المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌سابعا: الرد على المثبتين للقصة: - رد شبهات حول عصمة النبى صلى الله عليه وسلم

[عماد السيد محمد إسماعيل الشربينى]

فهرس الكتاب

- ‌هذا الكتاب

- ‌مقدمة من الباحث

- ‌الإهداء

- ‌كلمة شكر وتقدير

- ‌المقدمة

- ‌خطة البحث:

- ‌منهجى فى البحث:

- ‌التمهيد

- ‌المبحث الأول: التعريف بالعصمة

- ‌أولاً: التعريف بالعصمة لغة وشرعاً

- ‌أ- المعنى اللغوى:

- ‌ب- المعنى الشرعى:

- ‌ج- مواضع العصمة:

- ‌ثانياً: العصمة سبيل حجية القرآن الكريم، والسنة النبوية المطهرة:

- ‌ثالثاً: العصمة سبيل الاقتداء بالنبى صلى الله عليه وسلم:

- ‌المبحث الثانى: أهمية السيرة النبوية فى فهم الإسلام

- ‌أولاً: أهمية السيرة العطرة فى فهم القرآن الكريم

- ‌ثانياً: أهمية السيرة العطرة فى فهم السنة الشريفة:

- ‌ثالثا: أهمية السيرة العطرة فى إثبات أن للمسلمين تاريخاً وحضارةً:

- ‌الباب الأول:عصمة رسول الله صلى الله عليه وسلم فى عقله وبدنه ودفع الشبهات

- ‌ تمهيد

- ‌الفصل الأول: عصمة رسول الله صلى الله عليه وسلم فى عقله وبدنه

- ‌المبحث الأول: دلائل عصمته صلى الله عليه وسلم فى عقله

- ‌أ- عصمته صلى الله عليه وسلم من كيد إبليس وجنوده:

- ‌ب- عصمته صلى الله عليه وسلم من الجهالات:

- ‌جـ- عصمته صلى الله عليه وسلم من التعرى

- ‌د- عصمته صلى الله عليه وسلم من أكل ما ذبح على النصب

- ‌هـ عصمته صلى الله عليه وسلم من الحلف بأسماء الأصنام

- ‌و عصمته صلى الله عليه وسلم من استلام الأصنام

- ‌ز- من مظاهر عصمته صلى الله عليه وسلم شق صدره الشريف:

- ‌ح- من مظاهر عصمته صلى الله عليه وسلم تكافؤ أخلاقه:

- ‌ط- من مظاهر عصمته صلى الله عليه وسلم كمال عقله:

- ‌المبحث الثانى: دلائل عصمته صلى الله عليه وسلم فى بدنه

- ‌ المراد بعصمة النبى صلى الله عليه وسلم فى بدنه هنا، عصمته من القتل

- ‌خصوصية عصمة النبى صلى الله عليه وسلم فى بدنه من القتل:

- ‌ نماذج من كفاية الله عز وجل وعصمته لرسوله صلى الله عليه وسلم

- ‌الفصل الثانى: شبه الطاعنين فى سلامة عقله وبدنه والرد عليها

- ‌تمهيد

- ‌المبحث الأول: شبهاتهم من القرآن الكريم على عدم عصمة النبى صلى الله عليه وسلم

- ‌تمهيد:

- ‌المطلب الأول: شبهتهم حول آيات ورد فيها إسناد "الضلال" و"الغفلة" إلى ضمير خطابه صلى الله عليه وسلم

- ‌المطلب الثانى: شبهتهم حول آيات ورد فيها إسناد "الذنب" و"الوزر" إلى ضمير خطابه صلى الله عليه وسلم

- ‌المطلب الثالث: شبهتهم حول آيات ورد فيها مخاطبة رسول الله صلى الله عليه وسلم بتقوى الله عز وجل

