الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
.. وتأمل قوله: "إذا حدثتكم عن الله شيئاً فخذوا به، فإنى لن أكذب على الله تعالى" فالكذب هنا بمعنى "الخطأ"(1) أى: فلن أخطأ فيما أبلغ من وحى الله تعالى؛ ولا يصح أن يكون المراد حقيقة الكذب، لأنه صلى الله عليه وسلم معصوم منه، حتى ولو حدث عن غير الله تعالى! إذن فمراده صلى الله عليه وسلم، أنه اجتهد، وفى اجتهاده أخطأ؛ بدليل ما جاء فى رواية رافع بن خديج من قوله عليه الصلاة والسلام:"إنما أنا بشر إذا أمرتكم بشئ من دينكم فخذوا به، وإذا أمرتكم بشئ من رأى فإنما أنا بشر".
…
ولكن:
هل هذا الاجتهاد فى قصة تأبير النخل معصوم فيه بوحى
؟.
(1) بدليل ما صح عنه صلى الله عليه وسلم من إطلاق هذه اللفظة "الكذب" فى حق بعض أصحابه، ولا يصح حملها على حقيقتها فى حقهم لعدالتهم، وإنما مراده بها "الخطأ" من ذلك قوله صلى الله عليه= =وسلم:"كذب من قال ذلك" فى الرد على ظن أن عامر بن الأكوع قتل نفسه فى غزوة خيبر حيث أصابه سيفه، وهو يبارز "مرحباً" ملك اليهود. الحديث أخرجه مسلم (بشرح النووى) كتاب الجهاد، باب غزوة خيبر 6/404 رقمى 1802، 1807 وقوله صلى الله عليه وسلم:"كذب أبو النسابل – حبة بن بعكك – ليس كما قال، قد قال قد حللت فانكحى" وذلك فى الرد على أبى السنابل الذى قال لسبيعه بنت الحارث وقد وضعت حملها بعد وفاة زوجها بأيام: إنك لا تحلين حتى تمكثى أربعة أشهر وعشراً، فذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: كذب أبو السنابل، ليس كما قال" الحديث أخرجه سعيد بن منصور فى سننه كتاب الطلاق، باب عدة الحامل 1/350 رقمى 1506، 1508، وعلى نحو هذا الاستعمال لكلمة الكذب جاء استعمال الصحابة لها.
أقول: نعم بدليل قوله بعد ذلك: "إن كان ينفعهم ذلك فليصنعوه" وقوله: "أنتم أعلم بأمر دنياكم" حيث صار هذا القول منه اجتهاد بعد اجتهاد (1) وأقره الوحي على اجتهاده الثانى (2) حيث لم يرد تنبيه أو تصويب ولا حتى عتاب، على هذا الاجتهاد فى القرآن الكريم ولا فى السنة المطهرة، وهو ما يعنى أن رب العزة أقره فى اجتهاده الثانى. أعنى: قوله صلى الله عليه وسلم: "إن كان ينفعهم ذلك فليصنعوه" وقوله: "أنتم أعلم بأمر دنياكم" وبهذا الإقرار صار اجتهاده هنا فى هذه المسألة وحى من الله تعالى، ولا يجوز مخالفته؛ وهو ما يقر به هنا الخصم حيث استدل بهذا الاجتهاد الثانى على ما يزعم، مع اختلافنا معه فى دلالة الحديث على ما يستدل به.
…
فالخصم يستدل بقوله صلى الله عليه وسلم "أنتم أعلم بأمر دنياكم" على أن ما جاءت به السنة من شئون الدنيا يجوز مخالفته، حيث كل أمة فى زمانها أعلم بهذه الشئون من السنة؟.
…
كما استدلوا بقوله السابق، على أن ما يصدر عنه صلى الله عليه وسلم بوصفه قاضياً، أو إماماً ورئيساً للدولة، سنة غير تشريعية ليست من الوحي؟ فهل هذه المعانى واردة ومرادة فيما استدلوا به؟.
