الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وغيرها عند الجمهور، إلا الشَّافعيَّ وحده، فإنه
(1)
أوجب في تحريم الأَمة خاصَّةً كفَّارةَ اليمين، إذ التَّحريم له تأثيرٌ في الأبضاع عنده دون غيرها. وأيضًا فإنَّ سبب نزول الآية تحريم الجارية، فلا يَخرجُ محلُّ السَّبب عن الحكم ويتعلَّق بغيره.
ومنازعوه يقولون: النَّصُّ علَّق فرْضَ تحلَّة اليمين بتحريم الحلال، وهو أعمُّ من تحريم الأمة وغيرها، فتجب الكفَّارة حيث وُجِد سببها، وقد تقدَّم تقريره. والله أعلم.
حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم في قول الرجل لأمرته: الْحقي بأهلِكِ
ثبت في «صحيح البخاريِّ»
(2)
: أنَّ ابنة الجَوْن لمَّا دخلتْ على رسول الله صلى الله عليه وسلم ودنا منها قالت: أعوذ بالله منك، فقال لها
(3)
: «عُذْتِ بعظيمٍ، الْحَقِي بأهلك» .
وثبت في «الصَّحيحين»
(4)
: أنَّ كعب بن مالكٍ لمَّا أتاه رسول رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمره أن يعتزل امرأته قال لها: الْحَقِي بأهلكِ.
فاختلف النَّاس في هذا، فقالت طائفةٌ: ليس هذا بطلاقٍ، ولا يقع به الطَّلاق، نواه أو لم ينْوِه، وهذا قول أهل الظَّاهر
(5)
.
(1)
«فإنه» ليست في المطبوع.
(2)
برقم (5254) من حديث عائشة رضي الله عنها.
(3)
«لها» ليست في المطبوع.
(4)
أخرجه البخاري في مواضع منها (4418)، ومسلم (2769) من حديث كعب بن مالك، في قصة براءته.
(5)
انظر: «المحلى» (10/ 187).
قالوا: والنَّبيُّ صلى الله عليه وسلم لم يكن عَقدَ على ابنةِ الجَوْن، وإنَّما أرسل إليها ليخطبها.
قالوا: ويدلُّ على ذلك ما في «صحيح البخاريِّ»
(1)
من حديث حمزة بن أبي
(2)
أُسَيد عن أبيه، أنَّه كان مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد أُتِي بالجَونيَّة، فأُنزِلتْ في بيت أُميمة بنتِ النعمان بن شَراحيل في نخلٍ، ومعها دَايَتُها
(3)
، فدخل عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال:«هَبِي لي نفسَكِ» ، فقالت: وهل تَهَبُ المَلِكةُ نفسَها للسُّوقة؟ فأهوى ليضعَ يدَه عليها لتَسْكُن، فقالت: أعوذ بالله منك، فقال:«قد عُذْتِ بمعاذٍ» ، ثمَّ خرج فقال: «يا أبا أُسَيد، اكْسُها رَازِقيَّينِ
(4)
، وأَلْحِقْها بأهلها».
وفي «صحيح مسلم»
(5)
عن سهل بن سعدٍ قال: ذكرتُ لرسول الله صلى الله عليه وسلم امرأةً من العرب، فأمر أبا أُسَيد أن يرسل إليها، فأَرسل إليها، فقَدِمتْ، فنزلتْ في أُجُمِ
(6)
بني ساعدة، فدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم عليها
(7)
، فلمَّا كلَّمها قالت:
(1)
برقم (5255).
(2)
«أبي» ساقطة من د.
(3)
في المطبوع: «دابتها» ، تحريف، والمثبت من النسخ موافق لما عند البخاري:«ومعها دَايتُها حاضِنةٌ لها» .
(4)
الرازقية: ثياب من كتّان بيض طوال، يكون في داخل بياضها زرقة. انظر:«فتح الباري» (9/ 359).
(5)
برقم (2007).
(6)
هو الحصن.
(7)
في المطبوع: «فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى جاءها دخل عليها، فإذا امرأة منكسة رأسها» ، والمثبت من النسخ.
أعوذ بالله منك، قال:«قد أَعذتُكِ منِّي» ، فقالوا لها: أتدرينَ من هذا؟ قالت: لا، قالوا: هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم، جاءكِ ليخطبكِ، قالت: أنا كنتُ أشقى من ذلك.
قالوا: وهذه كلُّها أخبارٌ عن قصَّةٍ واحدةٍ في امرأةٍ واحدةٍ في مقامٍ واحدٍ، وهي صريحةٌ أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكن تزوَّجها بعدُ، وإنَّما دخل عليها ليخطبها.
وقال الجمهور ــ منهم الأئمَّة الأربعة وغيرهم ــ: بل هذا من ألفاظ الطَّلاق إذا نوى به الطَّلاق، وقد ثبت في «صحيح البخاريِّ»
(1)
أنَّ أبانا إسماعيل بن إبراهيم طلَّق به امرأته لمَّا قال لها إبراهيم: مُرِيْهِ فلْيغيِّر عَتَبةَ بابه، فقال: أنتِ العَتَبة، وقد أمرني أن أفارقكِ، الْحَقِي بأهلك.
