الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
.. قلت: و
استحباب التأسى بأفعال رسول الله صلى الله عليه وسلم الجبلية
هو المختار والراجح عندى.
…
ومستند هذا الاختيار علمنا بأن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لو اختلفوا فى حكم أمر حرام أو مباح، فنقل الناقل فى موضع اختلافهم فعلاً عن المصطفى صلى الله عليه وسلم، فهموا منه أنه لا حرج على الأمة فى فعل مثله (1) وجاحد هذا جاهل بمسالك المنقل على المعنى واللفظ (2) .
(1) يراجع: ص20 ما سبق من اختلافهم فى جواز القبلة للصائم، وفى طلوع الصبح على الجنب وهو صائم؛ ورجوعهم إلى فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم فى ذلك.
(2)
ينظر: المحقق من علم الأصول ص70، 87، والإحكام للآمدى 1/171.
.. وجميع المذاهب المنقولة فى هذه المسألة من الوجوب (1) والإباحة (2) ضعيفة، وأشدها ضعفاً من ذهب إلى الحظر (3) والوقف (4) . ويؤيد هذا الضعف النص والإجماع.
أما النص: فقد سبق ذكر الأدلة القرآنية التى حثت على التأسى برسول الله صلى الله عليه وسلم، واتباعه فى فعله على الوجه الذى كان عليه صلى الله عليه وسلم، من أجل الهداية والفلاح فى الدارين (5) .
(1) ينظر: الإحكام للآمدى 1/160، والمستصفى للغزالى 2/216، وسيأتى بطلان هذا القول بعد قليل.
(2)
ينظر: المحصول للرازى 1/503، والمحقق من علم الأصول ص49، وسيأتى بطلان هذا القول بعد قليل.
(3)
القول بالحظر أو التحريم: مبنى على أنه لا يشرع اتباعه صلى الله عليه وسلم فى فعله لأنه كالواقع منه من غير قصد أو كالموجود منه اضطراراً، وهو قول ردئ سخيف كما قال أبو شامة لأنه مبنى على تجويز المعاصى على الأنبياء – عصمهم الله من ذلك – كما أنه مبنى على أن الأصل فى الأشياء التحريم، والعكس صحيح فى أن الأصل فى الأشياء الإباحة. وعلى أى الأصلين بنى هذا القول فهو أشد الأقوال ضعفاً وأسخفها. ينظر: المحقق من علم الأصول ص49، 71، 72.
(4)
القول بالوقف: يقترب فى شدة ضعفه من القول بالحظر، وذلك إن أراد الواقفية أن الفعل لا دلالة له، فنقف إلى أن نظفر بدليل؛ فإنه إشارة منهم أيضاً إلى تجويز المعاصى على الأنبياء، وإلا فأدنى درجات هذا الفعل الواقع منهم أن يدل على كونه مباحاً لهم، لا حرج عليهم فيه لإقدامهم عليه، فيكون أيضاً مباحاً بالنسبة للأمة، وإن أراد الواقفية أو بعضهم بمصيره إلى التوقف فى ذلك أن الأدلة تفاوتت فى نظره، فلم تترجح أدلة الوجوب على الندب وكذا بالعكس فهو قريب. ينظر: المصدر السابق ص70 – 73.
(5)
يراجع: ص15 – 17.
أما الإجماع: فهو ما علمناه من سيرة الصحابة رضى الله عنهم فى رجوعهم إلى أفعاله صلى الله عليه وسلم وتقربهم وتأسيهم بها، والمحافظة عليها، وإن لم تلح فيها قربة، ولم يكن لهم توقف ولا تردد فى شئ منها.
…
فعن سهل بن الربيع بن الحنظلية رضى الله عنه (1) قال: قال لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم نعم الرجل خريم الأسدى (2) لولا طول جمته (3) وإسبال إزاره (4) فبلغ ذلك خريماً، فعجل فأخذ شفرة فقطع بها جمته إلى أذنيه، ورفع إزاره إلى أنصاف ساقيه" (5) .
…
فتأمل كيف أسرع خريم فامتثل قول رسول الله صلى الله عليه وسلم. ولم يقل: وماذا فى طول الشعر؟ ولم يقل: ماذا فى طول الإزار؟ لم يقل: سنة عادة أو سنة عبادة شأن الذين قى قلوبهم مرض، إنما عجل سريعاً فقصر شعره، ورفع إزاره (6) .
(1) صاحبى جليل له ترجمة فى: مشاهير علماء الأمصار ص66 رقم 342، وأسد الغابة 2/571 رقم 2287، والاستيعاب 2/662 رقم 1083، والإصابة 2/86 رقم 3538.
