الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ذِكْر أقضيته وأحكامه في النكاح وتوابعه
فصل
في حُكْمه في الثَّيِّب والبكر يزوِّجهما أبوهما
ثبت عنه في «الصَّحيحين»
(1)
وفي «السُّنن»
(2)
من حديث ابن عبَّاسٍ: «أنَّ جاريةً بكرًا أتت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فذكرَتْ له أنَّ أباها زوَّجها وهي كارهةٌ، فخيَّرها النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم» . وهذه غير خنساء، فهما قضيَّتان قضى في إحداهما بتخيير الثَّيِّب، وقضى في الأخرى بتخيير البكر.
(1)
البخاري (5138، 6945، 6969) من حديث خنساء، ولم يخرجه مسلم، وهو في السنن عدا الترمذي، ينظر «تحفة الأشراف»:(11/ 295).
(2)
أخرجه أبو داود (2096)، وابن ماجه (1875)، وقد أُعلَّ هذا الحديث بالإرسال، وبتفرد حسين بن محمد المروزي وجرير به، أما الإرسال: فرواه حماد بن زيد عن أيوب عن عكرمة مرسلًا، وخالفه جرير بن حازم فوصله، وهو ثقة، وقد تابعه الثوري، وزيد بن حبان؛ كما تابع حُسينًا سليمانُ بن حرب، فارتفع التفرُّد، وصحَّ الحديث. وقد قواه ابن القطان، وابن التركماني، والمصنف، والحافظ وقال في «الفتح»:(9/ 196): «الطعن في الحديث لا معنى له» . وفي الباب عن عائشة، وبريدة رضي الله عنهما.
ينظر «بيان الوهم والإيهام» : (2/ 250)، و «الجوهر النقي»:(7/ 117)، و «تهذيب السنن»:(3/ 40)، و «أعلام الموقعين»:(2/ 105)، و «صحيح أبي داود - الأم» (1827).
وثبت عنه في «الصَّحيح»
(1)
أنَّه قال: «لا تُنكَح البكر حتَّى تُستأذن» ، قالوا: يا رسول اللَّه، وكيف إذنها؟ قال:«أن تسكت» .
وفي «صحيح مسلم»
(2)
: «والبكر تُستأذن في نفسها، وإذنها صُماتها» .
وموجَب هذا الحكم أنَّه لا تُجبَر البكر البالغ على النِّكاح، ولا تُزوَّج إلا برضاها، وهذا قول جمهور السَّلف، ومذهب أبي حنيفة وأحمد في إحدى الرِّوايات
(3)
عنه
(4)
، وهو القول الذي ندينُ الله به، ولا نعتقد سواه، وهو الموافق لحكم رسول الله صلى الله عليه وسلم وأَمْره ونهيه، وقواعد شريعته، ومصالح أمَّته.
أمَّا موافقته لحكمه، فإنَّه حَكَم بتخيير البكر الكارهة، وليس رواية هذا الحديث مرسلةً بِعِلَّةٍ فيه، فإنَّه قد رُوي مسندًا ومرسلًا، فإن قلنا بقول الفقهاء: إنَّ الاتصال زيادةٌ، ومَن وصَلَه مقدَّمٌ على من أرسله، فظاهرٌ، وهذا تصرُّفهم في غالب الأحاديث، فما بال هذا خرج عن حُكْم أمثاله؟! وإن حكمنا بالإرسال كقول كثيرٍ من المحدِّثين، فهذا مرسلٌ قويٌّ قد عضَدَتْه الآثارُ الصَّحيحة الصَّريحة، والقياس، وقواعد الشَّرع، كما سنذكره، فيتعيَّن القول به.
وأمَّا موافقة هذا القول لأمره، فإنه قال:«والبكر تُستأذن» ، وهذا أمرٌ مؤكَّدٌ؛ لأنَّه ورد بصيغة الخبر الدَّالِّ على تحقُّق
(5)
المُخْبَر به وثبوتُه ولزومُه،
(1)
رواه البخاري (5136)، ومسلم (1419) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه .
(2)
حديث (1421) عن ابن عباس رضي الله عنهما -.
(3)
س، ي:«الروايتين» .
(4)
ينظر «التمهيد» : (19/ 78 - 83)، و «المغني»:(9/ 399)، و «مجموع الفتاوى»:(32/ 28 و 39)، و «فتح الباري»:(9/ 193).
(5)
في النسخ: «تحقيق» ، والمثبت من ط الهندية.
والأصل في أوامره أن تكون للوجوب ما لم يقم إجماعٌ على خلافه.