- ‌المطلب الرابع: شبهتهم حول آيات ورد فيها مخاطبة رسول الله صلى الله عليه وسلم

- ‌المطلب الخامس: شبهتهم حول آيات ورد فيها معاتبة رسول الله صلى الله عليه وسلم

- ‌{عفا الله عنك لم أذنت لهم حتى يتبين لك الذين صدقوا وتعلم الكاذبين}

- ‌{ما كان لنبى أن يكون له أسرى حتى يثخن فى الأرض

- ‌{عبس وتولى. أن جاءه الأعمى

- ‌ وتخفى فى نفسك ما الله مبديه وتخشى الناس والله أحق أن تخشاه

- ‌{يا أيها النبى لم تحرم ما أحل الله لك

- ‌المبحث الثانى: شبهاتهم من السنة النبوية على عدم عصمة النبى صلى الله عليه وسلم

- ‌ تمهيد

- ‌المطلب الأول: شبهة الطاعنين فى حديث "شق صدره صلى الله عليه وسلم

- ‌المطلب الثانى: شبهة الطاعنين فى حديث "فترة الوحي

- ‌المطلب الثالث: شبهة الطاعنين فى حديث "نحن أحق بالشك من إبراهيم

- ‌المطلب الرابع: شبهة الطاعنين فى حديث "سحر رسول الله صلى الله عليه وسلم

- ‌المطلب الخامس: شبهة الطاعنين فى حديث "أَهَجَرَ

- ‌الباب الثانى: عصمة رسول الله صلى الله عليه وسلم فى تبليغ الوحي ودفع الشبهات

- ‌الفصل الأول: عصمته صلى الله عليه وسلم فى تبليغ الوحي

- ‌ تمهيد

- ‌المبحث الأول: التعريف بالوحي لغة، وشرعاً، وكيفياته

- ‌أولاً: التعريف بالوحي:

- ‌أ- من حيث اللغة:

- ‌ب- معناه الشرعى:

- ‌المبحث الثانى: دلائل عصمته صلى الله عليه وسلم فى تبليغ الوحي

- ‌مجالات البلاغ الذى أمر الله تعالى به رسوله صلى الله عليه وسلم:

- ‌أولاً: دلائل عصمته صلى الله عليه وسلم فى تبليغ الوحي

- ‌ثانياً: دلائل عصمته صلى الله عليه وسلم فى تبليغ الوحي

- ‌ثالثاً: من دلائل عصمته صلى الله عليه وسلم فى تبليغ الوحي، إجماع الأمة:

- ‌الفصل الثانى: شبه الطاعنين فى الوحي الإلهى والرد عليها

- ‌المبحث الأول: شبهات أعداء الإسلام من المستشرقين حول الوحي الإلهى

- ‌ تمهيد

- ‌المطلب الأول: شبهة الوحي النفسى والرد عليه

- ‌المطلب الثانى: شبهة أن الوحي عبارة عن أمراض نفسية وعقلية

- ‌المطلب الثالث: شبهة أن الوحي مقتبس من اليهودية والنصرانية

- ‌المطلب الرابع: فرية الغرانيق والرد عليها

- ‌أولاً: إن هذه الأقصوصة المختلقة تنافى ما هو مقطوع به

- ‌ثانياً: قيام الأدلة القطعية من القرآن الكريم على بطلانها

- ‌ثالثاً: مخالفة القصة لحقائق تاريخ السيرة العطرة

- ‌رابعاً: ذهب جماهير علماء الأمة من المحدثين

- ‌خامساً: القصة لم يخرجها أصحاب الكتب الصحاح:

- ‌سادساً: سؤال بعضهم:

- ‌سابعاً: الرد على المثبتين للقصة:

- ‌معنى آية التمنى:

- ‌المبحث الثانى: شبهات أعداء السنة المطهرة حول الوحي الإلهى

- ‌تمهيد:

- ‌المطلب الأول: شبهة أن مهمة رسول الله صلى الله عليه وسلم قاصرة على بلاغ القرآن فقط

- ‌المطلب الثانى: شبهة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ليست له سنة نبوية

