الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث الثانى: دلائل عصمته صلى الله عليه وسلم فى تبليغ الوحي
من خلال القرآن الكريم والسنة المطهرة
…
إن مهمة الرسل الأولى التى كلفهم الله عز وجل بها إلى الأمم ليخرجوهم من الظلمات إلى النور، هى التبليغ الذى أوجبه الله تعالى عليهم بمقتضى اصطفائهم للرسالة التى حملهم إياها، فيجب عليهم التبليغ، ويستحيل عليهم أى شئ يخل به ككتمان الرسالة، والكذب فى دعواها، وتصور الشيطان لهم فى صورة الملك وتلبيسه عليهم فى أول الرسالة وفيما بعدها، وسلطه على خواطرهم بالوساوس، لا على وجه العمد، ولا على وجه السهو، ولا فى حال الرضى أو السخط، والصحة أو المرض، ويجب على المسلمين اعتقاد ذلك فيهم.
…
ولقد دلت نصوص القرآن الكريم، والسنة المطهرة، والسيرة العطرة على عصمة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم فى هذا الجانب، وانعقد إجماع الأمة على ذلك وقبل تفصيل ذلك، أرى لزاماً علىَّ بيان مجالات البلاغ الذى أمر الله عز وجل به رسوله صلى الله عليه وسلم، وشهادة الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم بأداء واجب البلاغ على أكمل وجه.
مجالات البلاغ الذى أمر الله تعالى به رسوله صلى الله عليه وسلم:
…
والبلاغ الذى أمر الله به رسوله صلى الله عليه وسلم عام وشامل لكل ما تحتاج إليه البشرية فى عاجلها وآجلها، ودنياها وأخراها، سواء كان ذلك بوحى القرآن، أو وحى السنة، فشمل ذلك إبلاغ القرآن، وإبلاغ السنة، إذ كل ذلك مما أنزله الله عليه من أمر الدين، كما أفاد ذلك عموم الاسم الموصول (ما) فى الآية الكريمة:{يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك} (1) كما عمم من أراد تبليغهم حيث حذف المفعول الأول لبلغ، ليعم الخلق المرسل إليهم، والتقدير: بلغ جميع ما أنزل إليك من يحتاج إلى معرفته من أمر الدين الموحى به إليك" (2) .
(1) الآية 67 المائدة.
(2)
التحرير والتنوير 6/260 بتصرف.
.. وقد قام رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك البلاغ كله على وجه الكمال والتمام من يوم أن أنزل الله تعالى الرسالة، وكلفه بالبلاغ، بصدر سورة المدثر، {يا أيها المدثر. قم فأنذر} (1) فإنه من حينئذ قام بإبلاغ القرآن، وإبلاغ السنة على حد سواء، لا يألو فى ذلك جهداً ولا يدخر وسعاً، حتى أتم الله له الدين وقمع به المشركين والمبطلين.
تبليغه القرآن الكريم:
…
أما تبليغه صلى الله عليه وسلم القرآن فقد قام بذلك استجابة لقوله تعالى: {وقرآناً فرقناه لتقرأه على الناس على مكث ونزلناه تنزيلاً} (2) أى: لتبلغه الناس وتتلوه على مهل لتكون ألفاظه ومعانيه أثبت فى نفوس السامعين (3) .
…
فقام بذلك حق القيام، فكانت له به عناية خاصة فى تعليمه وإذاعته ونشره، فهو يقرؤه لهم على مكث لو عده العاد لأحصاه، ترتيلاً كما أمر الله، ويسمعهم إياه فى الخطب، والصلاة، وفى الدروس والعظات والدعوة والإرشاد، وفى الفتوى والقضاء، ويدارسهم إياه فيسمع منهم ويسمعون منه، ومن لم يكن حاضراً لديه كأهل البلاد المختلفة، أرسل إليهم بعثات القراء ليعلموهم إياه ويفقهونهم به، كما هو معلوم من رسالته وسيرته وسننه (4) .
(1) الآيتان 1، 2 المدثر.
(2)
الآية 106 الإسراء.
(3)
ينظر: تفسير القرآن العظيم 5/125، والتحرير والتنوير 15/231.
(4)
ينظر: مناهل العرفان فى علوم القرآن لمحمد الزرقانى 1/240، والبرهان للزركشى 1/233.
.. وقبل ذلك كله كان لا يكاد ينفك عنه الوحي حتى يقرأه على الناس ويدعو كتبة الوحي فيكتبوه ثم يحفظ فى بيته ليكون وثيقة لحفظه، وحفظ أصحابه كما هو مبين فى مظانه من كتب السنة والسيرة المشرفتين (1) .
تبليغه صلى الله عليه وسلم للسنة الشريفة:
…
وأما تبليغه صلى الله عليه وسلم للسنة، فما كان أقل شأناً من إبلاغ القرآن، بل كان مسايراً له فى كل أطوار البلاغ على حد سواء، لأن السنة هى: من الوحي الذى أنزل على النبى صلى الله عليه وسلم، كما قال الله تعالى:{وما ينطق عن الهوى. إن هو إلا وحى يوحى} (2) وقال عز وجل: {وأنزل عليك الكتاب والحكمة وعلمك ما لم تكن تعلم وكان فضل الله عليك عظيما} (3) .
…
ولذلك كانت سنته صلى الله عليه وسلم واجبة الطاعة والامتثال ككلام الله تبارك وتعالى، كما ألزم الله تعالى بقوله:{وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا} (4) إلى غير من الآيات الكثيرة التى توجب طاعته صلى الله عليه وسلم كما توجب طاعة الله تبارك وتعالى (5) .