…
بالقطع لا. فهذه المعانى ونحوها مستبعدة ولا تصح؛ لأن ما أطلقوا عليه سنة غير تشريعية منه الواجب والمحرم والمكروه والمندوب والمباح شرعاً على ما سبق تفصيله (3) .
(1) وقد تكرر هذا الاجتهاد منه، واستدراكه باجتهاد آخر على ما سبق فى أمره صلى الله عليه وسلم بالتحريق بالنار ثم رجوعه عن ذلك يراجع: نص الحديث وتخريجه ص407.
(2)
سيأتى بعد قليل محاولة لالتماس الحكمة فى عدم تدارك رب العزة لهذا الاجتهاد بالتصحيح فى أول مرة.
(3)
يراجع: ص416 – 419.
.. كما أن ما أطلقوا عليه سنة غير تشريعية وضع له الإسلام قرآنا وسنة، أرقى أنواع التشريع، لأن ما يصدر عن القاضى والحاكم ونحو ذلك مما يطلقون عليه سنة غير تشريعية، له علاقة بالأفراد والجماعات وهذه العلاقة تحكمها دائماً قواعد وضوابط لئلا يحيف بعض الأطراف على بعض؛ فهل يعقل أن الله عز وجل يترك المعاملات من بيع وشراء، وتفصيل الربا، والرهن، والشركة، وغيرها من المعاملات دون تشريع؟.
…
وهل يعقل أن يترك القاضى ورئيس الدولة ونحوهم دون تشريع ينظم علاقة كل منهما بمن تحت سلطانهم وحكمهم؟!.
وبالجملة: هل يعقل أن يترك البشرية هملاً فى شئون دنياهم يأكل بعضهم مال بعض، ويظلم بعضهم بعضاً تحت عنوان:"أنتم أعلم بشئون دنياكم"؟.
…
هل يعقل أن يترك الله تعالى رسالة الإسلام (قرآناً وسنة) بما فيها من عقيدة وشريعة، ودين ودنيا، لرسول الله صلى الله عليه وسلم دون رقابة أو تصحيح؟ فيخطئ، فتعمل الأمة مجتمعة بالخطأ أكثر من خمسة عشر قرناً حتى يبعث الله لها من يرعى مصالحها، أو يزعم أنه أعلم بمصالحها، ويخالف حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما جاء به من تشريعات فى شئون الدنيا؟ أظن أن العقل المسلم السليم يستبعد ذلك كل الاستبعاد.
…
ومن هنا فلا يصح أن يكون المعنى فى قوله صلى الله عليه وسلم: "أنتم أعلم بأمر دنياكم" أن كل فرد أو أمة أعلم من غيرها بشئون ومصالح نفسها فى الأمور الدنيوية؛ لأن هذا المعنى وإن صح فى المباحات، فلا يصح فى الواجبات والمحرمات، فالشرع وحده هو الذى حددها على أنها مصلحة بناء على سبق علمه الذى خلق.
.. ثم إن هذا المعنى لا يتناسب مع القصة؛ فكما قلت: رسول الله صلى الله عليه وسلم اجتهد فى عدم تأبير النخل، وخالف اجتهاده الصواب، فجاء التصحيح لما اجتهد فيه بقوله:"أنتم أعلم بأمر دنياكم" والمراد: أنتم أيها الذين تلقحون النخل ومن على شاكلتكم من أهل الصناعات والمهارات والخبرات أعلم بصنائعكم منى. وممن ليس من أهل الصناعات، والكلام على التوزيع، على معنى: أن كل أهل صنعة أعلم بها ممن ليسوا من أهلها، كما يقال: أهل مكة أدرى بشعابها.
…
ويصح أن يكون المعنى أيضاً: أنتم أيها الذين تلقحون النخل أعلم بما يصلح النخل منى وممن لا علم له بالزراعة، أى أنتم أعلم بشئون دنياكم هذه التى تباشرونها، والتى لم تنجح فيها مشاورتى الاجتهادية، أعلم منى ومن مثلى، فالحديث على هذا واقعة عين أو واقعة حال، لا يستدل بها على غيرها أصلاً.
