الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
5-
أما قوله تعالى:
{يا أيها النبى لم تحرم ما أحل الله لك
تبتغى مرضات أزواجك والله غفور رحيم} (1) ففهم البعض من هذه الآية، أن تحريمه صلى الله عليه وسلم على نفسه ما أحله الله له ابتغاء مرضاة أزواجه، أنه ارتكب ذنباً، وبالتالى فهو غير معصوم! .
قال أحمد صبحى منصور (2) : "إن تحريم الحلال، اعتداء على حق الله تعالى فى التشريع، والله تعالى يقول فى ذلك:{يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين} (3) .
(1) الآية الأولى التحريم.
(2)
أحمد صبحى منصور، تخرج فى الأزهر الشريف، وحصل على العالمية فى التاريخ من الجامعة، وتبرأ من السنة النبوية، زاعماً أن السنة عمل شيطانى، ورواتها مجرمون خونة، فتبرأت منه الجامعة، سافر إلى أمريكا، وعمل مع المتنبئ رشاد خليفة، يحاضر بالجامعة الأمريكية بمصر، ومدير رواق ابن خلدون الثقافى بالمقطم، من مؤلفاته: الأنبياء فى القرآن دراسة تحليلية، والمسلم العاصى، وعذاب القبر والثعبان الأقرع، والقرآن وكفى، وغير ذلك ينظر: قصته هو ورشاد خليفة فى كتابى: مسيلمة فى مسجد توسان، والدفاع عن السنة - الجزء الأول من سلسلة الإسلام واستمرار المؤامرة، كلاهما لفضيلة الدكتور طه حبيشى.
(3)
الآية 87 المائدة، وينظر: الأنبياء فى القرآن دراسة تحليلية ص53، والنص والاجتهاد لعبد الحسين شرف الدين، ص291، وحوار ومناقشة كتاب عائشة لهشام آل قطيط ص178، 190 - 192، ودفاع عن الرسول ضد الفقهاء والمحدثين لصالح الوردانى ص95 - 97، 117، 118.
وأحمد صبحى منصور فيما أطلقه فى حق رسول الله صلى الله عليه وسلم تقول وافتراء، والنبى صلى الله عليه وسلم منه براء، وتعليله بما علل به، تصيد لزلة من زلات أحد المفسرين الأعلام هو الزمخشرى؛ إذ قال فى تفسيره:"كان هذا ما حرمه الرسول على نفسه من ملك اليمين أو العسل زلة منه، لأنه ليس لأحد أن يحرم ما أحل الله، لأن الله عز وجل، إنما أحل ما أحل لحكمة ومصلحة عرفها فى إحلاله، فإذا حرم كان ذلك قلب المصلحة مفسدة"(1) .
قلت: وعد الزمخشرى رحمه الله، ظاهر التحريم فى الآية زلة لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وتعليله بما علل به، زلة من الزمخشرى نفسه.
وإليك تفصيل ذلك فى الجواب:
أولاً: قبل دفع هذه الشبهة، وما قاله الزمخشرى، وتبعه فيه خصوم السنة المطهرة، والسيرة العطرة، أذكر سبب نزول هذه الآية، حيث يوضح سبب النزول حقيقة ما حرمه رسول الله صلى الله عليه وسلم على نفسه مما كان حلاله.
فأقول: وردت روايات فى صحيحى البخارى ومسلم، وتفيد أن ما حرمه صلى الله عليه وسلم على نفسه هو العسل، كذلك وردت روايات أخرى تفيد أن ما حرمه صلى الله عليه وسلم على نفسه هو وطء جاريته مارية رضى الله عنها (2) . فلنذكر كلا منهما، لنعرف من الموازنة بينهما أيهما أصح، ولنعرف أيضاً أيهما أكثر توافقاً وانسجاماً مع ألفاظ هذه الآية، والآيات بعدها.
أ- حديث العسل:
(1) الكشاف 4/450.
(2)
هى: مارية القبطية، مولاة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وسريته، وهى أم ولده إبراهيم ابن سيد ولد آدم صلى الله عليه وسلم، أهداها له المقوقس صاحب الإسكندرية، لها ترجمة فى: أسد الغابة 7/253 رقم 7276، والاستيعاب 4/1912 رقم 4091.