(2)
صحابى جليل له ترجمة فى: تاريخ الصحابة ص91 رقم 387، والاستيعاب 2/446 رقم 643، وأسد الغابة 2/167 رقم 1440.
(3)
هى: ما سقط على المنكبين من شعر الرأس. القاموس المحيط 4/90، ومختار الصحاح ص112.
(4)
هو: الملابس التى تستر النصف الأسفل من البدن. القاموس المحيط 1/360، ومختار الصحاح ص15، وإسبال الإزار: نزوله عن الكعبين، أى: العظمتين البارزتين فوق القدم.
(5)
جزء من حديث طويل أخرجه أبو داود فى سننه كتاب اللباس، باب ما جاء فى إسبال الإزار 4/57 رقم 4089.
(6)
ينظر: المدخل إلى السنة النبوية ص247.
.. فبطل بذلك قول الحظر والوقف، وثبت أنهم فهموا؛ أنهم شرع لهم مثل ذلك القول والفعل قربة، فبطل قول الإباحة، وترجح الندب. ويبطل قول الوجوب ما سبق فى حديث أبى سعيد الخدرى رضى الله عنه من خلع الصحابة رضى الله عنهم نعالهم لما رأوا رسول الله صلى الله عليه وسلم خلع نعليه (1) فكان من كمال تأسيهم برسول الله أنهم فهموا من خلعه نعليه القربة فبادروا إلى متابعته، أو لم يفهموا قربه، واتبعوه على جارى عادتهم فى اتباعه والتأسى به، مع أنهم لم يعلموا أن ذلك صدر منه وجوباً أو ندباً أو إباحة، وهو عين مسألة النزاع مع من يشترط فى شرعية التأسى به صلى الله عليه وسلم معرفة صفة فعله؛ فبطل قول الوقف.
…
وأيضاً: لو كان الاقتداء به صلى الله عليه وسلم فى فعله واجباً ما سألهم "ما حملكم إلقائكم نعالكم؟ " لعلمه بأنه يجب عليهم متابعة فعله، فبطل قول الوجوب.
…
ثم إنه صلى الله عليه وسلم لما سألهم لم فعلوا ذلك، ذكروا أن مستند فعلهم متابعته فى فعله، ولم ينكر عليهم الاستدلال به، فدل ذلك كله على ما سبق من ترجيح استحباب متابعته صلى الله عليه وسلم فى فعله.
(1) سبق ذكر الحديث بنصه وتخريجه ص19.
.. وإنه لدرس لأهل زماننا، ولمن بعدنا أن نتبع هديه صلى الله عليه وسلم كما اتبعوا، وأن نسير على نهجه، كما أمرنا ربنا سبحانه وتعالى فقال:{فآمنوا بالله ورسوله النبى الأمى الذى يؤمن بالله وكلماته واتبعوه لعلكم تهتدون} (1) وصور اتباع السلف هديه صلى الله عليه وسلم، وحرصهم على الاقتداء به كثيرة وكثيرة (2) ودلالاتها متعددة؛ فهم يؤمنون بعصمته فى أحواله كلها، وهم يحبون هديه، ويحرصون على الاقتداء به كل الحرص، لا يفرقون بين الواجب والمندوب، ولا بين الفعل الشرعى والفعل الجبلى، وإنما يفعلون ما فعل، ويتركون ما ترك، يمتثلون أمره، وإن دلت القرائن على أقل من الواجب، ويجتنبون ما نهى عنه، وإن دلت القرائن على أنه دون الحرام.
…
إنهم يرون المعصوم صلى الله عليه وسلم رسم خطاً، جاء به من عند الله، فالتزموه حباً وطاعة، ولم يؤولوا، ولم يسوفوا، ولم يهونوا، وإنما امتثلوا على خير وجه، فإنه الدين الذى أمرنا الله به، ورتب السعادة عليه، وأمرنا بالاستقامة التى لا تتفق مع أدنى ميل عنه فقال سبحانه:{فاستقم كما أمرت ومن تاب معك ولا تطغوا إنه بما تعمون بصير} (3) .
…
وبعد: هذا المعصوم نبيكم صلى الله عليه وسلم، وخيار أمتكم رضى الله عنهم، فكيف أنتم؟ (4) .
(1) الآية 158 الأعراف.
(2)
سبق ذكر بعضها ص19 – 21.
(3)
الآية 112 هود. وينظر: المدخل إلى السنة النبوية ص248، 249 بتصرف يسير.
(4)
مقولة قالها الصحابى الجليل أبو سعيد الخدرى رضى الله عنه، وأخرجها المروزى فى أول كتابه السنة.