن عمر رضى الله عنه قال: "هششت (1) فقبلت وأنا صائم، فجئت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقلت: إنى صنعت اليوم أمراً عظيماً، قبلت وأنا صائم. قال: "أرأيت لو مضمضت من الماء؟ قلت: إذاً لا يضر. قال: ففيم! " (2) أى: ففيم تسأل (3) قال الخطابى: "فإذا كان أحد الأمرين منهما غير مفطر للصائم فالآخر بمثابته (4) ووجه الاستدلال بالحديث اجتهاده صلى الله عليه وسلم فى قياس القبلة على المضمضة فى عدم الأثر على الصوم، ولم يأت ما يخالف ذلك، فصار إقراراً من الوحي بعصمته صلى الله عليه وسلم فيما اجتهد فيه.
6-
وعن عائشة رضى الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى ذات ليلة فى المسجد فصلى بصلاته ناس، ثم صلى من القابلة فكثر الناس، ثم اجتمعوا من الليلة الثالثة أو الرابعة فلم يخرج إليهم صلى الله عليه وسلم، فلما أصبح قال: قد رأيت الذى صنعتم، ولم يمنعنى من الخروج إليكم إلا إنى خشيت أن تفرض عليكم، وذلك فى رمضان" (5) .
(1) أى نشطت. ينظر: النهاية 5/228.
(2)
أخرجه الدارمى فى سننه كتاب الصيام، باب الرخصة فى القبلة للصائم 2/22 رقم 1724، وأبو داود فى سننه كتاب الصوم، باب القبلة للصائم 2/311 رقم 2385، وأحمد فى المسند 1/216، 313 والحاكم فى المستدرك 1/596 رقم 1572 وقال: على شرط الشيخين ووافقه الذهبى.
(3)
الفتح الربانى للساعاتى 10/53.
(4)
معالم السنن 3/264.
(5)
أخرجه البخارى (بشرح فتح البارى) كتاب التهجد، باب تحريض النبى صلى الله عليه وسلم على قيام الليل والنوافل من غير إيجاب 3/14 رقم 1129، ومسلم (بشرح النووى) كتاب صلاة المسافرين، باب الترغيب فى قيام الليل 3/296 رقم 761.
.. ووجه الاستدلال منه على عصمته فى اجتهاده صلى الله عليه وسلم أنه توقع أن يترتب على المواظبة على صلاة الليل جماعة فرضها عليهم، كما هى واجبة عليه صلى الله عليه وسلم، لأن الأصل فى الشرع المساواة بين النبى صلى الله عليه وسلم وبين أمته فى العبادة مالم يدل دليل على الخصوصية، فأداه اجتهاده عليه الصلاة والسلام بسبب رحمته بهم إلى عدم الخروج إليهم والصلاة بهم خشية أن تفرض عليهم فيعجزوا عنها (1) وبما أنه لم يرد دليل على الفرضية، فهو بمنزلة الإقرار من رب العزة لما اجتهد فيه صلى الله عليه وسلم؛ حيث وافق مراد الله بعدم الفرضية، وهو دليلنا على عصمته صلى الله عليه وسلم فى اجتهاده.
7-
وعن أبى هريرة رضى الله عنه قال: بعثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فى بعث فقال: "إن وجدتم فلاناً وفلاناً فاحرقوهما بالنار" ثم قال صلى الله عليه وسلم: حين أردنا الخروج: إنى أمرتكم أن تحرقوا فلاناً وفلاناً وأن النار لا يعذب بها إلا الله فإن وجدتموهما فاقتلوهما" (2) .
…
إن قوله: "إن وجدتم فلاناً وفلاناً فاحرقوهما" كان هذا الأمر منه أولاً اجتهاداً، ثم عدل عنه باجتهاد آخر؛ وعلله صلى الله عليه وسلم بقوله:"النار لا يعذب بها إلا الله".
…
وقد استدل بالحديث الحافظ ابن حجر على: "جواز الحكم بالشئ اجتهاداً ثم الرجوع عنه"(3) وفى الرجوع واستمرار الحكم على ذلك، وعدم ورود ما يخالفه عنه صلى الله عليه وسلم هو بمنزلة الإقرار من الله تعالى على هذا الحكم النهائى الذى رجع فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم. وهو دليل عصمته فى اجتهاده.
(1) ينظر: فتح البارى 3/17 رقم 1129.
(2)
أخرجه البخارى (بشرح فتح البارى) كتاب الجهاد، باب لا يعذب بعذاب الله6/173 رقم 3016.
(3)
فتح البارى 6/175 رقم 3016.
.. وبعد: فهذه نماذج من الأحاديث التى تدل على اجتهاده صلى الله عليه وسلم فى الشريعة الإسلامية، وعصمة الله تعالى له فيها؛ إما بالإقرار إذا وافق اجتهاده مراده عز وجل، وإما بالتصويب والإرشاد إذا خالف اجتهاده مراده تعالى.
…
وفى كلا الأمرين (الإقرار والتصويب) هو بمنزلة الوحي الإلهى يصير حجة على العباد إلى يوم الدين؛ ويحرم مخالفته خلافاً لمن أجاز ذلك، وزعم أن خطأ رسول الله صلى الله عليه وسلم فى اجتهاده دليل على أنه يجوز الاجتهاد فى نفس الأحكام التى اجتهد فيها ومخالفته! (1) .
…
ونعم أقول: إن بعض اجتهاداته صلى الله عليه وسلم لم تصادف الصواب؛ ولكن أين حكم الله تعالى فى الأمر الذى اجتهد فيه صلى الله عليه وسلم ولم يصب؟! إن ما يصدر عن النبى صلى الله عليه وسلم من اجتهاد - على ما تقرر سابقاً فى أكثر من موضع، إما أن يوافق حكم الله أولاً.
…
فإن وافق حكم الله على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم، فهو كما أخبر به عليه الصلاة والسلام، وإن لم يوافق حكم الله عدله إلى حكمه جلا جلاله. وإذن تصبح الأحكام الدينية التى حكم بها رسول الله اجتهاداً أحكام الله فى النهاية، وقبل لقائه الرفيق الأعلى، وتصير تلك الأحكام حجة إجماعاً بلا شك (2) ويشهد لصحة ما سبق إجماع الأمة على عصمته صلى الله عليه وسلم فى اجتهاده، فإلى بيان ذلك.
(1) سيأتى ذكرهم والرد عليهم بالتفصيل فى الفصل الثانى ص412 - 431.
(2)
حكى الإجماع الإمام الغزالى فى المستصفى 2/355، 356. وينظر: مصادر الشرعية الإسلامية للمستشار الدكتور على جريشة ص38، 39، والفقه الإسلامى مرونته وتطوره للإمام الأكبر جاد الحق ص26 - 31 والإحكام للآمدى 4/187 - 189.