.. روى مسلم فى صحيحه بسنده عن عائشة رضى الله عنها قالت: إن النبى صلى الله عليه وسلم كان يمكث عند زينب بنت جحش فيشرب عندها عسلاً. قالت: فتواطئت أنا وحفصة (1) أن أيتنا ما دخل عليها النبى صلى الله عليه وسلم، فلتقل: إنى أجد منك ريح مغافير (2) أكلت مغافير؟ فدخل على إحداهما، فقالت ذلك له. فقال:"بل شربت عسلاً عند زينب بنت جحش، ولن أعود له" فنزل: {يا أيها النبى لم تحرم ما أحل الله لك تبتغى مرضاة أزواجك}
…
إلى قوله: "إن تتوبا (لعائشة وحفصة) وإذ أسر النبى إلى بعض أزواجه حديثاً، لقوله: بل شربت عسلاً"(3) .
…
وفى رواية للبخارى: "فلن أعود له، وقد حلفت، لا تخبرى بذلك أحداً"(4) وقد روى مسلم فى صحيحه روايتين، أحدهما السابقة، والتى تفيد أن التى سقت الرسول صلى الله عليه وسلم العسل، زينب بنت جحش، وأن المتظاهرتين عليه هما عائشة وحفصة رضى الله عنهما.
(1) هى: حفصة بنت عمر بن الخطاب رضى الله عنهما، وزوج النبى صلى الله عليه وسلم، توفيت سنة 41هـ، وقيل غير ذلك. لها ترجمة فى: تاريخ الصحابة ص83 رقم 339، والرياض المستطابة ص312، وأسد الغابة 7/67 رقم 6852، والاستيعاب 4/1811 رقم 3797.
(2)
بفتح الميم، وبغين معجمة، وفاء بعدها ياء، وأحدها مغفور وهو: صمغ حلو كالنَّاطِف، وله رائحة كريهة منكرة، ينضحه شجر يقال له: العرفط، يكون بالحجاز ينظر: النهاية فى غريب الحديث 3/336.
(3)
أخرجه مسلم (بشرح النووى) كتاب الطلاق، باب وجوب الكفارة على من حرم امرأته ولم ينو الطلاق 5/330 رقم 1474.
(4)
أخرجه البخارى (بشرح فتح البارى) فى عدة أماكن منها كتاب التفسير، باب سورة التحريم 8/524 رقم 4912.
.. والرواية الثانية تفيد أن التى سقته العسل هى حفصة، وأن المتظاهرات عليه من نسائه، سودة وعائشة وصفية رضى الله عنهن (1) والحديث الأول الذى فيه أن المتظاهرتين عائشة وحفصة رضى الله عنهما أرجح (2) لما يلى:
لأنه يتوافق مع لفظ الآية: {وإن تظاهرا عليه} (3) فإنه بالتثنية.
ولأنه يتفق مع الحديث الذى رواه البخارى ومسلم فى صحيحهما بسندهما عن ابن عباس رضى الله عنهما، أنه سأل عمر رضى الله عنه عن المرأتين اللتين نزلت فيهما الآية:{وإن تظاهرا عليه} فما أتم سؤاله حتى قال عمر: هما عائشة وحفصة رضى الله عنهما (4) .
ب- حديث مارية رضى الله عنهما:
(1) ينظر: صحيح مسلم (بشرح النووى) فى الأماكن السابقة نفسها مع صحيح البخارى (بشرح فتح البارى) كتاب الطلاق، باب لم تحرم ما أحل الله لك 9/287 رقم 5268.
(2)
وهو رأى القاضى فى إكمال المعلم بفوائد مسلم 5/29 رقم 1474، واختاره النووى فى المنهاج شرح مسلم 5/334 رقم 1474، وابن حجر فى فتح البارى 9/289 رقم 5266،وابن كثير فى تفسيره 8/187.
(3)
جزء من الآية 4 التحريم.