(1) ينظر: صحيح البخارى (بشرح فتح البارى) كتاب فضائل القرآن، باب جمع القرآن 8/627 وباب كاتب النبى صلى الله عليه وسلم 8/638، والبرهان فى علوم القرآن للزركشى 1/233 – 241، والإتقان فى علوم القرآن للسيوطى 1/160 – 176 نص رقم 745 وما بعدها، ومناهل العرفان فى علوم القرآن لمحمد الزرقانى 1/240 – 337.
(2)
الآيتان 3، 4 النجم.
…
(3)
الآية 113 النساء.
(4)
الآية 7 الحشر.
(5)
سيأتى تفصيل هذه الآيات فى الرد على شبهة أنه لا طاعة لرسول الله صلى الله عليه وسلم ص364.
.. فلهذا كان النبى صلى الله عليه وسلم يعنى بإبلاغ السنة كما يعنى بإبلاغ القرآن، بل إن إبلاغه السنة كان أوسع دائرة من حيث إنه لا يمضى عليه حال من الأحوال، إلا وهو محتاج إلى أن يبين ما يستجد فيه من حكم أو موعظة أو قصة أو مثل، إذ القرآن يعنى بجوامع الأمور، وأصول التشريع، وقواعد الأحكام، ويتولى رسول الله صلى الله عليه وسلم بيان دقائق الأخبار وتفاصيل الأحوال فى كل الأحيان والأحوال، بل غالبه مجمل أوكل الله بيانه إلى نبيه محمد صلى الله عليه وسلم بقوله:{وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم ولعلهم يتفكرون} (1) وقد كان عليه الصلاة والسلام يبين القرآن الكريم على الدوام، والدليل على هذا محسوس ملموس؛ إذ هذه سنته صلى الله عليه وسلم التى بلغت مئات الآلاف من الأحاديث، والمدونة فى دواوين السنة، لم تترك صغيرة ولا كبيرة من أمر الدين إلا وتناولتها بالتفصيل والبيان، حتى بلغ من بيانه صلى الله عليه وسلم، أن أخبر أصحابه بما هو كائن إلى أن تقوم الساعة.
…
فعن عمرو بن أخطب الأنصارى رضى الله عنه (2) قال: "صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يوماً الفجر، وصعد المنبر، فخطبنا حتى حضرت الظهر، فنزل فصلى، ثم صعد المنبر، فخطبنا حتى حضرت العصر، ثم نزل فصلى، ثم صعد المنبر حتى غربت الشمس، فأخبرنا بما كان، وبما هو كائن إلى يوم القيامة، قال: فأعلمنا أحفظنا"(3) .
(1) الآية 44 النحل.
(2)
صحابى جليل له ترجمة فى: أسد الغابة 4/177 رقم 3854، والاستيعاب 3/1162 رقم 1889، وتجريد أسماء الصحابة 1/399، والرياض المستطابة ص237.
(3)
أخرجه مسلم (بشرح النووى) كتاب الفتن، باب إخبار النبى صلى الله عليه وسلم فيما يكون إلى قيام الساعة 9/243 رقم 2892.
.. ومن هذا الحديث تعلم مدى تبليغه صلى الله عليه وسلم للسنة، حيث كان ذلك البيان كله فى مجلس واحد، فما بالك ببقية المجالس فى سائر الأيام؟!.
…
ثم إنه صلى الله عليه وسلم لم يكتف بذلك، بل كلف كل من يسمع عنه شيئاً أن يبلغه إلى من وراءه ليعم بلاغه الأمة فى كل زمان ومكان، ليعملوا بما بلغهم من سنته فى كل ما كلف به بنو الإنسان من أمور الدين والدنيا.
…
فقال عليه الصلاة والسلام: "بلغوا عنى ولو آية، وحدثوا عن بنى إسرائيل ولا حرج، ومن كذب على متعمداً فليتبوأ مقعده من النار"(1) ورغبهم عليه الصلاة والسلام فى ذلك وشجعهم عليه بقوله: "نضر الله امرءاً سمع منا حديثاً فحفظه حتى يبلغه، فرب حامل فقه إلى من هو أفقه منه، ورب حامل فقه ليس بفقيه"(2) .
…
وهكذا أدى رسول الله صلى الله عليه وسلم، واجب التبليغ تارة بالعبارة، وتارة بالكتابة، وتارة بالحث على إبلاغ من لم يبلغه، لا يألو جهداً، ولا يدخر وسعاً فى إيصال رسالة الله التى حملها إلى كل من يستطيع إيصالها إليه، تنفيذاً لواجب البلاغ الذى تحمله بمقتضى رسالته، وتنفيذاً لأوامر الله تعالى فى ذلك، كقوله سبحانه:{يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك} (3) فبلغ البلاغ المبين منذ أن بعثه الله تعالى إلى أن أتاه اليقين، وقد شهد له بالعصمة فى هذا البلاغ القرآن الكريم، والسنة المطهرة، وإجماع الأمة، وإليك تفصيل تلك الشهادات.
(1) أخرجه البخارى (بشرح فتح البارى) كتاب الأنبياء، باب ما ذكر عن بنى إسرائيل 6/572 رقم 3461 من حديث عبد الله بن عمرو رضى الله عنه
(2)
سبق تخريجه ص16.
(3)
الآية 67 المائدة.