- ‌أ- الأدلة من القرآن الكريم على أن السنة وحى من الله تعالى:

- ‌ب- الأدلة من السنة النبوية على أنها وحى من الله تعالى:

- ‌جـ- السلف يؤمنون بأن السنة وحى:

- ‌المطلب الثالث: شبهة أنه لا طاعة لرسول الله صلى الله عليه وسلم إلا فى القرآن فقط

- ‌أولاً: تعسف أعداء رسول الله، فى تأويل كلمة "الرسول

- ‌ثانياً: زعم أدعياء العلم والفتنة؛ بأنه لا طاعة لرسول الله صلى الله عليه وسلم إلا فى القرآن فقط

- ‌ثالثاً: الأدلة من القرآن الكريم على وجوب طاعته صلى الله عليه وسلم:

- ‌رابعاً: الأدلة من السنة المطهرة على وجوب طاعته صلى الله عليه وسلم:

- ‌المطلب الرابع: شبهة أن طاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم تأليه وشرك

- ‌الباب الثالث: عصمة رسول الله صلى الله عليه وسلم فى اجتهاده ودفع الشبهات

- ‌الفصل الأول: عصمته صلى الله عليه وسلم فى اجتهاده

- ‌ المبحث الأول: التعريف بالاجتهاد، وحكمته فى حقه صلى الله عليه وسلم

- ‌أولاً: التعريف بالاجتهاد:

- ‌ثانياً: الحكمة فى اجتهاد رسول الله صلى الله عليه وسلم:

- ‌المبحث الثانى: دلائل عصمته صلى الله عليه وسلم فى اجتهاده

- ‌أولاً: الأدلة من القرآن الكريم على عصمته صلى الله عليه وسلم فى اجتهاده:

- ‌ثانياً: الأدلة من السنة النبوية على عصمته صلى الله عليه وسلم فى اجتهاده:

- ‌ثالثاً: إجماع الأمة على عصمة رسول الله صلى الله عليه وسلم فى اجتهاده:

- ‌الفصل الثانى: شبهة أن اجتهاد رسول الله صلى الله عليه وسلم يؤيد أن السنة المطهرة ليست كلها وحى

- ‌ ذهب بعض علماء المسلمين الأجلاء إلى عدم عصمة رسول الله صلى الله عليه وسلم فى اجتهاده

- ‌الجواب:

- ‌ ما ورد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من أفعال لم تحصل منه على وجه القرب

- ‌استحباب التأسى بأفعال رسول الله صلى الله عليه وسلم الجبلية

- ‌نقض دليل أن السنة المطهرة ليست كلها وحى:

- ‌ هل هذا الاجتهاد فى قصة تأبير النخل معصوم فيه بوحى

- ‌الباب الرابع: عصمة رسول الله صلى الله عليه وسلم فى سلوكه وهديه ودفع الشبهات

- ‌ تمهيد

- ‌الفصل الأول: شبهة اختلاف سيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم فى كتب السنة

- ‌ويجاب عن ما سبق بما يلى:

- ‌الفصل الثاني: شبهة الطاعنين فى حديث "خلوة النبى صلى الله عليه وسلم بامرأة من الأنصار" والرد عليها

- ‌الفصل الثالث: شبهة الطاعنين فى حديثى "نوم النبى صلى الله عليه وسلم عند أم سليم وأم حرام

- ‌الفصل الرابع: شبهة الطاعنين فى حديث "طوافه صلى الله عليه وسلم على نسائه فى ساعة واحدة

- ‌الفصل الخامس: شبهة الطاعنين فى حديث "مباشرة رسول الله صلى الله عليه وسلم نسائه فى المحيض

- ‌الفصل السادس: شبهة الطاعنين فى حديث "دعوته صلى الله عليه وسلم لعائشة استماع الغناء والضرب بالدف