(4)
أخرجه البخارى (بشرح فتح البارى) كتاب التفسير، باب وإذ أسر النبى إلى بعض أزواجه حديثاً والباب الذى يليه 8/526، 527 رقمى 4914، 4915، ومسلم (بشرح النووى) كتاب الطلاق، باب الإيلاء واعتزال النساء 5/339 رقم 1479.
.. عن أنس بن مالك رضى الله عنه قال: "إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كانت له أمة يطؤها فلم تزل به عائشة، وحفصة حتى حرمها فأنزل الله عز وجل:{يا أيها النبى لم تحرم ما أحل الله لك تبتغى مرضاة أزواجك والله غفور رحيم} (1) .
…
وعن عمر رضى الله عنه قال: دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم بأم ولده مارية فى بيت حفصة، فوجدته حفصة معها، فقالت له: تدخلها بيتى، ما صنعت بى هذا من بين نسائك إلا من هوانى عليك، فقال: لا تذكرى هذا لعائشة، فهى علىَّ حرام إن قربتها"، قالت حفصة: وكيف تحرم عليك وهى جاريتك، فحلف لها لا يقربها، فقال النبى صلى الله عليه وسلم، لا تذكريه لأحد، فذكرته لعائشة، فآلى لا يدخل على نسائه شهراً، فاعتزلهن تسعاً وعشرين ليلة: فأنزل الله تعالى: {لم تحرم ما أحل الله لك} (2) .
(1) الآية الأولى التحريم، والحديث أخرجه النسائى فى سننه الكبرى، كتاب عشرة النساء، باب الغيرة 5/286 رقم 8907، وفى كتاب التفسير، باب سورة التحريم 6/495 رقم 11607، وسنده صحيح كما قال الحافظ فى فتح البارى 9/288 رقم 5266، والحاكم فى المستدرك 2/535 رقم 3824 وقال صحيح على شرط مسلم، ووافقه الذهبى.
(2)
أخرجه الدارقطنى فى سننه كتاب الطلاق والخلع والإيلاء 4/41، 42 رقم 122، قال العظيم آبادى فى التعليق المغنى 4/41 فيه عبد الله بن شعيب هو أبو سعيد أخبارى علامة لكنه واه، قال الحاكم ذاهب الحديث، وكذا حاله فى لسان الميزان 2/439 رقم 4378، وأخرجه الهيثمى بن كليب فى مسنده بنحوه عن عمر بسند صحيح كما قال الحافظ ابن كثير فى تفسيره 8/186، وينظر: فتح البارى 8/525 رقم 4911.
.. وللحديث شواهد أخرى (1) بمجموعها يتبين أن للقصة أصلاً، كما قال الحافظ ابن حجر، وزاد أحسب لا كما زعم القاضى عياض أن هذه القصة لم تأت من طريق صحيح (2) وغفل – رحمه الله – عن طريق النسائى التى سلفت، فكفى بها صحة (3) .
…
وهناك أقوال أخرى غير ما سبق فى أسباب نزول آية التحريم، ولكن ضعفها العلماء لإرسالها وشذوذها (4) ولهذا استبعدت ذكرها.
(1) عن ابن عباس رضى الله عنهما أخرجه البيهقى فى سننه كتاب الخلع والطلاق، باب من قال لامرأته، أنت على حرام 7/351، والطبرانى فى الكبير 11/86 رقم 11130، والبزار بإسنادين رجالهما رجال الصحيح غير بشر بن آدم الأصغر وهو ثقة، كما قال الهيثمى فى مجمع الزوائد 7/126، وعن قتادة مرسلاً، أخرجه أبو داود فى المراسيل، كتاب النكاح، باب ما جاء فى الحرام ص94 رقم 254، وعن مسروق مرسلاً أخرجه سعيد بن منصور فى سننه 1/438 رقم 6707، وإسناده صحيح كما قال الحافظ فى فتح البارى 8/525 رقم 4911، وعن زيد بن أسلم مرسلاً، أخرجه الطبرانى بسند صحيح كما قال الحافظ فى الفتح 9/288 رقم 5266.
(2)
ينظر:إكمال المعلم بفوائد مسلم 5/29 رقم 1474، والمنهاج شرح مسلم 5/335 رقم 1474.