…
وعلى كل حال لا يصح الاستدلال بالحديث على إباحة التغيير فى المعاملات (1) أو غيرها من شئون الدنيا التى أطلقوا عليها سنة غير تشريعية. لأن الحديث – كما رأيت – تطرق إليه أكثر من احتمال فى معناه، والدليل إذا تطرق إليه الاحتمال سقط به الاستدلال.
…
بقى سؤال يطرح نفسه، وربما يثور فى نفوس البعض وهو: لماذا ألهم الله رسوله صلى الله عليه وسلم، أن يشير عليهم بهذه الإشارة مع أنها لم تكن فى مصلحتهم؟.
…
ولماذا جعلهم الله يستسلمون لمجرد الإشارة، وهم المعرفون بالمراجعة والنقاش وكثرة السؤال؟.
(1) يقول فضيلة الدكتور موسى شاهين: "إدخال المعاملات الممنوعة شرعاً تحت هذا الحديث هو الذى لم نسمع به من قبل، ولم يسبق به الدكتور عبد المنعم النمر على مدى علمى، وأرجو ألا يتبعه فى ذلك أحد" أهـ ينظر: السنة والتشريع ص34.
.. ولماذا لم يتدارك الله هذا الاجتهاد بالتصحيح قبل أن تنتج شيصاً للمسلمين يسخر منه اليهود، وأعداء الإسلام حين يصح نخلهم، ويسوء نخل المسلمين بسبب مشورة نبيهم صلى الله عليه وسلم؟.
…
الجواب: عن ذلك فى محاولة تلمس حكمة لهذه القصة، فإن حصلت بها قناعة واطمئنان فالحمد لله، وإلا فنحن مؤمنون أرسخ الإيمان بأن لله عز وجل فى ذلك حكمة، وهو الحكيم الخبير. ولعل الحكمة فى ذلك تدور حول ثلاث أمور:
أولاً: صرف بلاء الأعداء عن المؤمنين الذين لم تقو شوكتهم بعد: ألم يكن هذا من الجائز أن يطمع الكافرون فى المدينة وتمرها، فيهاجموها من أجل نزول رسول الله صلى الله عليه وسلم فيها؟ فخروج التمر شيصاً جعلها غير مطمع، وصرف الله بذلك هجوم الكافرين حتى يستعد المؤمنون؟ احتمال.
ثانياً: تعليمهم الأخذ بأسباب الحياة بهذا الدرس العملى الذى كان قاسياً عليهم فتنافسوا بعده فى أسباب الحياة.
ثالثاً: اختبارهم فى صدق إيمانهم، فهذه القصة حتى اليوم فى هذا البحث ابتلاء واختبار، وقد نجح الصحابة رضى الله عنهم فى هذا الاختبار القاسى، وهم فى أول الإيمان، نجاحاً باهراً، فقد استمروا فى طاعة أوامره صلى الله عليه وسلم، ولم يرد إلينا ردة أحد بسببها، بل لم يرد عتاب أحد منهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم عليها رغم خسارتها، مما يشهد لهم بالإيمان الصادق المتين (1) ولعل تلك الحكمة الأخيرة هى أوجه الحكم فى هذه القصة. والله أعلم بحكمته أهـ.
وصلى الله وسلم وبارك على المعصوم
الهادى الأمين، ورزقنى الله حبه، ونصرته
(1) استفدت جل ما ورد فى نقض دليل أن السنة ليست كلها وحى من "السنة والتشريع" لفضيلة الدكتور موسى شاهين ص32 – 47 بتصرف. وينظر: للاستزادة، السنة تشريع لازم ودائم للدكتور فتحى عبد الكريم ص32، 33، والأنوار الكاشفة لعبد الرحمن اليمانى ص27 – 40، والمدخل إلى السنة للدكتور عبد المهدى عبد القادر ص37 – 39.
واتباعه، وشفاعته