وأمَّا موافقته لنهيه، فلقوله:«لا تُنكَح البكر حتَّى تستأذن» فأمَرَ ونهى، وحَكَم بالتَّخيير، وهذا إثباتٌ للحكم بأبلغ الطُّرق.
وأمَّا موافقته لقواعد شرعه، فإنَّ البكر العاقلة البالغة
(1)
الرَّشيدة لا يتصرَّف أبوها في أقلِّ شيءٍ من مالها إلا برضاها، ولا يجبرها على إخراج اليسير منه بدون رضاها، فكيف يجوز أن يرقَّها، ويخرج بُضْعها منها بغير رضاها إلى من يريده هو، وهي مِن أكره النَّاس فيه، وهو من أبغضِ شيءٍ إليها؟ ومع هذا فينكحها إيَّاه
(2)
قهرًا بغير رضاها
(3)
، ويجعلها أسيرةً عنده، كما قال النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم:«اتَّقوا الله في النِّساء، فإنَّهنَّ عوانٍ عندكم»
(4)
أي: أسرى. ومعلومٌ أنَّ إخراج مالها كلِّه بغير رضاها أسهل عليها من تزويجها بمن لا تختاره بغير رضاها. ولقد أبطلَ مَن قال: إنَّها إذا عيَّنت كفوًا تحبُّه، وعيَّن
(1)
كذا في س، د، ي. وفي ز، ن:«البالغ العاقل» ، وفي ب، ث:«البالغ العاقلة» ، وفي المطبوع:«البالغة العاقلة» .
(2)
في النسخ: «أما» ولا وجه لها، والمثبت من ط الهندية.
(3)
بعده في المطبوع: «إلى من يريده» ولا وجود لها في النسخ، والمعنى بدونها مستقيم.
(4)
أخرجه بهذا اللفظ أحمد في «المسند» (20695) من حديث أبي حُرَّة الرَّقاشي، عن عمه، وفيه علي بن زيد بن جُدعان وهو ضعيف، وأبو حرة وثقه أبو داود وضعَّفه غيره، ينظر «مجمع الزوائد»:(3/ 266). وأخرجه بنحوه الترمذي (1163، 3087)، وابن ماجه (1851)، من حديث عمرو بن الأحوص، وفي سنده مجهول، ويشهد له ما قبله، قال الترمذي:«حسن صحيح» ، وهو عند مسلم (1218) من حديث جابر الطويل، دون قوله:«فإنهن عوان عندكم» . ينظر: «الإرواء» (1997، 2030، 2156).
أبوها كفوًا، فالعبرة بتعيينه ولو كان بغيضًا لها قبيحَ الخلقة.
وأمَّا موافقته لمصالح الأمَّة، فلا تخفى مصلحةُ البنت
(1)
في تزويجها بمن تختاره وترضاه، وحصول مقاصد النِّكاح لها به، وحصول ضدِّ ذلك بمن تبغضه وتنفر عنه، فلو لم تأتِ السُّنَّة الصحيحة الصَّريحة بهذا القول لكان القياسُ الصَّحيح وقواعدُ الشَّريعة لا تقتضي غيرَه، وباللَّه التَّوفيق.
فإن قيل: فقد حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم بالفرق بين البكر والثَّيِّب، وقال:«لا تُنْكَح الأيِّمُ حتَّى تستأمر، ولا تُنْكَح البكر حتَّى تُستأذن»
(2)
، وقال:«الأيِّم أحقُّ بنفسها مِن وليِّها والبكر يستأذنها أبوها»
(3)
، فجعل الأيِّمَ أحقَّ بنفسها من وليِّها، فعُلِم أنَّ وليَّ البكر أحقُّ بها من نفسها، وإلَّا لم يكن لتخصيص الأيِّم بذلك معنًى.
وأيضًا فإنَّه فرَّق بينهما في صفة الإذن، فجعل إذن الثَّيِّب النُّطق، وإذن البكر الصَّمت، وهذا كلُّه يدلُّ على عدم اعتبار رضاها، وأنَّها لا حقَّ لها مع أبيها.
فالجواب: أنَّه ليس في ذلك ما يدلُّ على جواز تزويجها بغير رضاها مع بلوغها وعقلها ورُشْدها، وأن يزوِّجها بأبغض الخلق إليها إذا كان كفؤًا، والأحاديث التي احتججتم بها صريحةٌ في إبطال هذا القول، وليس معكم أقوى من قوله:«الأيِّم أحقُّ بنفسها مِن وليِّها» وهذا إنَّما يدلُّ بطريق المفهوم،
(1)
في ث، ب:«الثيّب» .
(2)
سبق تخريجه عند الشيخين، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه .
(3)
أخرجه مسلم (1421) من حديث ابن عباس رضي الله عنهما -.