(3)
تلخيص الحبير 3/447 رقم 1595، وكذا قال فى الفتح 8/525 رقم 4911.
(4)
ينظر: فتح البارى 9/289 رقم 5266، وتفسير القرآن العظيم لابن كثير 8/187، وأحكام القرآن لابن العربى 4/1833.
.. ويبقى معنا قولان: الأول: وهو تحريم العسل، والثانى: وهو تحريم مارية أما القول الأول: فهو إن كان أقوى من جهة رواية الشيخين له، ورجحه بعض الأئمة على ما سبق قريباً، إلا أن القول الثانى: أكثر موافقة لألفاظ الآيات، ومال إلى ترجيحه ابن الجوزى (1) فى تفسيره، وأسنده إلى بعض أئمة السلف والأكثرين من المفسرين، وإلى هذا الترجيح مال جمال الدين القاسمى فى تفسيره حيث قال: "والذى يظهر لى هو ترجيح روايات تحريم الجارية فى سبب نزولها وذلك لوجوه: منها: أن مثله يبتغى به مرضاة الضرات (2) ويهتم به لهن. ومنها: أن روايات شرب العسل لا تدل على أنه حرمه ابتغاء مرضاتهن بل فيه أنه حلف لا يشربه أنفة من ريحه (3) .
…
ولا مانع من القول بعد كل هذا بأن الآية نزلت بعد القصتين، فاقتصر بعض الرواة على إحداهما، والبعض الأخرى على نقل الأخرى. قال الحافظ فى فتح البارى:"وطريقة الجمع بين هذا الاختلاف، الحمل على التعدد، فلا يمتنع أن تكون الآية نزلت فى السببين معاً"(4) .
(1) هو: عبد الرحمن بن على بن محمد الجوزى القرشى البغدادى، ابو الفرج، علامة عصره فى الحديث والتاريخ، له نحو ثلاثمائة مصنف منها: زاد المسير فى التفسير، والمنتظم فى تاريخ المملوك والأمم. مات سنة 597هـ له ترجمة فى: البداية والنهاية لابن كثير 13/31، وطبقات المفسرين للداودى 1/275 رقم 260، وتذكرة الحفاظ للذهبى 4/1342 رقم 1098، والذيل على طبقات الحنابلة لابن رجب 1/399، والنجوم الزاهرة لابن تغرى 6/174.
(2)
يقصد بالضرات الزوجات، وإن كانت السرية ليست ضرة بالمعنى الشرعى، وإنما هى ضرة فى الواقع النفسى لهن.
(3)
محاسن التأويل 16/5855.
(4)
فتح البارى 9/289 رقم 5266، 8/525 رقم 4912.
.. قلت: وأياً كان السبب، فإن ما أطلقه الزمخشرى، وتابعه فيه خصوم السنة النبوية، والسيرة العطرة، فى حق النبى صلى الله عليه وسلم تقول وافتراء، والنبى صلى الله عليه وسلم مما أطلقوه براء، وذلك أن تحريم ما أحله الله على وجهين:
الوجه الأول: اعتقاد ثبوت حكم التحريم فيه، فهذا بمثابة اعتقاد حكم التحليل فيما حرمه الله عز وجل، وكلاهما محظور لا يصدر من المتسمين بسمة الإيمان، وإن صدر! سلب المؤمن حكم الإيمان.
…
والزمخشرى كلامه محمول على هذا المحمل، ومعاذ أن يعتقد رسول الله صلى الله عليه وسلم تحريم ما أحله الله له
…
وما هذه من الزمخشرى إلا جراءة على الله ورسوله؛ تابعه فيها بعض أدعياء العلم على ما سبق.
الوجه الثانى: الامتناع عما أحله الله عز وجل، وهو المعنى الأصلى لمادة "حرم" فى اللغة (1) وقد ورد التحريم بهذا المعنى فى القرآن الكريم فى آيات منها:
قوله تعالى: {وحرمنا عليه المراضع من قبل} (2) أى منعنا موسى المراضع، أن يرتضع منهن إلا من قِبَلِ أمه (3) .