وحديث عائشة كالصَّريح في أنَّه صلى الله عليه وسلم كان عقدَ عليها، فإنَّها قالتْ لمَّا أُدخِلتْ عليه، فهذا دخول الزَّوج بأهله. ويُؤكِّده قولها: ودنا منها.
وأمَّا حديث أبي أُسَيد، فغاية ما فيه قوله:«هَبِي لي نفسَكِ» ، وهذا لا يدلُّ على أنَّه لم يتقدَّم نكاحه لها، وجاز أن يكون هذا استدعاءً منه صلى الله عليه وسلم للدُّخول لا للعقد.
وأمَّا حديث سهل بن سعدٍ، فهو أصرحُها في أنَّه لم يكن وُجِد عقدٌ
(2)
، فإنَّ فيه أنَّه صلى الله عليه وسلم لمَّا جاء إليها قالوا: هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم جاء ليخطبكِ، والظَّاهر أنَّها هي الجَوْنيَّة؛ لأنَّ سهلًا قال في حديثه: فأمر أبا أُسيد أن يُرسِل إليها،
(1)
برقم (3364) من حديث ابن عباس رضي الله عنهما -.
(2)
م: «في عقد» .
فأرسل إليها
(1)
.
فالقصَّة واحدةٌ
(2)
، دارت على عائشة وأبي أُسَيد وسَهل، فكلٌّ منهم رواها، وألفاظهم فيها متقاربةٌ، ويبقى التَّعارض بين قوله:«جاء ليخطبكِ» ، وبين قوله:«فلمَّا دخل عليها ودنا منها» ، فإمَّا أن يكون أحد اللَّفظين وهمًا، أو الدُّخول ليس دخول الرَّجل على امرأته، بل الدُّخول العامُّ، وهذا محتملٌ.
وحديث ابن عبَّاسٍ في قصَّة إسماعيل صريحٌ، ولم يزل هذا اللَّفظ من الألفاظ التي يُطلَّق بها في الجاهليَّة والإسلام، ولم يُغيِّره النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم، بل أقرَّهم عليه. وقد أوقع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم الطَّلاق ــ وهم القدوة ــ بـ: أنتِ حرامٌ، وأمركِ بيدك، واختارِي، ووهبتُكِ لأهلكِ، وأنتِ خليَّةٌ، وقد خَلوتِ منِّي، وأنتِ بريَّةٌ، وقد بَارَأْتُكِ
(3)
، وأنتِ مُبرَّأةٌ، وحبلكِ على غاربكِ، وأنتِ الحَرَجُ.
فقال علي وابن عمر
(4)
: الخليَّة ثلاثٌ. وقال عمر
(5)
: واحدةٌ وهو أحقُّ
(1)
«فأرسل إليها» ليست في د.
(2)
انظر الكلام على أنها قصة واحدة أو متعددة في «فتح الباري» (9/ 358، 359).
(3)
كذا في النسخ. وفي المطبوع: «أبرأتك» .
(4)
سبق تخريجه.
(5)
أخرجه سعيد بن منصور (1664، 1670) من طريق عبد الله بن شداد بن الهاد عن عمر: البتَّة واحدة، وهو أحق بها، وسنده صحيح. وأخرجه عبد الرزاق (11176)، والبيهقي (15404)، وابن أبي شيبة (18455) من طريق إبراهيم النخعي عن عمر في الخلية، والبرية، والبتة، والبائنة:«هي واحدة، وهو أحق بها» ، وسنده ضعيف للانقطاع؛ إبراهيم لم يدرك عمر.
بها. وفرَّق معاوية بين رجلٍ وامرأته قال لها: إن خرجتِ فأنتِ خليَّةٌ
(1)
. وقال علي وابن عمر وزيد في البريَّة: إنَّها ثلاثٌ
(2)
. وقال عمر: هي واحدةٌ وهو أحقُّ بها
(3)
. وقال علي في الحرج: هي ثلاثٌ
(4)
. وقال عمر: واحدةٌ
(5)
. وقد تقدَّم ذكر أقوالهم في «أمركِ بيدكِ» و «أنتِ حرامٌ» .
واللَّه سبحانه ذكر الطَّلاق ولم يُعيِّن له لفظًا، فعُلِم أنَّه ردَّ النَّاس إلى ما يتعارفونه طلاقًا، فأيُّ لفظٍ جرى عُرْفُهم به وقع به الطَّلاق مع النِّيَّة.
والألفاظ لا تُراد لعينها، بل
(6)
للدَّلالة على مقاصد لافظِها، فإذا تكلَّم بلفظٍ دالٍّ على معنًى، وقصد به ذلك المعنى= ترتَّب عليه حكمه، ولهذا يقع الطَّلاق من العجميِّ والتُّركيِّ والهنديِّ بألسنتهم، بل لو طلَّق أحدهم بصريح
(1)
ذكره ابن حزم في «المحلى» (10/ 193) من طريق حماد بن سلمة عن مروان الأصفر عنه. ورجاله ثقات.