- ‌الفصل السابع: شبهة الطاعنين فى حديث "اللهم فأيما مؤمن سببته فاجعل ذلك له قربة إليك يوم القيامة

- ‌الخاتمة

- ‌ أقترح وأوصى بما يلى:

- ‌أولاً: فهرس الآيات القرآنية

- ‌ثانياً: فهرس الأحاديث والآثار

- ‌ثالثاً: فهرس الأعلام المترجم لهم

- ‌رابعاً: فهرس الأشعار

- ‌خامساً: فهرس البلدان والقبائل والفرق

- ‌ فهرس المصادر والمراجع

الفصل: ‌سابعا: الرد على المثبتين للقصة:

.. ومثل هؤلاء إذا استمعوا إلى سورة النجم من رسول الله صلى الله عليه وسلم فأقرب ما يحتمل أن تصادف قلوبهم لحظة الاستجابة التى لا يملكون أنفسهم إذاءها، وأن يأخذوا بسلطان هذا القرآن؛ فيسجدوا مع الساجدين بلا غرانيق ولا غيرها من روايات المفترين" (1) .

قلت: فسجودهم كان معجزة لرسول الله صلى الله عليه وسلم، بقهر المشركين، وإجبارهم على السجود، كما قال عز وجل:{إن نشأ ننزل عليهم من السماء آية فظلت أعناقهم لها خاضعين} (2) وكما ألقى سحرة فرعون ساجدين لما رأوا معجزة سيدنا موسى عليه السلام، تلقف ما يأفكون، ألقى كفار قريش سجداً لمعجزة سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهى معجزة سيخر لها أهل الكفر إلى يوم الدين أهـ.

‌سابعاً: الرد على المثبتين للقصة:

سبق التنويه على أن بعض المفسرين، والمحدثين، ذكروا قصة الغرانيق فى كتبهم، وقرروا قبول سندها، مع ردهم لما جاء فيها من مدح الأصنام "تلك الغرانيق العلا

الخ" وتأويلهم لها.

(1) فى ظلال القرآن 6/3420 - 3422.

(2)

الآية 4 الشعراء.

ص: 474

.. والجدير بالذكر هنا ما قاله الإمام ابن حجر، لأنه عالم متبحر محقق تابعه فى كلامه أئمة أعلام أيضاً (1) وكذلك لأن كلام الإمام اعتمد على الصناعة الحديثية، فاستحق التنويه والتعقيب بخلاف غيره (2) قال الإمام ابن حجر بعد تصريحه القاطع فى الحكم على روايات القصة بالضعف والانقطاع قال: "لكن كثرة الطرق تدل على أن للقصة أصلاً، مع أن لها طريقين آخرين مرسلين رجالهما على شرط الصحيحين، أحدهما: ما أخرجه الطبرى عن أبى بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام، والثانى: عن أبى العالية (3) .

(1) كالسيوطى فى الدر المنثور 6/65، ومناهل الصفا ص221، والقسطلانى فى المواهب اللدنية، والزرقانى فى شرحه على المواهب 2/19 – 26، وذلك فى نهاية كلامهما، بعد أن كانا فى فاتحته مع ما قاله القاضى عياض من رد القصة وإبطالها.

(2)

مثل الإمام ابن تيمية فى كتابه الفتاوى 10/170 – 172 حيث عمم الكلام فى إثبات القصة دون تحقيق منه، على خلاف عادته وقد كفانا فى الرد عليه فضيلة الشيخ عرجون فى كتابه محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم 2/87 – 104، ومثل الشيخ إبراهيم حسن الكورانى، ورأيه فى ثبوت القصة ساقه الألوسى فى روح المعانى 10/264، ورد عليه بما شفى وكفى، كما قام بالرد على الكورانى أيضاً الشيخ عرجون، ووصف كلامه فى إثبات القصة بأنه رأى متزايد أهوج، خرج فيه عن جادة الأدب مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتهوره فى حماقة لا يعرفها أهل العلم والإيمان. ينظر: محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم 2/105 – 129.