وقوله عز وجل: {إنه من يشرك بالله فقد حرم الله عليه الجنة} (4) أى منعه من دخولها.
وقوله سبحانه: {كل الطعام كان حلاً لبنى إسرائيل إلا ما حرم إسرائيل على نفسه} (5) أى إلا ما امتنع عنه سيدنا يعقوب عليه السلام عنه من قبل نفسه.
والامتناع عما أحله الله قد يكون مؤكداً باليمين مع اعتقاد حله، وهذا مباح صرف، وحلال محض.
(1) فحرمه، وتحريمه، وحرماناً، وأحرمه، أى منعه. والمحروم: الممنوع عن الحير، ومن لا ينمى له مال، ومنه الصيام إحرام، لامتناع الصائم عما يفسد صومه ينظر: معجم مقاييس اللغة 2/45، والقاموس المحيط 4/93، ومختار الصحاح ص132، والنهاية فى غريب الحديث 1/358.
(2)
الآية 12 القصص.
(3)
جامع البيان للطبرى 20/40.
(4)
الآية 72 المائدة.
(5)
الآية 93 آل عمران.
وعلى هذا الوجه الثانى تحمل آية التحريم، والتفسير الصحيح، والحديث الصحيح يعضده فإن النبى صلى الله عليه وسلم فى العسل قال:"فلن أعود له، وقد حلفت". وفى مارية عندما قالت حفصة، كيف تحرم عليك وهى جاريتك حلف لها لا يقربها.
فالتحريم منه صلى الله عليه وسلم كان امتناعاً عن العسل أو مارية، وهو امتناع أكده باليمين، مع اعتقاد حله، ولذا نزلت الآيات وفيها الحث على التحلل من يمينه، والتكفير عنه، قال تعالى:{قد فرض الله لكم تحلة أيمانكم} (1) وهذا المقدار مباح، والمباحات جائز وقوعها من الأنبياء، وليس فيها قدح فى عصمتهم (2) .
وإنما قيل له صلى الله عليه وسلم: {لم تحرم ما أحل الله لك} (3) رفقاً به، وشفقه عليه، وتنويهاً لقدره بحيث لا يجب له أن يضيق على نفسه فى سبيل إرضاء أى شخص، فيكون معنى الآية على هذا، وقد صدرت بندائه بوصف النبوة تشريفاً لمكانه، وتعظيماً لمقامه، يا أيها النبى لم تمنع نفسك وتحرمها من الاستمتاع بما أحله الله لك، مما لك فيه رغبة ومتعة وسرور، تبتغى بذلك مرضاة أزواجك؟ وهن أحق أن يسعين فى رضاك ليسعدن!.
وهذا القيد {تبتغى مرضاة أزواجك} هو محط العتاب فى الحقيقة، وليس مجرد منعه صلى الله عليه وسلم نفسه من المتعة بالمباح، محلاً للعتاب، لأنه صلى الله عليه وسلم كثيراً ما منع نفسه من بعض المباحات، التى ينعم بها الناس، ولاسيما فى مجال المتعة الجسدية، زهداً فى الدنيا وبعداً عنها، ولم يحظر عليه ذلك، ولم يعاتبه الله تعالى على شئ من ذلك كله.
(1) اٍلآية 2 التحريم.
(2)
يراجع ما سبق ص 127، 147.
(3)
جزء من الآية الأولى التحريم.
إذن فى قوله تعالى: {يا أيها النبى لم تحرم ما أحل الله لك تبتغى مرضاة أزواجك} منَّة وتعظيم من الله عز وجل لرسوله صلى الله عليه وسلم برفع الحرج عليه، فى الامتناع عن شئ ليرضى أزواجه، إذ هنَّ وسائر المؤمنين أحق أن يسعوا فى مرضاته ليسعدن، قال تعالى:{فاصبر على ما يقولون وسبح بحمد ربك قبل طلوع الشمس وقبل غروبها ومن آناء الليل فسبح وأطراف النهار لعلك ترضى} (1) .