ومنازعوكم ينازعونكم في كونه حجَّةً، ولو سُلِّم أنَّه حجَّةٌ فلا يجوز تقديمه على المنطوق الصَّريح، وأيضًا فهذا إنَّما يدلُّ إذا قلت: إنَّ للمفهوم عمومًا، والصَّواب أنَّه لا عموم له، إذ دلالته ترجع إلى أنَّ التَّخصيص بالمذكور لا بدَّ له من فائدةٍ، وهي نفي الحكم عمَّا عداه، ومعلومٌ أنَّ انقسام ما عداه إلى ثابت الحكم ومنتفيه فائدةٌ، وأنَّ إثبات حكمٍ آخر للمسكوت عنه فائدةٌ وإن لم يكن ضدَّ حكم المنطوق، وأنَّ تفصيله فائدةٌ، كيف وهذا مفهومٌ مخالفٌ للقياس الصَّريح، بل قياس الأولى كما تقدَّم، ويخالف النُّصوص المذكورة؟
وتأمَّل قوله صلى الله عليه وسلم: «والبكر يستأذنها أبوها» عقيب قوله: «الأيِّم أحقُّ بنفسها من وليِّها» قطعًا لتوهُّم هذا القول، وأنَّ البكر تُزَوَّج بغير رضاها ولا إذنها، ولا حقَّ لها في نفسها البتَّة، فوصل إحدى الجملتين بالأخرى دفعًا لهذا التَّوهُّم. ومن المعلوم أنَّه لا يلزم من كون الثَّيِّب أحقَّ بنفسها من وليِّها أن لا يكون للبكر في نفسها حقٌّ البتَّة.
وقد اختلف الفقهاء في مناط الإجبار على ستَّة أقوالٍ
(1)
.
أحدها: أنَّه يجبر بالبكارة، وهو قول الشَّافعيِّ ومالك وأحمد في روايةٍ.
الثَّاني: أنَّه يجبر بالصِّغر، وهو قول أبي حنيفة، وأحمد في الرِّواية الثَّانية.
الثَّالث: أنَّه يجبر بهما معًا، وهو الرِّواية الثَّالثة عن أحمد.
الرَّابع: أنَّه يجبر بأيِّهما وُجِد، وهو الرِّواية الرَّابعة عنه.
(1)
ينظر «المغني» : (9/ 399)، و «نهاية المطلب»:(12/ 42 - 43)، و «روضة الطالبين»:(7/ 53 - 54)، و «مجموع الفتاوى»:(32/ 22 - 28)، و «عقد الجواهر الثمينة»:(2/ 81 - 82).
الخامس: أنَّه يجبر بالإيلاد، فتجبر الثَّيِّب البالغ، حكاه القاضي إسماعيل عن الحسن البصريِّ، قال: وهو خلاف الإجماع. قال: وله وجهٌ حسنٌ من الفقه، فيا ليتَ شِعْري ما هذا الوجه الأسود المظلم
(1)
؟!
السَّادس: أنَّه يجبر مَن يكون في عياله.
ولا يخفى عليك الرَّاجح من هذه المذاهب. والله أعلم.
فصل
وقضى صلى الله عليه وسلم بأنَّ إذن البكر الصُّمات، وإذن الثَّيِّب الكلام، فإن نطقت البكر بالإذن فهو آكد، وقال ابن حزمٍ: لا يصحُّ أن تُزَوَّج إلا بالصُّمات، وهذا هو اللَّائق بظاهريَّته.
فصل
وقضى أنَّ اليتيمة
(2)
تُستأمر في نفسها، ولا يُتْم بعد احتلامٍ
(3)
، فدلَّ ذلك
(1)
في هامش ن تعليق نصه: «ولعله أن يقال: المقصود بالنكاح التناسل والولادة، فتخيّر حتى تلد، ومتى ولدت فقد حصل المقصود فلا تخيّر بعده» .
(2)
ن: «البنت» !
(3)
أخرجه أبو داود (2873) من حديث علي بن أبي طالب رضي الله عنه. وضعف سندَه العقيليُّ وعبد الحق وابنُ القطان والمنذريُّ وغيرهم؛ لجهالة عبد الله بن خالد بن سعيد، وأبيه، وفيه يحيى بن محمد المديني، وهو صدوق يخطئ؛ وللحديث طرق أخرى ضعيفة، ويشهد له حديث حنظلة بن حنيفة عن جده بسند حسن، وحديث جابر، وأنس بن مالك رضي الله عنهما، ولا يثبتان. وقد حسنه النووي، وابن الملقن، وصححه الألباني بشواهده. ينظر «البدر المنير»:(7/ 320)، و «التلخيص»:(3/ 220)، و «الإرواء» (1244).