(3)

جامع البيان 17/186، 187، ويراجع: تخريج القصة ص313.

ص: 475

.. قال الحافظ: وقد تجرأ أبو بكر بن العربى كعادته فقال: ذكر الطبرى فى ذلك روايات كثيرة باطلة لا أصل لها (1) وهو إطلاق مردود عليه، وكذا رد الحافظ كلام القاضى السابق ذكره، ثم قال: وجميع ذلك لا يتمشى على القواعد، فإن الطرق إذا كثرت وتباينت مخارجها دل ذلك على أن لها أصلاً، وقد ذكرت أن ثلاثة أسانيد منها على شرط الصحيح، وهى مراسيل يحتج بمثلها من يحتج بالمرسل، وكذا من لا يحتج به لاعتضاد بعضها ببعض، وإذا تقرر ذلك تعين تأويل ما وقع فيها مما يستنكر، وهو قوله:"ألقى الشيطان على لسانه: تلك الغرانيق العلا، وإن شفاعتهن لترتجى" فإن ذلك لا يجوز حمله على ظاهره لأنه يستحيل عليه صلى الله عليه وسلم، أن يزيد فى القرآن عمداً ما ليس منه، وكذا سهواً، إذا كان مغايراً لما جاء به من التوحيد لمكان عصمته" (2) .

والكلام مع الإمام الحافظ ابن حجر فيما قاله يجرى على وجوه:

الوجه الأول: يتعلق بروايات القصة والتى ساقها الحافظ ثم عقب عليها بقوله: "وكلها سوى طريق سعيد بن جبير، إما ضعيف، وإما منقطع"(3) أى فلا تقوم به حجة، وهذا نص قاطع من ابن حجر يضاف إلى نصوص الأئمة السابق ذكرها، فى أن روايات هذه القصة ضعيفة السند، واهية المخرج، لا تصلح للاحتجاج بها، بما فى ذلك طريق ابن جبير على ما سبق.

(1) ينظر: أحكام القرآن 3/1290.

(2)

فتح البارى، كتاب التفسير، باب سورة الحج 8/293.

(3)

فتح البارى فى الأماكن السابقة نفسها.

ص: 476

الوجه الثانى: يتعلق بعصمة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فى بلاغ وحى الله تعالى، وعدم الخطأ فيه، لا عمداً ولا سهواً، وكذا عصمته من تسلط الشيطان عليه، وهى عصمة ثابتة له صلى الله عليه وسلم، بشهادة القرآن والسنة والتاريخ، وإجماع الأمة على ما سبق شرحه (1) وهو ما يتعارض مع ما جاء فى هذه القصة من تسلط الشيطان عليه، وإلقائه على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم، فى ثنايا تلاوته آيات الله المنزلة بالوحي، أخبث كلمات الكفر التى تشيد بالأوثان مدحاً وتعظيماً، وهو ما ينقض بنيان العصمة من أساسه؟.

الوجه الثالث: يتعلق بالثقة بوحى الله تعالى إلى رسله، فإذا فتح للشيطان أدنى منفذ للتسلط على رسل الله تعالى، وتلقينهم أخبث الكفر، دون أن ينتبهوا إلى ما يلقى إليهم من ذلك، ويبلغوه إلى أممهم فيما يبلغونه عن الله تعالى، لم يبق للأمة ثقة فيما تسمع من رسولها، وهذا بلا شك، هدم لدعوات الرسل، وإبطال لرسالاتهم.