فتأمل كيف أن صلاته صلى الله عليه وسلم مأمورا بها ليرضى هو، لا ليكفر الله عنه سيئاته، ولا ليرضى عليه، وحينئذ فلا كلفة عليه فيها، لأن فيها شهوده لربه الذى هو قرة عينه، كما قال صلى الله عليه وسلم:"وجعلت قرة عينى فى الصلاة"(2) فانظر: إلى هذا الخطاب اللطيف المشعر بأنه صلى الله عليه وسلم حبيب رب العالمين، وأفضل الخلق أجمعين، حيث قال له ربه:{لعلك ترضى} ولم يقل: لعلى أرضى عنك، ونحو ذلك (3) .
(1) الآية 130 طه.
(2)
أخرجه النسائى فى سننه الصغرى كتاب عشرة النساء، باب حب النساء 7/61 رقم 3939، وأحمد فى مسنده 3/128، 199، 285، والحاكم فى المستدرك 2/174 رقم 2676 وصححه على شرط مسلم، ووافقه الذهبى، وعزاه العراقى فى تخريج الإحياء 2/35 إلى النسائى والحاكم وقال: إسناده جيد، وأخرجه البيهقى فى سننه الكبرى 7/87.
(3)
ينظر: دلالة القرآن المبين على أن النبى صلى الله عليه وسلم أفضل العالمين لعبد الله الغمارى ص92.
ومن هنا جعل رب العزة رضاه عن خلقه، مقترناً برضا حبيبه ومصطفاه صلى الله عليه وسلم عنهم، حيث أتبع رضا نبيه لرضاه سبحانه مباشرة، كما دل عليه قوله تعالى:{يحلفون بالله لكم ليرضوكم والله ورسول أحق أن يرضوه إن كانوا مؤمنين} (1) فوحد عز وجل الضمير فى "يرضوه" مع أن الظاهر بعد العطف بالواو التثنية؛ لأن إرضاء الرسول صلى الله عليه وسلم لا ينفك عن إرضاء الله تعالى، كما قال عز وجل:{من يطع الرسول فقد أطاع الله} (2) فلتلازمهما جعلاً كشئ واحد، فعاد إليهما الضمير المفرد (3) وإذا كان الله تعالى قد جعل إرضاء رسوله صلى الله عليه وسلم إرضاءً له، وطاعته طاعة له، فذلك دليل على كمال رضاه عنه فى الدنيا قبل الآخرة، وليس أدل على ذلك من مسارعة ربه لمرضاته صلى الله عليه وسلم كما قال:{قد نرى تقلب وجهك فى السماء فلنولينك قبلة ترضاها} (4) وقوله سبحانه: {ولسوف يعطيك ربك فترضى} (5) .
فتأمل هذا الخطاب، وقارنه بخطاب موسى عليه السلام لربه {وعجلت إليك ربى لترضى} (6) .
(1) الآية 62 التوبة.
(2)
الآية 80 النساء.
(3)
روح المعانى للألوسى 10/128.
(4)
جزء من الآية 144 البقرة.
(5)
الآية 5 الضحى.
(6)
الآية 84 طه.
وهذه المسارعة فى مرضاته صلى الله عليه وسلم لاحظتها أم المؤمنين عائشة رضى الله عنها، لما أنزل الله تعالى:{ترجى (1) من تشاء منهن وتؤوى إليك من تشاء ومن ابتغيت ممن عزلت فلا جناح عليك} (2) قال عائشة قلت: "ما أرى ربك إلا يسارع فى هواك"(3) أى ما أرى الله إلا موجوداً لما تريد بلا تأخير، منزلاً لما تحب وتختار وترضى (4) وإنما جاء التعبير بالهوى هنا، بدافع الغيرة، وحاشاها رضى الله عنها أن تعنى حقيقة اللفظ!.
(1) حاصل ما نقل فى تأويل "ترجى" أقوال: أحدها تُطَلِق وتُمْسِك، ثانيها: تعتزل من شئت منهن بغير طلاق، وتقسم لغيرها؛ ثالثها: تقبل من شئت من الواهبات، وترد من شئت والحديث يؤيد هذا الأخير، والذى قبله، واللفظ محتمل للأقوال الثلاثة، وظاهر ما حكته عائشة رضى الله عنها من استئذانه أنه لم يرج أحداً منهن، بمعنى أنه لم يعتزل، وهو قول الزهرى:"ما أعلم أنه أرجأ أحداً من نسائه" وعن قتادة: "أطلق له أن يقسم كيف شاء، فلم يقسم إلا السوية" ينظر: فتح البارى 8/386 رقم 4788.