(2)
أما أثر ابن عمر وعلي فقد سبق تخريجه، وأما أثرُ زيدٍ فأخرجه البيهقي في «الكبرى» (7/ 344) من طريق سعيد بن هشام، وسنده لا بأس به؛ فيه عمر بن عامر البصري قال ابن عدي: شيخ صالح، وقال النسائي: ليس بالقوي. وأخرجه ابن أبي شيبة (18454، 18473، 18480) من طريق سعيد عن قتادة أن زيد بن ثابت كان يقول: في البتة والبرية والبائنة ثلاث، وسنده ضعيف؛ قتادة لم يدرك زيدًا.
(3)
سبق تخريجه قريبًا.
(4)
أخرجه ابن أبي شيبة (18175) من طريق خلاس وأبي حسان، وسنده صحيح، وصححه ابن حزم في «المحلى» (10/ 194)، وأخرجه عبد الرزاق (11209) من طريق قتادة عنه، وسنده ضعيف؛ قتادة لم يدرك عليًّا.
(5)
حكاه عنه ابن حزم في «المحلى» (10/ 194) دون إسناد.
(6)
«بل» ليست في د.
الطَّلاق بالعربيَّة، ولم يفهم معناه لم يقع به شيءٌ قطعًا، فإنَّه تكلَّم بما لا يفهم معناه ولا قَصَدَه. وقد دلَّ حديث كعب بن مالكٍ على أنَّ الطَّلاق لا يقع بهذا اللَّفظ وأمثالِه إلا بالنِّيَّة.
والصَّواب أنَّ ذلك جارٍ في سائر الألفاظ صريحِها وكنايتِها، ولا فرقَ بين ألفاظ العتق والطَّلاق، فلو قال: غلامي غلامٌ حرٌّ لا يأتي الفواحش، أو أَمتي أمةٌ حرَّةٌ لا تَبغِي الفجور، ولم يخطُر بباله العتقُ ولا نواه= لم يَعتِقْ بذلك قطعًا. وكذلك لو كانت معه امرأته في طريقٍ فافترقا، فقيل له: أين امرأتك؟ فقال: فارقتُها، أو سَرَّح شعرها وقال: سَرَّحتُها ولم يُرِد طلاقًا= لم تطلق. وكذلك إذا ضربَها الطَّلْقُ
(1)
وقال لغيره إخبارًا عنها بذلك: إنَّها طالقٌ= لم تطلقْ بذلك. وكذلك إذا كانت المرأة في وثاقٍ فأُطلِقت منه، فقال لها: أنتِ طالقٌ، وأراد من الوثاق
(2)
.
هذا كلُّه مذهب مالك وأحمد في بعض هذه الصُّور، وبعضها نظير ما نصَّ عليه، ولا يقع الطَّلاق حتَّى ينويه ويأتي بلفظٍ دالٍّ عليه، فلو انفرد أحد الأمرين عن الآخر لم يقع الطَّلاق ولا العتاق. وتقسيم الألفاظ إلى صريحٍ وكنايةٍ وإن كان تقسيمًا صحيحًا في أصل الوضع، لكن يختلف باختلاف الأشخاص والأزمنة والأمكنة، فليس حكمًا ثابتًا للَّفظ لذاته، فربَّ لفظٍ صريحٍ عند قومٍ كنايةٌ عند آخرين، أو صريحٌ في زمانٍ ومكانٍ كنايةٌ في غير ذلك المكان والزَّمان، والواقع شاهدٌ بذلك، فهذا لفظ «السَّراح» لا يكاد أحدٌ يستعمله في الطَّلاق لا صريحًا ولا كنايةً، فلا يَسُوغُ أن يقال: إنَّ من تكلَّم به
(1)
وجع الولادة.
(2)
تقدم مثل هذا في (3/ 735).
لزِمَه طلاقُ امرأته نواه أو لم ينوِه، ويُدَّعَى أنَّه ثبت
(1)
له عرف الشَّرع والاستعمال، فإنَّ هذه دعوى باطلةٌ شرعًا واستعمالًا: أمَّا الاستعمال فلا يكاد أحدٌ
(2)
يطلِّق به البتَّة، وأمَّا الشَّرع فقد استعمله في غير الطَّلاق، كقوله تعالى:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا فَمَتِّعُوهُنَّ وَسَرِّحُوهُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا} [الأحزاب: 49]، فهذا السَّراح غير الطَّلاق قطعًا.
وكذلك «الفراق» ، استعمله الشَّرع في غير الطَّلاق، كقوله تعالى:{يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} إلى قوله: {فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ} [الطلاق:1 - 2]، فالإمساك هنا: الرَّجعة، والمفارقة: تركُ الرَّجعة لا إنشاء طلقةٍ ثانيةٍ، هذا ما لا خلافَ فيه البتَّةَ، فلا يجوز أن يقال: إنَّ من تكلَّم به طلقتْ زوجتُه، فَهِمَ معناه أو لم يفهمه، وكلاهما في البطلان سواءٌ، وباللَّه التَّوفيق.
(1)
د، ص:«يثبت» .
(2)
«أحد» ليست في م.