الوجه الرابع: يتعلق بالثقة بنبينا سيد الأنبياء والمرسلين محمد صلى الله عليه وسلم فى معرفته بأسلوب القرآن ومعانيه، معرفة لا تسمو عليها معرفة أحد، لأنه القيم على تمييز أسلوبه وروعة بيانه، والمثل الأعلى فى العلم بحقائقه الإيمانية، فإذا جاز أن يلقى إليه الشطان كلمات أخبث الكفر، فى أثناء تلاوته لآيات الله تعالى، الموطدة لدعائم التوحيد، وهدم الوثنية والشرك – كما تزعم أقصوصة الغرانيق – على سمع جموع المسلمين، والمشركين، ثم لا يتنبه لذلك، ولا يميز بين ما هو قرآن كريم من عند الله تعالى؛ وما هو كفر خبيث من إلقاء الشيطان، فماذا بقى لهذا الرسول الكريم من ثقة فى نفوس المؤمنين به؟.

(1) يراجع: ص264 – 278.

ص: 477

.. فقول الحافظ ابن حجر بعد سوقه كلام القاضيين أبى بكر بن العربى، وعياض: وجمع ذلك لا يتمشى على القواعد، فإن الطرق إذا كثرت وتباينت مخارجها، دل ذلك على أن لها أصلاً. من أغرب قضايا العلم فى منهج الإسلام؛ فالأمر يتعلق بأقصوصة إذا سلمت كانت معولاً هداماً لأصل أصول الإسلام، بل أصل أصول الدين كله فى جميع رسالات الله تعالى إلى جميع أنبياءه ورسله، لأنها تطعن فى عصمة الأنبياء، وتقرر أن الشيطان صاحب سلطان عليهم، وهذه مزلقة لا ينتهى من يقع فيها إلا إلى هاويه لا قرار لها.

الوجه الخامس: أن قاعدة الطرق إذا كثرت وتباينت مخارجها دلت على أن موضوع الروايات له أصل ليست على عمومها، ففى باب العقائد لا يقبل إلا النص الصحيح المقطوع بصحته، وفى غير أبواب العقائد من الأحكام الفرعية، فإن هذه القاعدة مقيدة، كما قال المحدثون. بالضعف الذى يزيله ما يجبره، وذلك إذا كان الضعف ناشئاً عن ضعف حفظ الراوى، أما الضعف الذى لا يزول لقوته، وتقاعد الجابر عن جبره ومقاومته فلا وزن له، ولو جاء من سبعين طريقاً متباينة المخارج، وذلك كالضعف الذى ينشأ من كون الراوى متهماً بالكذب – كما فى بعض روايات أقصوصة الغرانيق التى جاءت من طريق الكلبى (1) وهو كذوب ولا تجوز الرواية عنه، ومثل ذلك كون الحديث شاذاً (2) .

(1) هو محمد بن السائب بن بشير الكلبى، متهم بالكذب، ورمى بالرفض، ورضوه فى التفسير، كما قال الحافظ فى تقريب التهذيب 2/78 رقم 5920، ولسان الميزان 9/104 رقم 14221 وينظر: الضعفاء لأبى نعيم ص138 رقم 210، والضعفاء والمتروكين للنسائى ص211 رقم 539، والضعفاء الصغير للبخارى ص105 رقم 322.

(2)

ينظر: فتح المغيث للسخاوى 1/311 – 314، والتبصرة والتذكرة للعراقى 1/291، وتوضيح الأفكار للصنعانى 1/109 – 113، والأجوبة الفاضلة لمحمد اللكنوى ص36 وما بعدها.

ص: 478

.. ثم قال الحافظ ابن حجر: وقد ذكرت أن ثلاثة أسانيد منها – أى من روايات قصة الغرانيق – على شرط الصحيح، وهى مراسيل يحتج بمثلها من يحتج بالمرسل وكذا من لا يحتج به لاعتضاد بعضها ببعض.

قلت: إن هذا التعميم فى الاحتجاج بالمرسل عند من يقول به، ومن لا يقول به غير مسلم، لأن الخلاف فى الاحتجاج بالمرسل إنما هو فى أحكام الفروع، ولا يمكن أن يكون جارياً فى أصول العقائد، لأنها لا تثبت إلا بدليل صحيح، والمرسل ضعيف عند جمهور المحدثين كما قال الإمام مسلم:"إن المرسل من الروايات فى أصل قولنا، وقول أهل العلم بالأخبار ليس بحجة"(1) وقال ابن الصلاح: "ثم اعلم أن حكم المرسل حكم الحديث الضعيف، إلا أن يصح مخرجه من وجه آخر، وما ذكرناه من سقوط الاحتجاج بالمرسل، والحكم بضعفه هو المذهب الذى استقر عليه آراء جماهير حفاظ الحديث، ونقاد الأثر"(2) .