(2)
الآية 51 الأحزاب.
(3)
بداية الحديث، قالت عائشة: كنت أغار على اللاتى وهبن أنفسهن لرسول الله صلى الله عليه وسلم وأقول: أتهب المرأة نفسها؟ فلما أنزل الله تعالى: {ترجى من تشاء منهن}
…
الآية" والحديث أخرجه البخارى (بشرح فتح البارى) كتاب التفسير، باب ترجى من تشاء منهن
…
8/385 رقم 4788، ومسلم (بشرح النووى) كتاب الرضاع، باب جواز هبتها نوبتها لضرتها 5/305 رقم 1464.
(4)
ينظر: فتح البارى 8/386 رقم 4788.
وبعد: أليس فيما سبق تأكيد لما فى آية التحريم من منَّة وتكريم وتعظيم لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وشفقة عليه، ورفقاً به، بحيث لا يجب عليه أن يمتنع عن شئ مباح له من أجل مرضاة أزواجه، إذ هن وسائر الأمة كافة أحق أن يسعوا فى مرضاته ليسعدن فى الدنيا والآخرة؟! وإذا افترض أن فى الآية إنكاراً عليه، ودليل على أنه صدر منه ذنب – عصمه الله من ذلك - فقوله تعالى فى ختام الآية {والله غفور رحيم} يدل على حصول الغفران، وبعد حصول الغفران، يستحيل أن يتوجه الإنكار عليه!.
بمعنى: أنه يمتنع أن يقال أن قوله {لم تحرم ما أحل الله لك} دليل على كون الرسول مذنباً! وإذا صح أن فى الآية عتاب، فهو وارد بأحسن ما يكون العتاب من تعظيم المولى عز وجل لنبيه صلى الله عليه وسلم، حيث ناداه وخاطبه فى هذا المقام بوصف النبوة فى أكثر من موطن فى القصة بدأً من أولها، قال تعالى:{يا أيها النبى لم تحرم ما أحل الله لك} (1) وقوله سبحانه: {وإذ أسر النبى إلى بعض أزواجه حديثا} (2) ولكن أنى يكون العتاب؟ وأنى يصح افتراضه، مع ما ورد فى القصة من قوله عز وجل:{إن تتوبا إلى الله فقد صغت قلوبكما} (3) إن فى الآية بيان لمن أذنب، ولمن يستحق العتاب والتأديب، من نسائه اللائى تظاهرن عليه صلى الله عليه وسلم، وأفشين سره، إنهن بالتظاهر، وإفشاء السر، آذين رسول الله صلى الله عليه وسلم، والتوبة من ذلك واجبة فى حقهن، لأن قلوبهن قد مالت عن الحق، كما تدل عليه قراءة ابن مسعود رضى الله عنه {زاغت قلوبكما} (4) وعلى هذا فإن قوله {فقد صغت قلوبكما} ليس جواب الشرط، وإنما هو دليله وتعليله.
(1) الآية الأولى التحريم.
(2)
الآية 3 التحريم.
(3)
الآية 4 التحريم.
(4)
روح المعانى 28/ 152.
والمعنى على هذا: إن تتوبا إلى الله، وترجعا عن مغاضبة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإيذائه بالتظاهر عليه، وإفشاء سره، فالتوبة حق واجب عليكما، لأن قلوبكما قد زاغت ومالت عن الحق فى مغاضبة رسول الله صلى الله عليه وسلم وإيذائه.
ويمكن أن تحمل الآية على فهم آخر، يأتى من حمل قوله تعالى:{فقد صغت قلوبكما} على معنى أنها مالت إلى الحق، وهو ما وجب من مجانبة ما يسخط رسول الله (1) وندمت على ما كان منها، من مغاضبة النبى صلى الله عليه وسلم، وإيذائه.
والمعنى على هذا: إن تتوبا إلى الله، وترجعا عن مغاضبة النبى صلى الله عليه وسلم، وتندماً على ما كان منكما، فقد مالت قلوبكما إلى الحق، ومصالحة النبى صلى الله عليه وسلم ومرضاته، وأن ما كان منكما من مغاضبة، وإيذاء لم يكن صادراً عن قلوبكما، وإنما هو فورة غضب، ونار غيرة.
ويؤكد هذا قوله تعالى: {وإن تظاهرا عليه} (2) أى إن استمررتما على المغاضبة، والإيذاء، وتعاونتما عليه صلى الله عليه وسلم، فإن الله ناصره بقوته القاهرة، وخواص ملائكته، وعامتهم، وصالح المؤمنين، وهذا كالمقابل لقوله:{إن تتوبا إلى الله فقد صغت قلوبكما} 0
(1) محاسن التأويل 16/5863.
(2)
جزء من الآية 4 التحريم.
ثم تلطف الله تعالى بنبيه صلى الله عليه وسلم إظهاراً لحفاوته به، وإعلاء لمقامه، بما زاد فى تأديب الزوجات الطاهرات، متمشياً مع أسلوب الزجر والتهديد فقال:{عسى ربه إن طلقكن أن يبدله أزواجاً خيراً منكن مسلمات مؤمنات قانتات تائبات عابدات سائحات ثيبات وأبكاراً} (1) أى جامعات للكمال فى إسعاده صلى الله عليه وسلم حساً ومعنى، فلا يعصين له أمراً، ولا يخالفن له نهياً، يعملن على إسعاده، وإدخال السرور عليه، بما يفرغ قلبه من حمل أثقال الزوجية إلى القيام بواجبه الأعظم، وهو تبليغ رسالته، وتعليم أمته، وإعطاؤها الأسوة الحسنة به، لتكون كما أرادها الله تعالى خير أمة أخرجت للناس (2) .
وكل ما سبق تأكيد على أن قوله تعالى: {لم تحرم ما أحل الله لك} ليس إنكاراً عليه، ولا عتاباً له على ذنب، بل تكريمه وتعظيمه على نحو ما سبق فى قوله تعالى:{عفا الله عنك لم أذنت لهم} (3) ونحو ما يقول الإنسان منا لعزيز عليه، ضيق على نفسه فى شئ، والله حرام عليك فعل كذا، والمراد: إظهار مكانته، وفضله، وشرفه، إذ كيف يفعل هذا الأمر الذى فيه مشقة عليه، مع عظم مكانته، والمراد "حرام عليك ظلم نفسك" وليس المراد تأثيم المخاطب المعظم بنحو هذه العبارة، وهذا غاية ما يمكن أن يدعى فى قوله {لم تحرم ما أحل الله لك} أن تكون دالة على أنه صلى الله عليه وسلم ترك الأولى والأفضل بالنسبة لمقامه العظيم، وترك الأولى فى المباح ليس بذنب فى حقه صلى الله عليه وسلم.
(1) الآية 5 التحريم.
(2)
ينظر: آيات عتاب المصطفى صلى الله عليه وسلم فى ضوء العصمة والاجتهاد للدكتور عويد المطرفى ص263 – 279.
(3)
الآية 43 التوبة، ويراجع ص148.
وبعد: فقد تضمن الكتاب العزيز من التصريح بجليل رتبته صلى الله عليه وسلم، وتعظيم قدره، وعلو منصبه، ورفعة ذكره، ما يقضى بأنه جمع أقصى درجات التكريم، ويكفى أن تجد هذا التصريح بعظيم مكانته وفضله عند ربه عز وجل فى الدنيا والآخرة، حتى فى الآيات المتشابهات التى استدل بها أعداء الإسلام، وخصوم السنة المطهرة، والسيرة العطرة، على نحو ما سبق تفصيله فى هذا المبحث الذى وصلنا إلى نهايته الآن، وسوف أنتقل بإذن الله تعالى، إلى شبهاتهم على عدم عصمته فى عقله من السنة المطهرة والرد عليها فى المبحث التالى، فإلى بيان ذلك.