الوجه السادس: أن الأمام ابن حجر يرى فى القصة ما هو محال أن يقع من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو الزيادة فى القرآن عمداً أو سهواً، بيد أنه لم يشأ أن يقف عند هذه النتيجة التى كانت أمراً طبيعياً يسوق إليها البحث العلمى، وينتهى بها إلى أن هذه الأقصوصة أكذوبة باطلة، ما كانت تستحق أن تجول ساحبة ذيولها فى ساحة سيرة سيد المرسلين محمد صلى الله عليه وسلم، ولكنه خضع لقواعد الصنعة فى غير محلها – حيث يمس الأمر العقائد – وراح يتشبث بالتأويل فيما رآه محالاً، وحكى من ضروب هذا التأويل أقوالاً كلها بعيدة عن نص روايات القصة. وحتى التأويل الذى استحسنه ورجحه بعض الأئمة، بالتأمل فيه ترى أنه غير مقبول، وترده نص روايات القصة (3) .

(1) مقدمة صحيح مسلم، باب صحة الاحتجاج بالحديث المعنعن 1/163.

(2)

علوم الحديث ص49.

(3)

ينظر: محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم للشيخ عرجون 2/81 – 86 بتصرف.

ص: 479

.. انظر مثلاً: قول القاضى: "والذى يظهر ويترجح عند ابن العربى (1) وعند غيره من المحققين على تسليمه، أن النبى صلى الله عليه وسلم كان كما أمره ربه يرتل القرآن ترتيلاً، ويفصل الآى تفصيلاً فى قراءته، كما رواه الثقات عنه، فيمكن ترصد الشيطان لتلك السكتات، ودسه فيها ما اختلقه من تلك الكلمات، محاكياً نغمة النبى صلى الله عليه وسلم بحيث يسمعه من دنا إليه من الكفار فظنوها من قول النبى صلى الله عليه وسلم وأشاعوها"(2) .

قلت: وهذا التأويل الراجح عند ابن العربى، وارتضاه الحافظ (3) وغيره ممن تابعه قديماً وحديثاً، ما أضعفه عند النظر والتأمل، فهو يوقع القائل به فيما فر منه، وهو تسلط الشيطان على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعدم عصمته فيما يبلغ عن ربه عز وجل، حيث أن التسلط بالمحاكاة كالتسلط عليه بالإجراء على لسانه، كلاهما لا يجوز، وفتح هذا الباب خطر على الرسالات الإلهية.

وإذا سلمنا أن الشيطان هو الذى نطق بهذا المنكر من القول فى أثناء سكوت النبى صلى الله عليه وسلم؛ فكيف لم يسمع ما حكاه الشيطان؟! وإذا كان سمعه فلم لم يبادر إلى الإنكار، والبيان فى مثل هذا واجب على الفور؟!.

وإذا لم يسمع النبى! ألم يسمع أصحابه؟ وإذا سمعوا فلم لم يبادروا إلى تنبيه الرسول صلى الله عليه وسلم؟!.

وأهون من هذا فى الإبطال وأشد فى الاستغراب ما ذكره موسى بن عقبة فى مغازيه، من أن المسلمين ما سمعوها، وإنما ألقى الشيطان بهذه المقالة فى أسماع المشركين!!.

(1) أحكام القرآن 3/1290.

(2)

الشفا 2/130، وشرحه لعلى القارى 2/234.

(3)

فتح البارى، كتاب التفسير، باب سورة الحج 8/294.

ص: 480